العلامة الطباطبائي قدس سره والتواضع الدائم
من عظماء الإسلام
لا شك في أن أحد أهم الصفات وأسماها هو التواضع وبذلك يعلو الإنسان ويسمو كلما تحلّى بهذا الخلق العظيم، والتواضع رأس الحكمة وفيما قاله أمير المؤمنين عليه السلام: "فلو أرخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر ورضي لهم التواضع فألصقوا بالأرض خدودهم وعفروا في التراب وجوههم وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين"2.
عدد الزوار: 127
أ- من عظماء الإسلام:
يقول تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِين﴾1.
لا شك في أن أحد أهم الصفات وأسماها هو التواضع وبذلك يعلو الإنسان ويسمو كلما تحلّى بهذا الخلق العظيم، والتواضع رأس الحكمة وفيما قاله أمير المؤمنين عليه السلام: "فلو أرخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه ولكنه سبحانه كره إليهم التكابر ورضي لهم التواضع فألصقوا بالأرض خدودهم وعفروا في التراب وجوههم وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين"2.
ومن أولئك الذين كانوا اية في التواضع إضافة إلى الملكات الأخلاقية والعلمية الأخرى سيدنا العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان أعلى الله مقامه وسوف نسلّط الضوء على هذا الجانب في حياته الشريفة حيث أن العظماء والأولياء يعرفون بجانبين:
الأول: علمهم.
والثاني: عملهم وليست تواريخ الولادة والوفاة والابتداء بالدراسة أو غيرها مما لها دخل في مقصودنا هنا بل محلها في كتب التراجم.
فتعالَ معي لنسمع من تلامذته الذين تربوا على يديه سيرته العطرة التي تفوح مع كل صباح بشذى الإيمان والعرفان.
ب- منذ ثلاثين سنة لم يقل (أنا):
يتحدث عنه أحد المقرّبين: "طوال ثلاثين سنة كان لي فيها شرف الاتصال به لم أسمع منه أبداً كلمة "أنا" وفي المقابل سمعت منه مراراً عبارة "لا أعلم" في الإجابة على
الأسئلة.. كان بحر العلم والحكمة المتلاطم الموج يقولها من فرط التواضع بسهولة والملفت أنه بعد ذلك كان يجيب على السؤال على صورة احتمال أو بعبارة "يبدو لي".
أتذكر أن شخصاً مضيء القلب كان يقول في محضره همساً وعيناه مغرورقتان: "أتعجب كيف أن الأرض تستطيع أن تتحمل ثقل رجال من هذا النوع"3.
منذ حوالي ثلاثين سنة وأنا على صلة بالعلامة الطباطبائي أشترك في درسه وأستفيد من جلساته الخاصة ليالي الخميس والجمعة بمقدار إمكاني.. لا أتذكر أنه ولو مرة واحدة طوال هذه المدة غضب أو صرخ في وجه طلابه أو أنه أجرى على لسانه كلمة حادة تتضمن إهانة لأحد، كان يدرس بكل هدوء ومتانة ولم يكن ينفعل أبداً وكان سريع الألفة والانسجام مع الأشخاص.. كان ذلك أدبه مع الجميع حتى أصغر الطلاب.. كأن يألفهم وكأنهم من أصدقائه الخلص.. كان يصغي لكلام الجميع ويعطف عليهم.. كان متواضعاً جداً لم أره أبداً يفتخر بنفسه أو يمدحها، لم يكن يبخل بالعلم، كان يقدم أدق المطالب العلمية وبكل بساطة إلى الاخرين مع أنها أحياناً قد تكون من ابتكاراته ودون أن يثني على نفسه ويقول لم يسبقني إليه أحد!
كان حريصاً على بذل العلم لم يكن يترك سؤالاً دون جواب وكان يجيب السائل بمستوى إدراكه كان يقدم المطالب العلمية في عبارات قصيرة ولم يكن يستسيغ العبارات المعقّدة.
ج- تواضعه في المجلس:
يقول تلامذته: "كان هذا الرجل دنْياً من العظمة.. كان يجلس في دار المدرسة على الأرض كأي طالب صغير مبتدىء يأتي إلى المدرسة الفيضية قبيل الغروب وعندما تقام الصلاة يلتحق كسائر الطلاب بصلاة المرحوم آية الله السيد محمد تقي الخونساري.
كان على جانب كبير من التواضع والأدب وكان يبذل جهداً كبيراً لحفظ الاداب..
منذ حوالي أربعين سنة وإلى الان لم يُرَ في مجلس متكئاً بل يجلس دائماً في مقابل الضيوف مؤدباً مبتعداً قليلاً عن الحائط بحيث يكون مجلسه دون مجلس الضيف كنت
تلميذه وكنت أذهب إلى منزله كثيراً وكنت أريد أن يكون مجلسي دونه مراعاةً للأدب ولكن هيهات كان يقوم ويقول: بناءً على هذا فيجب أن نجلس نحن في الباب أو خارج الغرفة.
قبل سنين عديدة كنت في مشهد وذهبت لزيارته وجدته جالساً في الغرفة على فراش وكان الطبيب منعه من الجلوس على الأرض بسبب مرض القلب" فقام عن الفراش ودعاني للجلوس عليه فامتنعت.. وبقينا فترة واقفين إلى أن قال أخيراً.
"إجلس لأقول لك جملة.."4.
د- لا يحب أن ينادى (أستاذ):
لم يكن يهتم بكثرة الطلاب وقلتهم كان أحياناً يدرّس اثنين أو ثلاثة.. ولم يكن يحرم غير الطلاب من الاستفادة منه فكل شخص وفي أي زي وسن كان يذهب إليه يمكنه أن يستفيد منه.. وقد استفاد من علمه كثيرون، وكانت تأتيه رسائل من داخل إيران وخارجها تتضمن أسئلة علمية ودينية وكان يكتب جواب الرسائل بخط يده.
كان يخاطب أحياناً بلفظة الأستاذ فيقول: أنا لا أحب هذا التعبير نحن اجتمعنا هنا لنتعاون ونفكر معاً للحصول على حقائق الإسلام ومعارفه.
كان يحب المشي.. وغالباً ما كان يذهب إلى المجالس المتنقلة ماشياً وفي الطريق كان أيضاً يجيب على الأسئلة العلمية.
ولم تكن أعماله العلمية في مستوى واحد فمن جهة كان يكتب في التفسير (للميزان) أرقى المطالب ويشرح للأفاضل الطلاب وأساتذة الجامعات والعلماء الأجانب مثل البروفسور "هنري كوربون" أدق المسائل الفلسفية.. ومن جهة أخرى كان يكتب في أمور الدين وحقائقه بمستوى عادي بل كان يكتب حتى لطلاب المدارس ويجيب على رسائلهم.
لقد كان العلامة الطباطبائي قدس سره اية في التواضع والزهد كما في العلم والعرفان، وهو مجدّد بارع خلّف إرثاً غنياً بالعطاء الفكري الأصيل وها هي اثاره العلمية وسيرته النورانية مناهل للمعرفة ومشاعل للهداية. فرضوان الله عليه في جنان الخالدين.
*من عظماء الاسلام، سلسلة الدروس الثقافية، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، أيار 2003م، ص93-99.
1- الشعراء: 215.
2- نهج البلاغة تحقيق صبحي الصالح، ص290.
3- يادنامه علامه، ص37.
4- مهرتابان، ص51 50.