الأخلاق والحريّة
الأخلاق في القرآن
هناك أبحاث كثيرة، في مسألة الأخلاق والحرية، وهل أن الأخلاق تحدد وتقيد حرية الإنسان؟ وهل أن هذا التقييد هو في صالح الإنسان أم لا؟ فبإعتقادنا أن هذه الأبحاث، ناشئة من التفسير الخاطيء لمعنى الحرية...
عدد الزوار: 191
هناك أبحاثٌ كثيرةٌ، في مسألة الأخلاق والحريّة، وهل أنّ الأخلاق تُحدّد وتُقيّد حريّة الإنسان؟ وهل أنّ هذا التّقييد هوفي صالح الإنسان أم لا؟
فبإعتقادنا أنّ هذه الأبحاث، ناشئةٌ من التّفسير الخاطيء لمعنى الحريّة، ومنها:
1ـ يُقال: أنّ الأخلاق تقوم بتحديد حريّة الإنسان، وتعمل على كبت القابليّات في المحتوى الدّاخلي للإنسان.
2ـ وتارةً يقولون: إنّ الأخلاق تقمع الغرائز، وتمنع من تحقّق السّعادة الواقعيّة للفرد، ولولم يكن في الغرائز فائدةٌ، فلماذا خلقها الله تعالى؟
3ـ وتارةً اُخرى يقولون: إنّ البّرامج الأخلاقيّة، تخالف فلسفة أصالة اللّذة، ونحن نعلم أنّ الهدف من الخلق، هو"اللّذة" التي يريد أن يصل إليها الإنسان.
4ـ واُخرى يقولون، وفي النّقطة المعاكسةلها: أساساً إنّ البشر ليس حُرّاً في سلوكه الأخلاقي، بل هومجبور وواقع تحت تأثير عوامل كثيرة، ولذلك فلا تصل النوبّة للوصايا الأخلاقيّة.
5ـ وأخيراً يقولون: إنّ الأخلاق مبنيّة على أساس إطاعة الله تعالى، وهي لا تخلومن الخوف والطّمع، وكلّ هذه الاُمور تتقاطع مع الأخلاق!
هذا التّناقض في الأقوال، إن دلّ على شي، فهودليلٌ على عدم التّقييم الصّحيح لمفهوم الحرّية، هذا من جهة، ومن جهة اُخرى لم تُدرس الأخلاق الدينيّة، وخصوصاً الأخلاق الإسلاميّة، دراسةً كافيةً ووافيةً.
ولذلك يجب أن ندرس في بادي الأمر، مسألة الحريّة. ولماذا يطلب الإنسان الحريّة بكلّ وجوده؟، ولماذا يجب أن يكون الإنسان حرّاً؟، وما هودور الحريّة في تربية الجسم والرّوح؟، وبكلمة واحدة: ما هي "فلسفة الحريّة"؟.
إنّ الجواب على كلّ هذه الأسئلة يتلخّص في ما يلي:
يوجد في داخل الإنسان قابلياتٌ وملكاتٌ وقوى خفيّةٌ، لا تخرج من القوّة إلى الفعل إلاّ بالحريّة، والإنسان يسعى للتّكامل، ويتحرك على مستوى ترشيد إستعداداته وقُدراته، فهويطلب الحريّة لأجل ذلك.
ولكن هل أن الحرّية التي تساعد على تفعيل قدرات الإنسان، هي حرية بلا قيد ولا شرط، أم أنّها الحريّة المتحرّكةِ في إطار من التّنظير العقلي والدّيني؟.
ويُمكن تبيان هذا المطلب مع ذكر مثالين
إفترضوا أنّ هناك فلاّحاً، قررّ أن يزرع أنواع الورود والفواكه في بستانه، وتحرّك لتحقيق هذا الغرض، على مستوى حرث الأرض وغرس النّباتات وسقيها في موعدها في كلّ مرّة، فَمن البديهي أن تكون الشّجرة مغروسةً في الفضاء الحرّ، لتأخذ قِسطها من النّور والهواء والمطر، وستمدّ جذورها في الأرض بحرّية، وإذا لم تتوفر لها تلك العوامل، فلن تثمرَ ولن يحصلَ الفلاّح على ثمن أتعابه، وبناءاً على ذلك، فإنّ حريّة الجذور والأوراق، ضروريّة لكي تعطي الثمر، ولكن من الممكن أن ينحرف غُصن من الأغصان في تلك الشّجرة، فيقطعه الفلاّح بلا رحمة ولا رأفة، لأنّ هذا الغصن يستهلك قوّة الشّجرة، فلا أحد له الحقّ في الإعتراض على الفلاّح، بسبب هذا العمل.
ويمكن أن يُقَوِّم الفلاّح الشّجرة المائلة، والفرع المعوّج، بشدّه إلى خشبة مستقيمة، فكذلك لا حقّ لأحد أن يعترض عليه في ذلك، ويقول له: لماذا قيّدت الشّجرة بهذا القيد، ولم تتركها حرّةً، لأنّه سيقول: إنّ الشّجرة يجب أن تكون حرّةً لكي تُثمر، لا أن تكون معوجة فتذهب بأتعابي سُدىً.
