يتم التحميل...

لقاء حشد كبير من الشباب والطلاب في محافظة خراسان الشمالية

خطاب القائد

لقاء حشد كبير من الشباب والطلاب في محافظة خراسان الشمالية: مصلّى الإمام الخميني ـ بجنورد_14-10-2012م

عدد الزوار: 49

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد الله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين لا سيّما بقيّة اللّه في الأرضين.

إنّ اجتماعنا هو اجتماعٌ شبابيّ بالكامل مع كلّ الخصائص الإيجابيّة للشباب. والأمل معقودٌ عليكم أيّها الشّباب، اليوم، وبصورة أكبر في المستقبل. لقد أصغيت بتأمّل للمطالب التي عرضها هؤلاء الشّباب الأعزّاء هنا. وحكمي على هذه الكلمات أنّها كانت ممتازة. وهذا ما يؤيّد رأيي السابق، بشأن الارتقاء بالمستوى الفكري في هذه المحافظة. في هذه الأيّام القليلة، أينما عرض أبناء هذه المحافظة ـ من الشّباب وعوائل الشهداء، من المعلّمين والأساتذة ـ كلماتهم هنا، كانت تدخل عليَ السرور والرضا، لحظةً بلحظة. وهذا إنّما يدلّ على أنّ مدينة بجنورد ومحافظة خراسان الشماليّة، بحمد الله، تتمتّعان بمستوىً فكريّ وثقافيّ راق؛ فيجب عليكم أن تحافظوا على هذا وأن تزيدوه ارتقاءً يوماً بعد يوم. وبالتأكيد، نحن ـ سواءٌ أنا العبد أم سائر المسؤولين ـ نتحمّل مسؤولية توظيف هذه النّعمة الإلهيّة الكبرى في مصلحة الثّورة والنّظام توظيفاً صحيحاً، على أمل أن يكون هذا التّوفيق من نصيبنا.

مفهوم التقدّم
إن البحث الّذي أريد أن أعرضه عليكم، أيّها الشّباب الأعزّاء، يصبّ في توضيح وتبيين القضيّة التي أتيت على ذكرها في اليوم الأوّل: قضيّة التقدّم. إنّه موضوعٌ مهمٌّ جدّاً يجب أن نتعرّض له. نحن حتماً لا نقنع أنفسنا بأنّ القضيّة قد انتهت بمجرّد عرض هذه الموضوعات، إنّما هذه تُعدّ البداية. لقد ذكرنا أنّ ذاك المفهوم الذي يمكنه أن يجمع إلى حدٍّ كبير أهداف النّظام الإسلاميّ ويبيّنه لنا، هو مفهوم التقدّم والتطوّر. وقد تعرّضنا فيما بعد لتوضيح أنّ التقدّم هو الذي يستدعي التحرّك على الطريق. فكيف نقول إنّ التقدّم هو الهدف؟ لقد ذكرنا أنّ علّة ذلك هي أنّ التقدّم لا يمكن أن يتوقّف. أجل، إنّ التقدّم هو حركةٌ وطريقٌ وصيرورة، لكنّه لا يمكن أن يتوقّف ويستمرّ على هذا المنوال؛ لأنّ للإنسان استمراريّة، ولأنّ الاستعدادات الإنسانيّة لا تعرف حدّاً. لقد قلنا إنّ للتقدّم أبعاداً، وإنّ التقدّم والتطوّر في المفهوم الإسلامي يختلف عن التطوّر ذي البعد الواحد أو البعدين في الثقافة الغربيّة، فهو ذو أبعادٍ متعدّدة.

عناصر وأبعاد التقدّم
ومن أبعاد التقدّم في المفهوم الإسلامي ما يتعلّق بنمط الحياة والسّلوك الاجتماعي وأسلوب العيش ـ وكلّ هذه تسميات لأمرٍ واحد ـ فهذا هو أحد الأبعاد المهمّة. ونحن نريد اليوم أن نبحث هذا الموضوع بمقدارٍ ما. فلو نظرنا من زاوية المعنويّات ـ حيث إنّ هدف الإنسان هو الفوز والفلاح والنّجاح ـ فينبغي أن نولي نمط الحياة أهميّةً. ولو لم يكن لدينا اعتقادٌ بالمعنويّات (الرّوحانيّات) والفلاح المعنويّ الاعتقاديّ، فإنّ تناول نمط الحياة هو أمرٌ مهمٌّ لمن يريد العيش الهنيء والحياة المليئة بالأمن النفسيّ والأخلاقيّ. لهذا، فإنّ القضيّة أساسيّة ومهمّة. فلنبحث بشأن ما ينبغي أو يمكن أن يُقال في مجال نمط العيش. لقد قلنا إنّ هذه هي بداية وانطلاقة البحث.

بناء الحضارة الإسلامية
لو أخذنا التقدّم من جميع الأبعاد بمعنى بناء الحضارة الإسلاميّة الجديدة ـ ففي النهاية يوجد مصداقٌ عينيّ وخارجيّ للتقدّم وفق المفهوم الإسلاميّ ـ هنا سنقول إنّ هدف شعب إيران، وهدف الثّورة الإسلاميّة، هو عبارة عن إيجاد حضارة إسلاميّة جديدة. فهذه حسابات صحيحة، فلهذه الحضارة الجديدة قسمان: القسم الأوّل ما يتعلّق بالأداة، والقسم الآخر ما يرتبط بالمضمون والأساس والأصل. ويجب تناول كلا القسمين.

فما هو ذاك القسم المتعلّق بالأداة والوسيلة؟ إنّه عبارة عن تلك القيم التي نطرحها اليوم تحت عنوان تطوّر البلد: العلم، والاختراع، والصّناعة، والسياسة، والاقتصاد، والاقتدار السياسيّ والعسكريّ، والشأنيّة الدولية، والإعلام وأدواته؛ فكلّ ذلك هو من قسم أداة الحضارة ووسيلتها. وبالطّبع لقد تطوّرنا جيّداً في هذا القسم على صعيد البلد. لقد أُنجزت أعمالٌ كثيرة وجيّدة؛ سواءٌ في المجال السياسيّ أم العلميّ أم القضايا الاجتماعيّة، وكذلك أيضاً في مجال الاختراعات ـ حيث شاهدتم الآن نموذجاً عنها، وقد قام هذا الشّاب العزيز1 بشرح الأمر لنا ـ وما شابه إلى ما شاء الله على مستوى البلد ككل. ففي هذا القسم المتعلّق بالأداة والوسيلة، حصل تطوّرٌ جيّدٌ في البلاد بالرّغم من كلّ الضغوط والحظر وأمثاله.

