زيارة الإمام الخامنئي إلى عائلة الشهيد دور انديش
ملف خاص
زيارة الإمام الخامنئي إلى عائلة الشهيد دور انديش
عدد الزوار: 63
خراسان الشماليّة -مهدي قزلي
هي أسفار القائد ولقاءاته المليئة بالمشاعر مع عوائل الشهداء.
إنّ علّة أُنس هذه اللقاءات وفرادتها واضحة ومعروفة؛ هي الحرارة المتبادلة
والروحيّة اللطيفة التي تسود الأجواء فتجعله أشبه بلقاء الوالد والأخ العزيز بعد
طول غياب.
كنت أجلس في سيّارتي على مقربةٍ من منزل شهداء عائلة "دورانديش"،
وكنت أنتظر حتى ندخل المنزل في الوقت المحدّد. أوّل ما شاهدناه لدى دخولنا خمس نساءٍ
وفتاةً شابّة، كنَّ قد صُدمن وبدأنَ بالبكاء، الواحدة تلو الأخرى، فقد علمن الخبر
من المسؤول الأوّل لمجموعة الحماية قبل وقتٍ قصير، ثم عُدنَ إلى وعيهنَّ لمَّا
رأيننا ندخل.
والد الشهداء ـ الرجل المسن والهادئ ـ كان يقف في زاوية البيت بهدوءٍ وسكون.
أخْبَرَنا ابنه الشاب بأنَّ حيرة والده تكون عادةً محفوفةً بالسكون والسكوت .
انحبس الصوت برهةٍ، ثمّ عاد إلى حناجر النساء، وتحوّلت غصّة فَقْدِ أمّهنَّ إلى
بكاء. كانت الكنّة أكثر يقظةً من الباقيات، فقامت بسرعة وأعدّت الماء الساخن لتحضير
الشاي وهيّأت الطاولات والكراسي، ودموعها لا تفارق عينيها.
حميد رضا ومحمد وحسين هم شهداء ثلاثة لهذه العائلة الكريمة، أمّا والدتهم فقد
تعرّضت لحادثٍ على ناصية الشارع، وارتحلت في 11 شباط 1990 م بشكلٍ غير عادي .
دنا وقت وصول القائد، فقام الوالد من مكانه وبدأ بالبحث عن عصاه، ووقف على رأس درج
المنزل منتظراً، فيما وقفت إحدى بناته إلى جانبه ودخلت الأخرى إلى الغرفة.
عند صعود القائد الدرج انكسر السكون، وارتفع صوت والد الشهداء الثلاثة بالصلاة على
محمّد وآل محمد، عندما التقيا ضمَّا بعضهما بلهفة. وعندما توجّهت إليه إحدى الأختين
بالقول "فداك نفسي سيّدي" أجابها بسرعةٍ
مكرِّراً: "لا قدّر الله، لا قدّر الله".
أستبعدُ أن تكون النسوة قد شاهدن دخول القائد إلى المنزل، فقد كان بكاؤهنّ شديداً
إلى حدٍّ لم يكن أمامهنّ مجال إلا أن يغطّين وجوههن، فالتفت إليهنّ وسلّمَ عليهنّ،
الواحدة تلو الأخرى، كنَّ كلّهن يتمتمن "أرواحنا فداك"، وهو يدعوهنَّ إلى الجلوس
والهدوء.
مع بداية كلام سماحته، هدأت الأخوات وجلسنَ إلى جانب كرسيّه، وجلس والد الشهداء إلى
الجانب الآخر. بدأ أخو الشهداء بالتعريف عن الأخوات وأولادهنَّ، وعرَّفَ عن زوجته
وأولاده.
ابتدأ سماحة القائد كلامه ـ كعادته دائماً كما هي عادته ـ بالدعاء للشهداء: "حشر
الله شهداءكم مع الرسول الأكرم صلى الله عليه واله " . بعدها سأل عن
الوالدة، فأجابه الوالد: لقد دهسوها بالسيّارة أمام منزلنا في ذكرى انتصار الثورة
سنة 1990م، قتلت فصار في البيت أربعة شهداء1.
