الشهيد الصدر قدس سره ومعالم مدرسته
من عظماء الإسلام
الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره علم من أعلام الهداية وشمس ساطعة بأنوار المعارف والعلوم حباه اللَّه تعالى وخصّه بخصائص ندر وجودها في غيره سواء في حقول العلم أو مدارج الأخلاق أو ساحات الجهاد والوقوف بوجه الظالمين.
عدد الزوار: 75
أ- من عظماء الإسلام:
الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر قدس سره علم من أعلام الهداية وشمس ساطعة بأنوار المعارف والعلوم حباه اللَّه تعالى وخصّه بخصائص ندر وجودها في غيره سواء في حقول العلم أو مدارج الأخلاق أو ساحات الجهاد والوقوف بوجه الظالمين.
فكلما نظرت إليه وقرأت تاريخه وأبحرت في سيرة حياته وجدت مشروع الإمام الخميني قدس سره حاضراً فيه مجسداً في كل تفاصيل وجوده فإن كان هناك عالم يستحق أن يحمل اسم (الخميني الثاني) في زمن حياة السيد الشهيد قدس سره فهو ليس غيره وهكذا كان المأمول والمنتظر منه.
وهو الذي ارتقى في إخلاصه إلى حدٍ يوجب عليك الانحناء أمام عظمة شخصيته.
وما الحديث عنه إلا عبارة عن جزء من الوفاء له ولأمثاله من علمائنا المقدسين الذين استنارت بعلومهم سماء المعرفة والعلم وعمرت بأعمالهم وفضائلهم ميادين العمل والجهاد على مدى الأزمان والعصور.
وها هي الافاق سطّرت اسمه حيث ملأ أرجاءها بما امتازت به حياته في كل محطاتها وتفاصيلها بترجمة الرسالة الإلهية التي حملها في كل مفردة من مفردات العمر ابتداءً من شؤونه البيتية ومروراً بالمرجعية العامة وقيادة المظلومين وانتهاءً بوسام الشهادة فكان القدوة التي طالما اشتاق وتحرّق للانطواء تحت لوائها أهل الحق والأباة والأحرار.
ب- نشأته ونبوغه:
نشأ السيد الصدر قدس سره في النجف الأشرف ولم يكتمل له من العمر عشرون سنة حتى بلغ درجة الاجتهاد.
امتاز الإمام الشهيد منذ صباه مع عبقريته الفذة وذكائه المفرط بالجرأة والشجاعة الأدبية.
تفوَّق الإمام الشهيد قدس سره على أقرانه فصرف إليه أنظار معلميه ورفاقه بل اشتهر اسمه خارج المدرسة ليكون المثل والقدوة وقد حال خلقه الرفيع وهدوءه ووداعته وودّه دون أن يبغضه أحد ويظهر له العداوة.
ولشدة ذكائه كان كثيراً ما يُشكل على معلميه بشكلٍ لا يتصور أنه يصدر من طفل في المرحلة الابتدائية بل في صفوفها الأولى، حتى أنه أشكل يوماً على معلم التربية الإسلامية الذي أثبت وجود الخالق بأدلة قرانية فقط فقال له الإمام الصدر قدس سره: إن هذه الأدلة لا تلزم إلا من امن بالقران فتصور أنني لا أؤمن بالقران.
ج- أخلاقية الأبوّة:
كان السيد الشهيد قلباً واسعاً يحتضن الجميع ويحمل همّ الجميع ويتفقد الجميع ويخدم الجميع، ويتحسس الام الجميع...
من مواقفه المسجّلة في هذا السياق، أنَّه كان يُقدِّم أفضل ما لديه من طعام إلى خادمه بحيث كان المقربون يغبطون هذا (الخادم الأخ) على حظوته في خدمة هذا العالم الرباني الجليل ويتمنى الكثيرون أن يكونوا مكانه في خدمته رضي اللَّه عنه.