العقل المعاش
أمّا القسم الحقيقيّ فهو تلك الأمور التي تشكّل مضمون حياتنا؛ وهو نمط الحياة الّتي تحدّثنا عنه. فهذا هو القسم الحقيقيّ والأساسيّ للحضارة، كقضيّة الأسرة، ونمط الزّواج، ونوع المسكن واللّباس ونمط الاستهلاك، ونوعيّة الغذاء والطّبخ والتّرفيه، ومسألة الخطّ، واللغة، وقضيّة التكسّب والعمل، وسلوكنا في محلّ العمل والجامعة وفي المدرسة، وفي النّشاط السياسيّ وفي الرياضة، وفي الإعلام الخاضع لإرادتنا، وفي سلوكنا مع الأب والأم، ومع الزّوج والأبناء ومع الرئيس والمرؤوس والشّرطة والعامل الحكوميّ، وفي أسفارنا ونظافتنا وطهارتنا وسلوكنا مع الصّديق والعدوّ والأجنبيّ، فكلّ هذه ترتبط بالقسم الأساسيّ للحضارة التي تمثّل صلب حياة الإنسان.

إنّ الحضارة الإسلاميّة الجديدة ـ ذاك الشيء الذي نريد التطرّق إليه ـ في قسمها الأساسيّ تتشكّل من هذه الأمور. فهذه هي المضامين الأساسيّة للحياة، وهذا هو الشيء الذي يُعبّر عنه في المصطلح الإسلاميّ بالعقل المُعاش. فالعقل المُعاش2 لا ينحصر بتحصيل المال وإنفاقه وكيفيّة تأمينه وصرفه؛ كلّا، فكلّ هذه السّاحة الواسعة التي ذُكرت تُعدّ من العقل المُعاش. توجد في كتبنا الرّوائيّة الأصيلة والمهمّة أبوابٌ تحت عنوان "كتاب العِشرة"3، فكتاب العشرة يتناول هذه الأمور. وفي القرآن الكريم نفسه توجد آياتٌ كثيرة ناظرةٌ إلى هذه الأمور.

التقدّم في الأدوات والبرمجيات
حسنٌ، يمكن عدّ هذا القسم بمنزلة قسم برمجيّات4 (software) الحضارة؛ وذاك القسم الأوّل يرتبط بالأجهزة والأدوات5 (hardware). فلو أنّنا لم نتقدّم في هذا القسم المتعلّق بمتن الحياة، فإنّ كلّ أنواع التطوّر التي حقّقناها في القسم الأوّل لا يمكنها أن تنقذنا، ولا يمكنها أن تمنحنا الأمن والطمأنينة النفسيّة، كما لاحظتم كيف أنّها لم تتمكّن من ذلك في الغرب. فهناك توجد الكآبة واليأس والإحباط والدّمار الدّاخليّ وانعدام أمن النّاس في المجتمع وفي الأسرة، واللاهدفيّة والعبثيّة بالرّغم من وجود الثّروة والقنبلة النوويّة والأنواع المختلفة للتطوّر العلميّ، والقوّة العسكريّة. فأساس القضيّة هو أن نتمكّن من إصلاح الحياة في جوهرها ومضمونها، وإصلاح هذا القسم الأساسيّ للحضارة. وبالتأكيد، لم يكن تطوّرنا في الثّورة في هذا المجال تطوّراً ملحوظاً. فلم يكن تحرّكنا في هذا المجال مشابهاً للتحرّك الّذي حصل في القسم الأوّل، فلم نتطوّر. حسنٌ، يجب علينا أن نحدّد الآفّات، فلماذا لم نتطوّر في هذا القسم؟

ضرورة معالجة الآفات
وبعد كشف العلل والأسباب ننهض لتناول كيفيّة معالجة هذه الأمور. فعلى من تقع هذه المهامّ؟ إنّها تقع على عاتق النّخب ـ النّخب الفكريّة والسياسيّة ـ وعلى عاتقكم وعلى عاتق الشّباب. فلو وُجد في بيئتنا الاجتماعيّة الخطاب النّاظر إلى رفع الآفات في هذا المجال، يمكن الاطمئنان إلى أنّنا سنحقّق تقدّماً جيّداً في هذا القسم، بالنّظر إلى النّشاط الموجود في نظام الجمهوريّة الإسلاميّة وفي شعب إيران، والاستعداد الحاصل. حينها سيصبح تألّق شعب إيران وانتشار الفكر الإسلاميّ لشعب إيران والثّورة الإسلاميّة الإيرانيّة في العالم أسهل. يجب علينا أن نحدّد الآفات وبعدها نقوم بالعلاج. النّخب مسؤولون، وكذلك الحوزة والجّامعة والوسائل الإعلاميّة والمنابر المختلفة ومديرو الكثير من الأجهزة، وخصوصاً الأجهزة العاملة في المجال الثقافيّ والتّربية والتعليم. وأولئك الّذين يخطّطون للجامعات أو المدارس في المجال التّعليميّ هم مسؤولون في هذا المجال. والّذين يحدّدون المناهج التعليميّة ومخططات الكتب الدّراسيّة، هم أيضاً مسؤولون. فكلّ هذه تمثّل مسؤوليةً واحدةً ملقاة على عاتق الجّميع. يجب علينا أن نستنفر جميعاً ونعلي الصوت. في هذا المجال يجب علينا أن نعمل وأن نتحرّك.
لهذا يجب تحديد الآفّات، أي الالتفات إلى الآفّات الموجودة في هذا المجال، والبحث عن أسبابها.