أكملت إحدى البنات الحديث حول الحادثة، فأوضحت بأنَّ أمّها كانت تحمل صور الشهداء
في "22 بهمن" وشاركت في المسيرة، وذهبت بعد
ذلك إلى مزار الشهداء وقامت بتوديع أمهات الشهداء اللواتي كانت تعرفهنّ، وقالت لهنّ:
"ادفنوني هنا إلى جانب أبنائي الشباب"، وعندما عادت إلى البيت قام المنافقون بدهسها
بسيّارة، هذه الحادثة حصلت عند أوّل زقاق بيتنا وتحت الصورة الكبيرة التي وُضِعَت
لأولادها الشهداء!
بدا واضحاً بأنَّ القائد ليس على علمٍ بهذا الموضوع، فكرّر السؤال مظهراً التعاطف
ولكي يتأكَّد: ألم يكن هذا حادثاً عَرَضيّاً؟!
فقام الوالد بالحديث عن حاله والذكريات اليوميّة عن الحادثة وعن انكسار قلبه واللطف
الإلهي به، كما دعا لابنه الذي كان إلى جانبه، فتدخَّل قائد الثورة مثنياً بالقول:
"إنَّ إحدى أكبر السعادات والتوفيقات للإنسان هي أن يوفّق
لرضى الوالدين، واعلموا بأنّ هذا الرضى سوف يؤثّر عليكم في الدنيا كما في الآخرة".
بدأ قائد الثورة بطرح الأسئلة عن دراسة وعمل كلّ فردٍ من أفراد العائلة، من بينهم
طفلةٌ صغيرةٌ وهي ابنة أخي الشهداء، سألها فأجابت بأنّها نجحت وترفَّعت إلى الصفّ
الثالث، فقام بسحب الحجاب إلى مقدّم رأسها، وقبّلها فوق الحجاب، وقال: "
لو كانت السنة الماضية لقبّلتك على وجنتيك"، فضحك
الجميع.
كان الوالد متقاعداً من وزارة التربية والتعليم، وعلى عكس ما وصفه ابنه قبل دخول
القائد، كان بادي السرور وانشغل بالكلام عن ذكرياته في العمل وتاريخه الجهادي
والاحتفالات الدينيّة التي كان يقيمها في منزله. أحد الأشخاص الذين كانوا يشاركون
في برامجه المنزليّة كان السيد الحاج "مهمان نواز"2،
كذلك أورد اسم شخصٍ آخر معروف بـ "منبر شكن" أي "هادم
المنابر".
نظر السيد مبتسماً إلى الحضور، وقال: "هل تعلمون لماذا
كانوا يطلقون على هذا الشخص اسم "هادم المنابر"؟
لأنّه كان كبير الجثّة وقويّاً، وعندما يصعد إلى المنبر كان
ينكسر تحت قدميه ".
سرد العجوز نشاطاته التي نتج عنها تأسيس الحوزة العلميّة في بجنورد3،
كما تحدّث عن إحضار السيد "مهمان نواز" من
مشهد وإخفائه في أوج أحداث الثورة، وكان قائد الثورة يستمع الى الحديث بشوق.
رفع القائد إحدى الصور الموجودة على الطاولة وسأل: ما
اسمه؟ فقام أخو الشهداء بمهمّة التعريف:
حميد رضا أوّل شهيدٍ في العائلة، مجنّد في فرقة 77 خراسان، بعد الإصرار والإضراب عن
الطعام أُجبر المسؤولون على إعطائه إذناً للذهاب إلى الجبهة، استشهد في أوائل الحرب
على ما أظن عام 1981م، وهو ثالث شهيدٍ من بجنورد. أمّا محمّد وحسين فقد أحضرهما
والديَّ من المأوى وتربّينا سويّاً في هذا المنزل.