في إحدى المرات جاءه أحد أفراد الأمن البعثي معتذراً، وكان هو الذي كبّل يديه عند اعتقاله، فما كان من جواب السيد الشهيد إلاّ أن قال له: "إن الابن قد يُسيء، ولكنّ الأب يجب أن يبقى أباً لأولاده، وتبقى أبوّته محفوظة لهم".
كان يُعطي قسطاً كبيراً من وقته الثمين لكلّ أصناف الناس، حتى للأطفال الصغار، وشوهد يوماً وهو يتحدّث إلى طفلٍ لم يتجاوز الثالثة عشرة أكثر من ساعتين في المسجد.
وخلاصة مشكلة هذا الطفل الشابّ أنه كان يعاني من معارضة والديه له لتديّنه والتزامه وعدم تديّنهما أو التزامهما، وكان السيد يُشير إليه بأفضل الطرق على برّهما والتعامل معهما، ويحثّه على الاستقامة والثبات لعلّ اللَّه تعالى يكتب على يديه هدايتهما.
د- شجاعة الموقف:
أما شجاعته فهي مما ورثه الإمام الشهيد قدس سره عن أجداده الطاهرين عليهم السلام فتجده لا يعبأ في مقارعة الظالمين بقسوتهم وشدة بطشهم وفتكهم ولا يخاف ما يؤول إليه مصيره ما دام ذلك في ذات اللَّه وفي مرضاته وفي سبيل اعلاء كلمته ففي الظروف الحرجة التي تَعُزُّ فيها النفس يبادر السيد الصدر للتضحية ويسترخص النفس، وفي اليوم الذي تبلغ القلوب الحناجر ويلوذ الجميع بالصمت مخافة بطش الحاكمين يقف الشهيد مستنكراً الظلم ويتحدى جلاوزة الظالمين، فيوم كان المدّ الأحمر يغزو الشارع العراقي يفتك بكل من يعارض يتصدى الشهيد الصدر قدس سره للردّ على الأفكار الالحادية بكل موضوعية وفي الوقت الذي يخشى أن يصادر الكتاب وهو في طريقه إلى المطبعة.
ولما طُلب من السيد الشهيد قدس سره إدانة الثورة الإسلامية والتعرض بسوء لشخص قائدها الإمام الخميني قدس سره قال السيد الشهيد مخاطباً ضابط الأمن "لقد كان هدفي وأمنيتي في حياتي تأسيس حكومة إسلامية والان وقد تأسست في إيران وتحققت أمنيتي فكيف أقول شيئاً ضدها؟".
وعندما قال له الضابط بأنه سيُعدم قال له السيد الشهيد: "إذا كنت مأموراً بتنفيذ حكم الاعدام فنفذه الان وأنا انتظر الاعدام منذ فترة والشهادة طريق ابائي وأجدادي فما كان من ضابط الأمن إلا أن بكى وقبَّل يد السيد الشهيد".
هـ- معالم مدرسته:
كان الشهيد قدس سره طموحاً بعيد النظر، قوي العزيمة، وهذا ما جعله مدرسة خاصة متميزة قل نظيرها.
وإن جلّ كتابات وبحوث الإمام الشهيد قدس سره وليدة الحاجة والضرورة فهو يعنى بما يفتقر إليه المجتمع من الغذاء الفكري فيبادر إلى اشباع هذه الحاجة.
وكان السيد الشهيد قدس سره مجدداً في طريقة التفكير، فهو لا يأخذ عمن سبقه من العلماء، بل يعمل على الإضافة إليه، وهو مجدد في المنهجية، كذلك وشديد الإحاطة بكافة العلوم ودقيق في تناولها، ويتميز بشموليته وجرأته في المجالين العلمي
والعملي، وقد تميزت مدرسته بتخريج مجموعة مميزة من العلماء الأفذاذ الذين لا يزالون يغنون الحوزة بأبحاثهم.
و- علاقة الشهيد الصدر بالإمام الخميني قدس سره والثورة الإسلامية:
ترجع صلة الإمام الشهيد بالثورة الإسلامية في إيران إلى 16 سنة قبل انتصارها.