نماذج من الأفات
حتماً، نحن لا نريد هنا أن نصوّر القضيّة على أنّها تامّة من جميع الجهات، بل نعرض فهرساً: فلماذا نجد ثقافة العمل الجماعيّ في مجتمعنا ضعيفة؟ هذه آفة. مع أنّ الغربيين نسبوا العمل الجماعيّ إلى أنفسهم وثبّتوه، لكنّ الإسلام تعرّض له قبلهم بكثير: ﴿وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى‏[المائدة/2]، أو ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللَّهِ جَميعاً [آل عمران/10] أي أنّ الاعتصام بحبل الله نفسه، يجب أن يكون جماعيّاً؛ وَلا تَفَرَّقُوا. فلماذا نجد الطّلاق شائعاً في بعض مناطق بلدنا؟ لماذا نجد كثرة إقبال الشّباب في بعض مناطق بلدنا على المخدّرات؟ ولماذا لا تُراعى الضوابط المطلوبة في العلاقات بين الجيران؟ لماذا نجد صلة الرّحم فيما بيننا ضعيفةً؟ ولماذا لسنا شعباً منضبطاً انضباطاً تامّاً في مجال ثقافة قيادة السيّارات في الشّوارع؟ إنّ هذه آفّة. المرور والتردّد الدائم في الشوارع هو من قضايانا، وهي ليست قضيّة هامشيّة، وإنّما قضيّة أساسيّة. وإلى أي مدى تكون السُّكنى في الشقق ضروريّةً لنا؟ وكم هي صحيحة؟ وما هي مقتضياتها التي ينبغي أن تُراعى؟ وكم نراعي تلك المقتضيات والمستلزمات؟ وما هو أنموذج التّرفيه السّليم؟

وما هو نوع الهندسة المعماريّة في مجتمعنا؟ فانظروا كم أنّ هذه القضايا المتنوّعة والشّاملة في كلّ مجالات الحياة داخلةً في هذه المقولة المتعلّقة بنمط الحياة، أي في هذا القسم الأساسيّ والحقيقيّ والواقعيّ للحضارة، الذي يرتبط بسلوكيّاتنا. إلى أيّ مدى يتناسب نوع العمارة الحاليّة عندنا مع احتياجاتنا؟ وكم هو عقلانيٌّ ومنطقيّ؟ وماذا عن تصميم الألبسة لدينا؟ وقضيّة الزّينة بين الرّجال والنّساء كيف تكون؟ وإلى أيّ مدى هي صحيحة؟ وكم هي مفيدة؟ وهل أنّنا نعتمد الصدق دائماً في السّوق والإدارات والمعاشرات اليوميّة؟ وكم يروّج الكذب فيما بيننا؟ ولماذا نستغيب بعضنا بعضاً؟ ولماذا يهرب بعضهم من العمل بالرّغم من قدرتهم عليه؟ فما هي علّة هذا التهرّب؟ إنّ بعضهم يظهر الكثير من الحدّة دون سبب في البيئة الاجتماعيّة، فما هي أسباب هذه الحدّة، وانعدام الصّبر والتحمّل الموجود عند بعضنا؟ وكم ينبغي أن نراعي حقوق الأفراد؟ وما مدى مراعاتها في الوسائل الإعلاميّة؟ وكم أنّ هذه الحقوق تُراعى في الإنترنت كذلك؟ إلى أيّ مدى نحترم القانون؟ وما هو سبب التهرّب من القانون ـ الذي هو مرضٌ خطرٌ - عند بعض أفراد شعبنا؟ إلى أي مدى الوجدان المهنيّ حاضرٌ في المجتمع؟ وإلى أي مدى يتحقّق الانضباط الاجتماعيّ في المجتمع؟ وإلى أيّ مدى الإتقان موجودٌ في الإنتاجيّة؟ وإلى أيّ مدى يتمّ الالتفات إلى الإنتاج النوعيّ في القطاعات المختلفة والاهتمام به؟ لماذا تبقى بعض الكلمات والآراء والأطروحات الجيّدة في حدود النظر والكلام؟ وهو ما لاحظتم الإشارة إليه. لماذا يُقال لنا إنّ ساعات الإنتاجيّة في عمل الأجهزة الإداريّة عندنا قليلة؟ إنّ ثماني ساعات من العمل ينبغي إن تكون إنتاجيّتها بمقدار ثماني ساعات؛ فلماذا تكون بمقدار ساعة أو نصف ساعة أو ساعتين؟ أين هي المشكلة؟

لماذا يُروّج لنزعة الاستهلاك بين الكثير من أبناء شعبنا؟ هل أنّ الاستهلاك فخرٌ؟ الاستهلاك يعني أن ننفق كل ما نحصّله على أمورٍ ليست من ضروريّات الحياة. ماذا نفعل لاقتلاع جذور الرّبا من المجتمع؟ وماذا نفعل من أجل أن تُراعى حقوق الزّوج والزّوجة وحقوق الأبناء؟ ماذا نفعل لكي لا ينتشر الطّلاق والتفكّك الأسريّ عندنا كما هو حاصلٌ في الغرب؟ وكذلك الأمر فيما يتعلّق بتفكّك الأسرة؟ ماذا نفعل لكي تُحفظ كرامة المرأة في مجتمعنا وتبقى عزّة أسرتها وكرامة محفوظةً، وتتمكّن من القيام بمسؤولياتّها الاجتماعيّة وتُحفظ حقوقها الاجتماعيّة والأسريّة أيضاً؟ ماذا نفعل كي لا تضطرّ المرأة لاختيار أحد الأمور المذكورة [فقط]؟ إنّ هذه من قضايانا الأساسيّة. ما هو مستوى تحديد النّسل في مجتمعنا؟ لقد اتّخذنا قراراً كان له علاقة بزمنٍ محدّد، وله حاجة في مقطعٍ محدّد، لكن نسينا بعدها إنّ هذا المقطع الزمنيّ قد ولّى! فافرضوا مثلاً أنّ يُقال لكم افتحوا هذه الحنفيّة لمدّة ساعة، فتفتحونها وتذهبون!

لقد ذهبنا وغفلنا، لقد مرّت عشر سنوات، وخمس عشرة سنة. ثمّ يُنقل لنا في التقارير الآن أنّ مجتمعنا في المستقبل غير البعيد سوف يصبح مجتمعاً هرماً، وأنّ هذه الصّورة الشبابيّة التي يتمتّع بها المجتمع الإيرانيّ اليوم سوف تزول عنه. إلى أي مدى يمكن تحديد النّسل؟ لماذا يوجد في بعض المدن الكبرى بيوت للعزّاب؟ كيف تسلّل هذا المرض الغربيّ إلى مجتمعنا؟ وما هي نزعة التّرف؟ هل هي سيّئة؟ هل هي جيّدة؟ إلى أي مدى هي سيّئة؟ إلى أيّ مدى هي جيّدة؟ ماذا نفعل لكي لا نتعدّى الحدّ الجيّد ونقع في الحدّ السيّئ؟ هذه أقسامٌ مختلفة من قضايا نمط الحياة، وتوجد عشرات المسائل الأخرى من هذا القبيل؛ حيث إنّ بعضها أهمّ من بعضها الآخر. هذا عبارة عن فهرسة لتلك الأمور التي تشكّل عُمدة الحضارة ومتنها. والحكم على أيّة حضارة مبنيٌّ على هذه الأمور.