علَّق القائد معجباً: "إنَّ استقدام الأب والأم ـ مع وجود
أطفالٍ في البيت ـ أطفالاً من المأوى وتربيتهم هو عملٌ جليلٌ بحدِّ ذاته، ويمكن أن
يكون نور الشهادة الذي أنار عائلتكم ناشئٌ من الفضل الإلهي، وبسبب ذلك العطف الذي
أبديتموه لهذين الولدين".
أردف الوالد: "محمّد وحسين كانا في التاسعة والسادسة من عمريهما عندما أتيا إلى بيت
العائلة، واستشهد الاثنان يافعين، وفي المدينة مكتبة سُمّيت باسمهما، فقد كانا
ينشطان فيها قبل الشهادة ويقيمان الصلاة والجلسات القرآنيّة، وقد قاما بجمع كتبٍ
كثيرةٍ لها من قمّ وأماكن أخرى، لذلك عند شهادتهما أطلقت البلديّة اسميهما على هذه
المكتبة.
شارفت الجلسة على النهاية، وبينما كان والد الشهداء يتكلّم، شرب قائد الثورة كوباً
من الشاي، وبدأ بالدعاء للوالد وأبنائه.
قالت إحدى البنات: "أنرت بيتنا يا قائدنا، البارحة قلت
لأخي كاظم بأن يؤمّن لي بطاقة لكي أتشرّف برؤيتكم في اللقاء العام، لكن لم أكن
لأصدّق بأن تمنّوا علينا بحضوركم".
أجابها القائد مبتسِماً: "ليتكِ طلبتِ من الله طلباً أفضل
من هذا".
قالت الأخت: "سيّدنا، ما هو الشيء الأفضل من حضوركم؟!".
أجابها: "هذا ليس بشيء، ما هي الأهميّة من لقائنا؟ يوجد أشياء كثيرةٌ وقيّمةٌ يجب أن تطلبيها من الله، وهو جلّ جلاله يعطيها إن شاء".
طلب قائد الثورة مصحفاً وقام بالكتابة على أوراقه الأولى بشكلٍ دقيقٍ ـ كالعادة ـ وذيَّل ذلك بإمضائه، ثمّ دعا عند إغلاقه قائلاً: "وفّقكم الله، أنتم عوائل الشهداء الذين كانوا حاملي راية القيم الإسلاميّة، فاسعوا للمحافظة على هذه القيم، لا تسمحوا بأن تصبح راية شهدائكم قليلة الشأن وحقيرة، والله سوف يعينكم".
بعد هذه النصيحة للأخوات وللباقين وتقديم الهديّة المعتادة للعائلة، التفت القائدُ إلى المضيف مستأذناً، وقال: بإذنكم، وقام من مكانه، فأصرّ عليه المضيف قائلاً: ابقوا على العشاء. فأجابه مستدركاً: يجب أن نذهب؛ لأن تحضير العشاء لهذا الجمع ليس بالعمل السهل. فأجابت إحدى الأخوات: "نحن بخدمتكم، أنتم أعزّاء على قلوبنا، وكلّ من معكم عزيزٌ أيضا".
فأجاب القائد: "إنَّ هدفنا كان أن نعلن إخلاصنا ومحبّتنا
للشهداء وعوائلهم".
قام سماحته بشكر الجميع عند الخروج من المنزل، وبالأخصّ الكنَّة،4
لأنّها تقوم برعاية الأب وعائلة الشهداء، فعادت للبكاء وقامت باحتضان عمّها وباركت
له بالزيارة.
كذلك قامت الأخوات باحتضان الوالد بعد الكنّة، وأجهشنَ بالبكاء أيضاً.
عند مغادرتنا، كان أفراد العائلة كلّهم مبهورين، وقد امتزج بكاؤهم بالسرور والبهجة.
1-يرجّح أنّها
استشهدت على أيدي أعداء الثورة (منظّمة المنافقين).
2-هو حالياً ممثّل خراسان الشمالية في مجلس الخبراء.
3- مدينة في شمال شرق إيران وشمال مشهد المقدّسة، وهي مركز محافـظة خراسان الشمالية.
4-زوجة أحد أبناء العائلة.