ينقل تلاميذه المقربون نماذج من العلاقة بينه وبين قائد الثورة الإمام الخميني قدس سره وتبادل وجهات النظر معه في مراحل مختلفة من هذه الثورة المباركة.
وواكب الشهيد السعيد أحداث الثورة بعد الانتصار واستلام السلطة، وأرسل إلى قيادة الثورة ستة بحوث من الفقه السياسي التطبيقي الحديث الذي تحتاجه التجربة الإسلامية الوليدة. وكان البحث الأول حول مشروع دستور الجمهورية الإسلامية الذي استُفيد منه لصالح الدستور الحالي والمطبّق في إيران.
وأرسل إلى الإمام الخميني قدس سره رسالة تجسِّد علاقته به: "... تلقيت برقيتكم الكريمة التي جسدت أبوتكم ورعايتكم الروحية للنجف الأشرف الذي لا يزال منذ فارقكم يعيش انتصاراتكم العظيمة، وإني استمد من توجيهكم الشريف نفحة روحية، كما أشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الأشرف وأود أن أعبر لكم بهذه المناسبة عن تحيات الملايين من المسلمين والمؤمنين في عراقنا العزيز الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد على يدكم ضوءاً هادياً للعالم كله".
ز- السيد الصدر يرتفع شهيداً:
في السنوات الأخيرة صعّد السيد الصدر من نشاطه في صفوف أبناء الأمة الإسلامية خُصوصاً الشباب المثقف والجامعي وانتشر وكلاؤه في معظم المناطق بالشكل الذي تسمح به الظروف الداخلية لشؤون المرجعية وهذا ما سبَّب القلق المتزايد للنظام تجاه السيد الصدر فكثّفت عمليات المراقبة لداره والمرتبطين به. وقام النظام بعمليات اعتقال واسعة شملت الالاف من أبناء الشعب العراقي واختنق العراق بالإرهاب اللامتناهي وطاردت السلطات كل من عرف عنه التدين واعتقل السيد الصدر قدس سره،
وظل القلق يساور النظام الحاكم في بغداد ثم تم الافراج عنه ورفع الإقامة الجبرية لأسبوع، وفي 5-4-1980 تمّ استدعاؤه إلى بغداد لينفذ فيه حكم الاعدام وذلك في الثامن أو التاسع من شهر نيسان 1980م مع أخته الفاضلة الشهيدة بنت الهدى دون محاكمة ولو صورية ودون تعليق رسمي أو شبه رسمي ثم تعود جنازتهما ليضجع الشهيد الصدر وأخته الطاهرة ويبقى العراق بعده يعاني الالام والمحن.
وقد عبّر الإمام الخميني قدس سره عن تأثره فقال: "لا عجب لشهادة هؤلاء العظماء، الذين أمضوا عمراً من الجهاد في سبيل الأهداف الإسلامية،... ولا عجب أن ينال الشهادة المرحوم السيد الصدر وشقيقته المظلومة، وها أنا أعلن الحداد العام لمدة ثلاثة أيام... وذلك تكريماً لهذه الشخصية العلمية، ولهذا المجاهد الذي كان من مفاخر الحوزات العلمية، ومن مراجع ومفكري المسلمين، وأرجو اللَّه تعالى أن يعوّضنا عن هذه الخسارة الكبرى، والعظيمة، عزّ الإسلام والمسلمين...".
هكذا شاءت إرادة اللَّه تعالى أن تُسقى شجرة الإسلام بدم هذا المفكر الثائر، ليبقى هذا الدم الزاكي، عنواناً عظيماً لكل عشاق الحق والعدل والحرية، ورمزاً ساطعاً لاستقطاب كلّ الأحرار والثوار في طريق الثورة الطويل وعلى درب الإسلام المحمدي الأصيل...
*من عظماء الاسلام، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، أيار 2003م، ص109-116.