لا يصحّ أن نحكم على أيّة حضارة بمجرّد أنّ فيها سيّارات وصناعات وثروات ونمتدحها؛ في حين أنّها تعاني مشاكل داخليّة كثيرة تعمّ المجتمع وحياة الناس. هذا هو الأصل وتلك هي الأدوات التي تؤمّن هذا القسم من أجل أن يشعر النّاس بالطمأنينة والأمل بالحياة والأمن المعيشيّ، وأن يتقدّموا ويتحرّكوا ويبلغوا الرقيّ الإنسانيّ المطلوب.

مقولة ثقافة الحياة
توجد مقولةٌ مطروحةٌ هنا وتملأ الذهن بعنوان مقولة ثقافة الحياة. علينا أن نسعى لتبيين ثقافة الحياة وتدوينها وأن نعمل على تطبيقها بالصّورة التي يريدها الإسلام. بالطّبع، إنّ الإسلام قد حدّد لنا أسس وجذور مثل هذه الثّقافة. وهذه الأسس والجذور هي عبارة عن التعقّل والأخلاق والحقوق، فهذه الأمور قد جعلها الإسلام في أيدينا. ولو لم نتناول هذه المقولات بصورة جادّة فإنّ التطوّر الإسلاميّ لن يتحقّق، ولن تتشكّل الحضارة الإسلاميّة الجديدة. فمهما بلغنا في الصّناعة، ومهما بلغت اكتشافاتنا واختراعاتنا، فما لم نصلح هذا القسم6 فإنّنا لا نكون قد حقّقنا التطوّر والتقدّم الإسلاميّ بمعناه الحقيقيّ. يجب علينا أن نعمل كثيراً.

لا تقدّم من دون إيمان
توجد نقطتان أو ثلاث بشأن إيجاد هذا الوضع، ولوازم يوجدها سعينا وراء هذه الثّقافة، يجب الالتفات إليها. النقطة الأولى هي أنّ السّلوك الاجتماعيّ ونمط العيش يتبع تفسيرنا للحياة: فما هو هدف الحياة؟ فكلّ هدفٍ نضعه للحياة أو نرسمه لأنفسنا، يعرض أمامنا بشكل طبيعيّ نمط حياة متناسب معه. وهنا توجد نقطة أساسيّة وهي الإيمان. يجب علينا أن نحدّد هدفاً للحياة وأن نؤمن به. دون الإيمان لا يمكن تحقيق التقدّم في هذه الأقسام، ولا يمكن القيام بالعمل الصحيح. وهنا سواءٌ كان ما نؤمن به هو الليبراليّة أم الرأسماليّة أم الشيوعيّة أم الفاشيّة، أم التوحيد الأصيل، ففي النّهاية يجب أن نؤمن بشيءٍ ما ونعتقد به ونسعى باتّجاه هذا الإيمان والاعتقاد. قضيّة الإيمان مهمّة. فالإيمان بأصلٍ ما، والإيمان بمرساة حقيقية للاعتقاد، يجب أن يتحقّق. وعلى أساس هذا الإيمان يتمّ اختيار نمط الحياة.

مغالطة اجتناب الايديولوجيا
توجد هنا مغالطةٌ أبيّنها لكم أيّها الشباب: هناك بعض المتفلسفين الغربييّن يطرحون عنوان اجتناب الأيديولوجيّا7. ترون أحياناً في بعض هذه المقالات الثقافيّة أنّه يُطرح عنوان "اجتناب الأيديولوجيا": أيّها السيّد لا يمكن إدارة المجتمع بالأيديولوجيّة. لقد ذكر هذا الأمر بعض الفلاسفة أو المتظاهرين بالفلسفة الغربيين، وهنا أيضاً هناك من كرّر هذا الأمر ويكرّره بطريقةً ببّغائيّة من دون أن يدرك عمق هذا الكلام وأبعاده. لا يوجد أيّ شعبٍ يدعو إلى بناء حضارة، يمكنه أن يتحرّك من دون أيديولوجيّا. ولم يحدث مثل هذا سابقاً. لا يوجد أيّ شعبٍ يمكن أن يكون صانعاً للحضارة من دون أن يكون ممتلكاً لأيّ فكرٍ أو أيديولوجيّا أو مذهب. تلك الأمور التي تشاهدونها اليوم والتي أوجدت الحضارة المادّية في العالم، إنّما تحقّقت من خلال الأيديولوجيّا، وقد صرّحوا بذلك وقالوا نحن شيوعيّون، وقالوا نحن رأسماليّون، وقالوا نحن نعتقد بالاقتصاد الرأسماليّ، وطرحوه واعتقدوا به وسعوا نحوه. بالطبع لقد تحمّلوا المتاعب ودفعوا الأثمان. فدون امتلاك مذهب أو فكر أو إيمان، وبدون السعي من أجله والإنفاق عليه لا يمكن صناعة الحضارة.

التقدّم يتنافى مع التقليد المذلّ
بالطّبع بعض الدّول هو مقلّد، إذ أخذ من الغرب ومن صنّاع الحضارة المادّيّة شيئاً وشكّل حياته على أساسه. أجل، إنّ هؤلاء من الممكن أن يصلوا إلى بعض أنواع التقدّم، وإلى تقدّمٍ شكليّ وسطحيّ، ولكنّهم مقلّدون وليسوا صنّاع حضارة، فهم فاقدون للجذور وعرضةً للآفات. فلو حصل إعصارٌ ما فإنّهم سيزولون لأنّهم فاقدون للجذور. وبالإضافة إلى أنّهم بنوا أعمالهم على التقليد، والتقليد سيطيح بهم، فهم سينالون بعض منافع الحضارة المادّيّة الغربيّة دون أن يكون الكثير منها من نصيبهم، لكنّ جميع آفاتها وأضرارها ستكون من نصيبهم. أنا لا أريد أن آتي على ذكر أسماء الدّول. هناك بعض الدّول التي يطرحها بعض مثقّفينا كنماذج تُحتذى في النموّ الاقتصاديّ في كلماتهم وكتاباتهم. أجل، من الممكن أنّهم قد حصلوا على صناعة، وحقّقوا تقدّما في مجالٍ ماديّ أو في مجالٍ علميٍّ وصناعيّ، لكنهّم مقلّدون أوّلاً، وقد وُسمت جباههم بمذلّة التقليد وشينه. وبالإضافة إلى هذا فإنّهم يعانون من جميع آفّات الحضارة الماديّة للغرب، ولكنّهم فاقدون لأكثر منافعها. واليوم نرى الحضارة الماديّة الغربيّة تظهر ما أوجدته من مشاكل للبشريّة ولأتباعها.