وكذلك بالنسبة للإنسان، فلديه ملكاتٌ وقابلياتٌ مُتنوّعةٌ ومهمّةٌ، وإذا ما نُظِّرت تَنظيراً صحيحاً، فستصعد به إلى أعلى درجات الرّقي والكمال المادّي والمعنوي، فهوحرٌّ في الإستفادة من قابلياته في الطّريق السّليم، لا أن يُهدِر هذه القابليّات في الطرق المنحرفة.
فالذّين فسرّوا الحريّة، بمعناها العام الشّامل بلا قيد ولا شرط، ففي الحقيقة لم يفهموا معنى الحريّة، فالحريّة هي الإستفادة من الطّاقات في الطّريق الصّحيح، الذي يوصله للأهداف العُليا: (ماديةٌ كانت أم معنويةٌ).
ومثالٌ آخر، حرّية المرورِ والعبورِ في الطّرق الواسعة والضّيقة، فالغرض هو وصول الإنسان لمقصده، ولكن هذا لا يعني أبداً، عدم الإلتزام بقوانين المرور، حيث يؤدي إلى الهرج والمرج، والفَوضى في حركة المرور.
فلا يوجد إنسانٌ عاقلٌ يقول: إنّ التّقيد بقوانين المرور ورعايتها، مثل التّوقف عند الضّوء الأحمر، وعدم المرور في طريق ما، والسّير على الجانب الأيمن، وما شابهها من الاُمور، التي توجب تحديد حريّة السّائق، فالكلّ سوف يستهزيء بمثل هذا الكلام، حيث يقال له، إنّ الحرّية يجب أن تكون ضمن المقررات والقوانين التي تراعى من أجل سلامة الإنسان وأموال وممتلكات الآخرين ولا تسبب في الهرج والمرج، وقتل الأبرياء دون مُبرِّر، وتفضي إلى عدم الوصول بسلامة للمقصد والغاية.
فكثيرٌ من هذه الحريّات هي كاذبةٌ، ونوعٌ من التّقييد الحقيقي.
فالشّاب الذي يسىء الإستفادة من حريته، ويستعمل المخدّر المميت، فهوفي الواقع يكون قد أمضى حُكم أسرِهَ وتَسلّط الغير عليه، فالحريّة التي تُصاحب الإلتزام بالموازين الأخلاقية، هي التي تُعطي للإنسان الحريّة الحقيقيّة وتجعله متمكنّاً من نفسه ومسيطراً على أهوائه ونوازعِهِ النّفسية، وكم هوجميل كلام أميرالمؤمنين عليه السلام، حيث يقول: "إنّ تقوى الله مفتاحُ سَداد، وذخيرةُ مَعاد، وعتقٌ من كلّ مَلكة، ونجاةٌ من كلّ هلكة"1.
وممّا ذُكر آنفاً، تتجلى الحريّة الحقيقيّة من الكاذبة، ويتمّ منع إستغلال هذا المفهوم المقدّسُ في طريق الإنحراف والزّيغ، فلا يحقّ لأحد أن يتذرّع، بكبتِ الأخلاق لطاقاتِ الإنسان، ويستشكِل على القِيم الأخلاقيّة.
وممّا تقدّم أيضاً، تتّضح الإجابة على من يدّعي، قمع الأخلاق للغرائز، وأنّ الله تعالى خلق الغرائز في الإنسان، لتحقيق الغرض منها، واشباعها بأدوات الحريّة والتّحرر من قيود الأخلاق.
فالغرائز في الإنسان، مثلها كمثل قطراتُ المطر، تنزل من السّماء بِقدر لتُحيي الأرض، ولولا فائدتها، لما أنزلها الباري تعالى، ولكن هذا لا يعني فسح المجال لتلك القطرات لِتَتجَمَّع، وتكوّن السّيول لإهلاك الحرث والنّسل، بل يجب أن تُقام السّدود في طَريقها، وفتح منافذ صغيرة منها لتمد الحياة البشرية بالماء، وتكون الفائدة فيها أعمّ وأشمل، فيما لوسيطر عليها الإنسان، وأخضعها لضوابط معيّنة، وكذلك الحال بالنّسبة لغرائز الإنسان، فإذا اُطلق لها العِنان، فستبُيد كلّ شيء أمامها، وتدّمر كلّ شيء في حركةِ الحياة الفرديّة والإجتماعية للإنسان.
ويُستنتج مما ذُكر سابقاً، أنّ الأخلاق لا تقف سدّاً في طريق الإنسان، ولا تمنعه من ترشيد قابلياته وملكاته، ولا تقمع الغرائز في واقعه، بل إنّ الأخلاق وسيلةٌ للوصول للكمال المنشود، في حركة الإنسان والحياة.
ومن خلال التّفسير الصّحيح للحرية، الذي ذكرناه آنفاً تتّضح الإجابة على أسئلة المخالفين للأخلاق.
*الأخلاق في القرآن،آية الله مكارم الشيرازي،مدرسة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام-قم،ط2،ج1،ص75-78
1- نهج البلاغة، الخطبة 230. 2012-09-04