لا حضارة من دون رؤية وإيمان
إذن؛ لا يمكن تحقيق أيّة حضارة من دون المذهب، ومن دون الأيديولوجيّا،، فالحاجة هي إلى الإيمان. إنّ هذا التمدّن يجب أن يكون متمتّعاً بالعلم والصّناعة والتقدّم. وهذا المذهب سيكون هادياً ومديراً لكلّ هذه الأمور. فذاك الذي يجعل مذهب التّوحيد أساساً لعمله، والمجتمع الذي يتحرّك باتّجاه التوحيد، سوف ينال جميع هذه الخيرات التي تتوقّف على بناء الحضارة وسوف يصنع حضارة عميقة وكبيرة ومتجذّرة وينشر فكره وثقافته في العالم. بناءً عليه، إنّ الأمر الأوّل هو الحاجة إلى الإيمان. إنّ سوق المجتمع نحو اللاإيمان هو من تلك المؤامرات الّتي سعى إليها أعداء صناعة الحضارة الإسلاميّة، وهم الآن يتابعون هذا ويسعون من أجله بشدّة.

في يومنا هذا وفي البيئات الثقافيّة، يوجد أشخاصٌ يحذّروننا من الشّعارات الدينيّة بأشكالٍ وطرق مختلفة، ويشكّكون بمرحلة ذروة الشّعارات الدينيّة التي حصلت في السنوات العشر التي تلت الثّورة، وهم اليوم يوهمون أنفسهم بشأن تكرار الشّعارات الدينيّة والشّعارات الثّوريّة والإسلاميّة، ويريدون أن يلقوا هذه الأوهام في قلوب الآخرين ويقولون: أيّها السيّد إنّ هذا مكلفٌ وموجعٌ للرأس ويستتبع الحظر والتهديدات. وإذا أحسنا الظّنّ بهم، نقول إنّهم لم يطالعوا التاريخ ـ وبالطبع لدى بعضهم سوء ظنّ أيضاً ـ فلو كانوا قد قرأوا التّاريخ واطّلعوا على ما جرى وما بدأت به الحضارات وانطلقت منه، ومنها هذه الحضارة الماديّة الغربيّة التي تريد اليوم أن تسيطر على العالم، لما قالوا مثل هذه الكلام. يجب أن نقول إنّهم غير مطّلعين ولم يطالعوا التّاريخ.

العنصر الأهمّ في بناء الحضارة
إنّ المجتمع دون مبادئ ودون مذهب ودون إيمان يمكن أن يصل إلى الثّروة والقدرة، لكنّه عندما يبلغهما فإنّه يصبح حيواناً شبعانَ ومقتدراً. وإنّ قيمة الإنسان الجائع هي أهمّ من الحيوان الشبعان. فالإسلام لا يريد هذا. فالإسلام يؤيّد الإنسان الذي يحوز على أمور وهو مقتدر وهو شاكرٌ وعبدٌ لله، فيمرّغ جبهة العبوديّة بالتّراب. الإنسانيّة والاقتدار والعبوديّة لله، هذا ما يريده الإسلام. يريد أن يصنع إنساناً ويوجد أنموذجاً لصناعة الإنسان.

فبالدّرجة الأولى إذاً، يحتاج بناء الحضارة الإسلاميّة الجديدة إلى الإيمان. وقد وجدنا هذا الإيمان ـ نحن المعتقدين بالإسلام. إيماننا هو الإيمان بالإسلام. ويمكننا أن نجد في أخلاقيّات الإسلام وأدبيات الحياة الإسلاميّة كلّ ما نحتاج إليه اليوم. ويجب علينا أن نجعل كلّ هذه الأمور محور أبحاثنا وتحقيقاتنا. لقد قمنا بالكثير من الأعمال في الفقه الإسلاميّ والحقوق الإسلاميّة، فيجب علينا أن نقوم بعملٍ عظيمٍ ونوعيّ فيما يتعلّق بالأخلاق الإسلاميّة والعقل الإسلاميّ العمليّ ـ وهي مسؤولية تتحمّلها الحوزات والعلماء والمحقّقون والباحثون والجامعة ـ وأن نجعلها [تلك الأمور] أساس تخطيطنا وأن ندخلها في مناهجنا التعليميّة. هذا ما نحتاج إليه اليوم ويجب أن نسعى نحوه. هذا هو الأمر الأوّل والنقطة الأولى فيما يتعلّق ببناء الحضارة الإسلاميّة الجديدة وبشأن الحصول والوصول إلى هذا القسم الأساسيّ من الحضارة الذي يرتبط بالسّلوك العمليّ.

لا يمكنكم أن تجدوا أيّا من هذه الأمور التي عنونتها وذكرتها إلّا وقد تناولها الإسلام بصورة خاصّة أو تحت عنوانٍ عام. إنّ أنواع سلوك الإنسان مع الأفراد الّذي يكون على علاقة بهم، وأنواع سلوكيّاتنا، وأصناف الأشياء التي توجد في حياة الإنسان الاجتماعيّة، كلّها موجودة في الإسلام. فيما يتعلّق بالسّفر وفي مورد الذّهاب والإياب، وفي مورد الرّكوب والترجّل، وفي مورد الأب والأمّ، وفي مورد التعامل، وفي مجال السّلوك مع الصّديق والعدوّ، وفي جميع الأمور، إمّا أن تكون مذكورةً في مصادرنا الإسلاميّة بشكل خاصّ، أو تحت عنوانٍ كلّيّ، حيث يمكن لأهل الاستنباط والرأي أن يستخرجوا ما يحتاجون إليه منها، ويجدوها.

اجتناب التقليد
توجد نقطة أخرى هنا أيضاً، وهي أنّ علينا أن نجتنب التقليد بشدّة من أجل بناء هذا القسم من الحضارة الإسلاميّة الجديدة، تقليد أولئك الذين يسعون لفرض أساليب العيش وأنماط السلوك على الشعوب. وفي يومنا هذا، فإنّ المظهر الكامل والوحيد لهذا الإكراه والإلزام، هو الحضارة الغربيّة. ونحن لا ننطلق من عدائنا للغرب ومواجهتنا له ـ فهذا الكلام ناشئٌ من الدّراسة ـ فإنّ المواجهة والعداوة ليست عاطفيّة8. إنّ بعض الناس وبمجرّد أن يأتي ذكر الغرب وحضارته وأساليبه ومؤامراته وعداواته يحمل ذلك على العداء للغرب ويقولون إنّكم أعداءٌ له. كلّا، نحن ليس لدينا مثل هذا العداء والثّأر مع الغرب ـ بالطبع، لدينا ثأر ـ لكنّنا لسنا مغرضين، بل إنّ هذا الكلام مدروسٌ.

ثقافة الغرب هجومية
إنّ تقليد الغرب بالنّسبة للدّول الّتي استحسنت هذا التقليد لنفسها وعملت به، لم يعد عليها إلّا بالضّرر والفاجعة؛ بما في ذلك الدّول التي وصلت بحسب الظّاهر إلى الصّناعات والاختراعات والثّروة لكنّها كانت مقلّدة. والسبب هو أنّ ثقافة الغرب هي ثقافة هجوميّة. هذه الثّقافة هي ثقافةٌ لإبادة الثّقافات. فأينما جاء الغربيّون أبادوا الثّقافات المحلّيّة واجتثّوا الأسس الاجتماعيّة وغيّروا تاريخ الشّعوب ولغاتها وحروفها [خطوطها] ما استطاعوا. أينما حلّ الإنكليز بدّلوا لغة النّاس المحليّة إلى الإنكليزيّة، وإذا وُجدت اللغة المناسبة فإنّهم كانوا يجتثّونها من الجذور. ففي شبه القارّة الهنديّة كانت اللغة الفارسيّة هي اللغة الرسميّة لعدّة قرون، فكلّ المكاتبات والمراسلات الحكوميّة ومكاتبات الناس والعلماء والمدارس الأساسيّة والشخصيّات الرئيسيّة كانت تجري باللغة الفارسيّة. جاء الإنكليز ومنعوا اللغة الفارسيّة بالقوّة في الهند وروّجوا للغة الإنكليزية.

لقد كانت شبه القارّة الهنديّة من المراكز الأساسيّة للّغة الفارسيّة، واليوم اللغة الفارسيّة هناك غريبة، أمّا اللغة الإنكليزية فهي لغة الديوان ولغة المراسلات الحكوميّة مع إنكلترا، وإنّ المحادثات الأساسيّة للنّخب هي باللغة الإنكليزيّة ـ فينبغي أن يتحدّثوا باللغة الإنكليزية ـ وهذا ما فُرض عليهم. ولقد حدث هذا في جميع الدّول التي وُجد فيها الإنكليز في عصر الاستعمار، فُرضت فرضاً. أمّا نحن فلم نفرض اللغة الفارسيّة على أحد. كانت اللغة الفارسيّة رائجةً في الهند، وقد رحّب بها الهنود أنفسهم، وكانت الشخصيّات الهنديّة تنشد الشّعر وتؤلّفه باللغّة الفارسيّة. فمنذ القرن السابع والثامن الهجريين وإلى هذا الزّمن الأخير قبل مجيء الإنكليز، كان هناك شعراء كثر في الهند، يؤلّفون الشّعر بالفارسيّة، مثل أمير خسرو دهلوي9 وبيديل الدهلوي ـ اللذين كانا من أهل دهلي ـ وكثير من الشّعراء الآخرين. إقبال اللاهوري10 كان من أهل لاهور لكنّ شعره الفارسيّ أكثر شهرةً من شعره في اللغات الأخرى. لم نفعل ما فعله الإنكليز في ترويج اللغة الإنكليزية في الهند، بل راجت اللغة الفارسيّة برغبة النّاس وإقبال الشّعراء والعارفين والعلماء وأمثالهم بشكل طبيعيّ، لكنّ الإنكليز جاؤوا وأجبروا النّاس على أن لا يتحدّثوا باللغة الفارسيّة، وقد حدّدوا عقوبات معيّنة لكلّ من يتحدّث أو يكتب باللغة الفارسيّة.

خصائص الثقافة الغربية
وقد فرض الفرنسيّون أيضاً اللغة الفرنسيّة في كلّ الدّول التي كانت تحت استعمارهم. ذات مرّة، جاء أحد الرؤساء في أفريقيا الشماليّة التي كانت فرنسا تهيمن عليها وتسيطر لسنوات، ليلتقي بي حينما كنت حينها رئيساً للجمهوريّة. كان يتحدّث معي باللغة العربية وبعدها أراد أن يقول جملةً فلم يتذكّر الكلمة العربيّة المناسبة ولم يعرفها، سأل معاونه أو وزيره فقال له باللغة الفرنسيّة ماذا تصبح هذه الجملة باللغة العربيّة؟ فقال له حسناً، هكذا تصبح الجملة باللغة العربيّة. أي أنّ هذا العربيّ لم يتمكّن من أداء مقصوده باللغة العربيّة واضطرّ أن يسأل رفيقه بالفرنسيّة ليقول له إنّ هذا هو المطلوب! أي أنّهم قد أُبعدوا عن لغتهم الأساسيّة إلى هذا الحدّ، وقد تمّ فرض هذا الأمر عليهم لسنوات. وهكذا فعل البرتغاليّون والهولنديّون والإسبانيّون، فأينما ذهبوا فرضوا لغاتهم، وهذا ما يمكن تسميته بالثّقافة الهجوميّة. لهذا، فإنّ ثقافة الغرب هجوميّة.

اجتثاث الثقافات الأخرى
أينما استطاع الغربيّون، اجتثّوا أسس الثقافات والعقائد. وفي بلدنا، حيث لم يكن الاستعمار المباشر موجوداً، فببركة جهاد عدّة من العظماء لم يتمكّن الإنكليز من الدّخول بصورة مباشرة فاستعملوا أفراداً نيابةً عنهم. ولو أنّ معاهدة 1299 أي 1919 ميلاديّة المعروفة بمعاهدة "وثوق الدّولة"11 ـ لم تتم مواجهتها في إيران بمقاومة أمثال المرحوم المدرّس وبعض طلّاب الحريّة الآخرين، ولو نُفّذت هذه المعاهدة لكان استعمار إيران حتميّاً مثل الهند ـ لكنّ رجالنا لم يسمحوا بحصول هذا الأمر. لكنّهم فرضوا علينا ثقافتهم بواسطة عملائهم وبتنصيب رضا خان البهلوي وتقويته وبتعيين المثقّفين التّابعين للغرب إلى جانبه، حيث إنّه ليس من الضروريّ الآن أن آتي على ذكر الأسماء ولا أحبّ ذلك. وقد كان بعض الوزراء والنّخب السياسيّة من ذوي الثّقافة التابعين للبلاط البهلوي، عملاء للغرب، وقاموا بكل ما استطاعوا من أجل تغيير ثقافة بلدنا؛ وكان من مقولاتهم قضيّة نزع الحجاب، أو قضيّة الضّغط على العلماء أو القضاء على حضورهم في البلد، ومقولات كثيرة أخرى كانوا يسعون إليها في عهد رضا خان البلهوي. إنّ الثّقافة الغربيّة هي ثقافة هجوميّة وأينما جاءت اجتثت الهويات، وقضت على هوية الشعوب. فالثقافة الغربية تجعل الأذهان والأفكار مادّيّة، وتنمّي النّزعة المادّية، وتجعل المال والثروة هدف الحياة وتجتث المبادئ السّامية والقيم المعنويّة والرقيّ الروحيّ من الأذهان. هذه هي خصوصيّة الثقافة الغربيّة.

جعل المعصية أمراً عادياً
ومن خصائص الثقافة الغربيّة جعل المعصيّة أمراً عاديّاً، وكذلك الآثام الجنسيّة. وقد جلب هذا الوضع في يومنا هذا العار للغرب. في البداية كان الأمر في إنكلترا، ثمّ انتقل إلى بعض الدّول الأخرى وأمريكا. فأصبحت هذه المعصيّة الكبرى المتعلّقة بالشذوذ الجنسيّ قيمةً ويتمّ الاعتراض على السياسيّ الفلانيّ لأنّه يخالف الشذوذ أو يعارض الشاذّين! انظروا إلى أين يصل الانحطاط الأخلاقيّ. هذه هي الثقافة الغربيّة. كذلك هناك تفكّك الأسرة وانتشار المشروبات الكحوليّة والمخدّرات.

في السّنوات الماضية ـ في العقد الثلاثينيّ والأربعينيّ ـ رأيت في مناطق جنوب خراسان كباراً وأفراداً من أصحاب الفكر والشيوخ يتذكّرون كيف روّج الإنكليز للأفيون12 بأساليب خاصّة بين النّاس. فالنّاس لم يكونوا يعرفون ما معنى تعاطي الأفيون، ولم تكن مثل هذه الأمور موجودةً. يتذكّر هؤلاء الأشخاص ويذكرون خصوصيّاتها. فبمثل هذه الأساليب كانوا يروّجون للمخدّرات بشكل تدريجيّ داخل البلد. هكذا هي الثقافة الغربيّة.

ليست الثقافة الغربيّة مجرّد طائرة ووسائل الرّاحة في العيش أو وسائل السّرعة والسّهولة، فهذه ظواهر الثقافة الغربيّة التي لا تُعتبر أمراً مصيريّاً. إنّ باطن الثّقافة الغربيّة عبارة عن ذاك النّمط من الحياة الماديّة الملوّثة بالشهوات والآثام والمعادية للهويّات والمعنويّات. وشرط الوصول إلى الحضارة الإسلاميّة الجديدة يكون بالدّرجة الأولى في اجتناب تقليد الغرب. ونحن للأسف وطيلة هذه السّنوات المتمادية اعتدنا على أشياء وقلّدناها.

أنا العبد لا أؤيّد قيام حركة جمعيّة وعامّة بشأن اللباس والمسكن وسائر الأشياء الأخرى دفعةً واحدة. كلّا، يجب أن تحصل هذه الأمور بالتدريج، وهي لا تفرض بالقانون [بإلزام القانون]، بل إنّها تتطلّب عملية بناء ثقافيّ. مثلما قلت إنّه عمل النّخب وعمل بناة الثقافة. ويجب عليكم أيّها الشباب أن تجهّزوا أنفسكم لأجل هذا، فهذه هي الرسالة الأساسيّة.

إصلاح نمط العيش والسلوك
إنّنا نروّج العلم والصّناعة والاختراع والإبداع ونجلّ ونحترم كلّ مبتكرٍ وكل ابتكار ـ فهذا محفوظ في مكانه ـ ولكن كما قلنا إنّ أصل القضيّة في مكانٍ آخر. إنّ أساس القضيّة هو إصلاح نمط العيش والسّلوك الاجتماعيّ والأخلاق العامّة وثقافة الحياة. يجب علينا أن نتقدّم في هذا المجال وأن نسعى. فالحضارة الإسلامية الجديدة التي ندّعيها ونسعى إليها، والثّورة الإسلاميّة تريد تحقيقها، لن تتحقّق بمعزل عن هذا القسم. فلو تحقّقت هذه الحضارة، عندها سيكون شعب إيران في أوج العزّة وستتبعها الثّروة والرّفاهية والأمن والعزّة الدّوليّة وكلّ شيءٍ سيتلازم مع المعنويّات.

عنصر الفن أداة قوية لثقافة الغرب
ومن النّقاط التي ينبغي الالتفات إليها في مواجهة عالم الغرب بشكل كامل، هو عنصر الفنّ وأداته التي يستخدمها الغربيّون. لقد استفادوا من الفنّ إلى أقصى الحدود من أجل ترويج هذه الثّقافة الخاطئة والمنحطّة والماحقة للهويّات، ولا سيّما الفنون المسرحية [الأدائية] وخاصّة الاستفادة من السينما وبأقصى ما يمكن. فهؤلاء يجعلون أيّ شعبٍ تحت الدّراسة على شكل مشروعٍ ما، فيكتشفون نقاط ضعفه ويستفيدون من علماء النّفس وعلماء الاجتماع والمؤرّخين والفنّانين وأمثالهم، ليكتشفوا طرق الهيمنة على هذا الشّعب. ثمّ بعد ذلك، يوصون منتجاً سينمائيّاً أو مؤسّسة فنّيّة في هوليوود لكي تصنع فيلماً. فالكثير من الأفلام التي ينتجونها لنا وللدّول هو من هذا القبيل. ليس لديّ اطّلاعٌ على الأفلام المتعلّقة بالدّاخل الأمريكيّ، لكنّ ما ينتجونه للشّعوب فيه بعدٌ هجوميّ. قبل عدّة سنوات، نُشر في الأخبار أنّ بعض الدّول الأوروبيّة الكبرى قرّرت أن تواجه الأفلام الأمريكية. هؤلاء ليسوا مسلمين، لكنّهم يستشعرون هذا الخطر، خطر الهجوم. وبالطبع إنّ الدّول الإسلاميّة، وبلدنا الثوريّ بشكل أخصّ، يستشعرون هذا الأمر أكثر. فهم ينظرون ويقيسون الخصائص ويزنون الأوضاع وينتجون الأفلام ويعدّون الأخبار على هذا الأساس، وكذا الإعلام فإنّهم يشكّلونه ويبثّونه وفقاً لذلك. يجب الالتفات إلى هذه الأشياء. إنّهم يصنعون السلائق ويبنون الثّقافات، وبعد تبديل السلائق والأذواق، يبدأون بالدولارات وبإرسال القوّات العسكرية والجنرالات، إذا ما احتاجوا إلى القوّة والهيمنة. هذا هو أسلوب حركة الغربيين ويجب الالتفات إليهم. يجب على الجميع أن يشعروا أنّ مسؤولية إيجاد الحضارة الإسلاميّة الجديدة هو على عاتقهم، وأحد حدود وثغور هذا العمل هو مواجهة الحضارة الغربيّة، بحيث لا يكون فيها التقليد.

حذارِ النزعة السطحية والتحجّر
في النّهاية أضيف نقطةً: إنّ ما عرضناه اليوم هو بداية البحث وسوف نعود ونتحدّث في هذه المجالات. ونتوقّع من أهل الفكر والرأي في المراكز التي تستطيع وتتمتّع بالكفاءة والأهليّة لهذا العمل، أن يعملوا ويفكّروا ويطالعوا في هذا المجال من أجل أن نتمكّن من التقدّم. فلنحذر لئلّا نُبتلى بالسطحيّة والنّزعة الشكلية والظاهرية والتحجّر ـ هذا جانبٌ من القضيّة ـ والعلمانيّة الخفيّة. في بعض الأحيان يكون الإعلام [والتوجهات الإعلامية]، ظاهره دينيّاً والكلام كلام الدين، والشعار شعار الدين، أمّا في الباطن فيكون علمانيّا؛ (أي يدعو) لفصل الدين عن الحياة. إنّ ما يجري على اللسان لا دخالة له في التخطيط وفي العمل، ندّعي، نتحدّث، نطلق الشّعارات، لكن عندما يأتي دور العمل لا يبقى خبرٌ عمّا أطلقناه من شعارات.

إنّ الثورة الإسلاميّة مقتدرة. إنّ القدرة والسّعة والطاقة المتراكمة موجودة في الثّورة الإسلاميّة، ولديها القدرة على إزالة جميع هذه الموانع التي ذكرتها، والكثير مما لم أذكره، وعلى تقديم تلك الحضارة المميّزة والسامية والراقية بعظمتها وأبّهتها الإسلامية أمام أنظار كلّ العالمين، وسوف يتحقّق ذلك في زمانكم، وإن شاء الله يكون على أيديكم وبهممكم. فهيّئوا أنفسكم بكلّ ما تستطيعونه من ناحية العلم والعمل والتزكية وتقوية الرّوح وتقوية الجسم ـ كما ذُكر مراراً ـ لتحملوا هذا الحمل الثقيل على عاتقكم، إن شاء الله.

والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 


1-أحد الحاضرين الذين القوا كلماتهم خلال اللقاء.
2-وردت في الكتب والمصنفات الروائية عبارات من قبيل عقل المعاش وعقل المعاد، يقصد من الأول: حسن التدبير وإتقان العمل والحكمة في ابتغاء الوسيلة والتصرّف وفق مقتضيات العقل والحكمة، ورد في نهج البلاغة: أوحى الله إلى داود "إذا رأيت عاقلاً فكن له خادماً".
3-كتاب العِشرة: أحد أبواب كتاب "الكافي". يعدُّ الكافي أحد الكتب الروائية الأربعة المشهورة عند الشيعة، حيث يعتمد عليها الفقهاء في الاستدلال على الأحكام الفقهية واستنباطها. والعشرة معناها الخلطة والصحبة من المعاشرة، ويتضمن الكتاب مجموعة الروايات المتصلة بأصول العلاقات والاختلاط والتعامل مع الناس وما فيها من آداب وسنن ومستحبات.
4-المقصود من البرمجيات: نمط الحياة ومضمونها وجوهرها، وما يتصل بالتدبير والتخطيط والتقدير وأنماط السلوك والمعاملة...
5-الأدوات: وسائل العيش والحياة، والأدوات العلمية والتكنولوجية وما ينتج عنها من تطور في وسائل العيش، أي: العلم، والاختراع، والصّناعة، والسياسة، والاقتصاد، والاقتدار السياسي والعسكري، والشأنيّة الدولية، والإعلام وأدواته؛ كلّ ذلك هو من قسم أداة الحضارة ووسيلتها، حسب ما ورد في الخطاب.
6-أي المضمون.
7-أو التبرؤ من أي رؤية كونية، بمعنى الانخلاع من تبني وإتباع رؤية عقائدية لنظام الحياة.
8-لا تنطلق من مشاعر عدوانية.
9-أمير خسرو دهلوي (1325م) من أكبر شعراء الهند عاش أكثر حياته في دلهي العاصمة، أبوه تركي الأصل. له خمسة دواوين شعرية، وله مخمسات شعرية أيضاً ورواية مفتاح الفتوح، ومجموعة من القصائد الغزلية والتاريخية، وله أعمال نثرية منها: خزائن الفتوح وكتاب في البلاغة باسم إعجاز خسروي، أكثر كتبه ما تزال مخطوطة.
10-إقبال اللاهوري (ولد عام 1873م)، من رواد الإصلاح المعروفين في أوائل القرن التاسع عشر في شبه القارة الهندية، شاعر ومجدد درس الفلسفة وعلوم القرآن، ودرّس الأداب والفلسفة. دعا إلى الوحدة بين المسلمين، وإلى التقدم العلمي في بلادهم. كانت له نشاطات سياسية في عصر هيمنة الغرب على شبه القارة الهندية. حضر أول مؤتمر إسلامي حول فلسطين ببيت المقدس، مع مولوي شوكت ممثلا مسلمي الهند، وحضر حينها العلماء: كاشف الغطاء من العراق والطباطبائي من إيران وأمين الحسيني من فلسطين... أنشد أشعاراً عديدة بالأردية والفارسية والانكليزية، من مؤلفاته " إحياء الفكر الديني" بالإضافة إلى ديوانه الشعري " أسرار الذات".
11-العلامة السيد حسن المدرس (ولد 1870م)، عالم ومفكر، أحد أقطاب الحركة الدستورية(1903)، معروف بزهده ونبوغه ومواجهته لمخططات الغرب والانكليز في إيران، ساهم – مع بقية العلماء والقوى الوطنية آنذاك- في الدفع لإسقاط حكومة "وثوق الدولة" رئيس حكومة القاجار الذي ابرم معاهدة بين إيران والانكليز عام 1919م، وبالتالي سقوط المعاهدة المذلة.
12-الترياك بالاصطلاح الإيراني

2012-12-01