يتم التحميل...

الحقيقة ثابتة أم متغيرة؟

الأخلاق في القرآن

لا ملازمة بين فلسفة التحول وكون الحقيقة مؤقتة على نحو ما قيل، لأن فلسفة التحول ليست مرتبطة بالواقع الخارجي. وعلى فرض أنه ليس في الواقع إلاّ الصيرورة، فإنها لا تستلزم تغير الحقيقة في الفكر.

عدد الزوار: 457

لا ملازمة بين فلسفة التحول وكون الحقيقة مؤقتة على نحو ما قيل، لأن فلسفة التحول ليست مرتبطة بالواقع الخارجي.

وعلى فرض أنه ليس في الواقع إلاّ الصيرورة، فإنها لا تستلزم تغير الحقيقة في الفكر.

وإذا كانت الوقائع ومنها فكر الإنسان متغيرة، فإن الحقيقة ستتغير، ولكن أولئك لا يقولون هذا.

وعلى وفق نظرنا لا يتجرد محتوى الفكر عن الموجود الذهني والعيني حتى بالاعتبار.

فقولنا: "زيد قائم يوم الجمعة" صادق أبدا.

فهذه الجملة بغض النظر عن وجودها العينيّ والذهنيّ ليست شيئا يقال عنه: إنه ليس في الذهن ولا في الخارج.

فزيد قائم قضية تصدق على محتواها دائما.

وهذا غير ممكن، لأن هذه القضية إما أن يكون لها وجود ذهني أو عيني، لكن الإنسان حين يفكر فيها يجردها من وجودها الذهني، ثم يقول عن المفهوم أو المعنى المجرد في مقام الاعتبار: صادق أبدا.

وبناء عليه نقول: إذا كان الفكر متغيرا، فالمعتبر متغير أيضا، ولا يبقى (زيد قائم يوم الجمعة) في ذهننا على ما تصورناه أمس، لأنه متبدل في الأساس وصائر غيره.

ولكن هؤلاء لا يقولون هكذا.

وما ورد في بحث ثبات الحقيقة وارد في الأخلاق فيقال لهم: لو أخذنا بفلسفة الصيرورة، لآمنا بتغير الحقائق، والأخلاق مجموعة من الأوامر والنواهي، فهي مجموعة من الاعتبارات.
وتغير الوقائع لا يستوجب تغير الاعتبارات.

وفي حديثنا عن ختم النبوة قلنا: إذا قال أحد إن كل شيء متغير، فلا معنى لخاتمة الرسالات، قلنا: إن تغير الوقائع لا يستلزم تغير هذه الرسالة، لأنها عهد، وتغير الوقائع لا يشمل العهود
فالقول بأن فلسفة الصيرورة تقتضي تغير الأخلاق ليس صحيحا.

ويمكن رد ذلك بهذا البيان
يقولون: كل دستور سواء أكان أخلاقيا أم غير أخلاقي قائم على مصالح.

وهذا ما قاله المتكلمون واتبعهم الأصوليون، فقالوا: "الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية".

أو بتعبير المرحوم النائين: المصالح والمفاسد هي في علل الأحكام، والأحكام هي ما يجب وما لا يجب في الوصول إلى تلك المصالح، فهي تابعة لتلك المصالح والمفاسد كما يتبع المعلول علته.

المصالح أمور واقعية، والأوامر والنواهي عهود واعتبارات.

بيد أن المصالح والمفاسد التي تنشأ عنها هذه الأوامر والنواهي بحكم واقع متغير يؤدي إلى تغير الأوامر والنواهي الناشئة عنه.

وهذا الإشكال يجد صورة أخرى في ضوء هذا البيان الذي هو أحسن بيان.

ونريد الآن أن نعرض الموضوع على وفق المعايير الأخلاقية، ونخص بحث الأخلاق باصطلاحنا الخاص، فبحث الأخلاق واسع متعدد الفروع كالمعاملات والعبادات، لكن بحثنا فعلاً مختص بالأخلاق بمعناها الخاص.

ثبات الأخلاق
يمكن بيان الخلود في الأخلاق التي نسميها اصطلاحا الحقيقة بأن قولنا: (هذه معاملة حسنة). يعني أنها حسنة في عينها، وهكذا لو وصفت بالقبح.
أي أن كل فعل حسن في عينه أو قبيح في عينه.
ويمكن القول بأن بعض الأفعال لا حسن في عينه ولا قبيح في عينه.
ومعنى ذلك هو أن الحسن والقبح عينيان، والصفة العينية لا تتخلّف ولا تختلف.
وسيبقى الحسن حسنا والقبيح قبيحاً ما دام العالم.
والعقل أيضا يحكم بإنجاز الحسن واجتناب القبيح، ولا نقاش في البديهة العقلية.
ويستند عادة إلى ذاتية الحُسن والقبح في الأشياء.
ولئن لم يبحث حكماؤنا هذه المسألة، فإنهم لم يعتقدوا بالحسن والقبح العينيين.
وترون الاستناد في المنطق إلى الحسن والقبح كالاستناد إلى المشهورات المناسبة للجدل والخطابة.

وقد سبق الذكر بأن الحسن والقبح مختلفان عند الأمم والأقوام، ولذا يمثلون بقبح ذبح الحيوان لدى الهنود، ولكنهم لم يبحثوا أكثر من ذلك، ولم يبينوا سبب جعلنا الحسن والقبح من مبادئ البرهان، ولم يذكروا علة الافتراق من القضايا الرياضية.

كل ما قالوه هو أن الحسن والقبح من أحكام العقل العملية....

وأكثر الحكماء بحثا في هذا المجال السيد الطباطبائي، وذلك في المقالة السادسة عن أصول الفلسفة، وقد كتبنا حاشية على القسم الأول من هذه المقالة، ولم نكتب حاشية على القسم الثاني لضيق الوقت.

وأغلب أقسام هذا البحث غير مقبولة لدينا على الرغم من أنه بحث أساسي وعميق جدا جدير بالفلسفة وبناء الذهن بناء فكريا، فضلا عن ملاءمته لعلم الأصول.

لقد تناول في هذه المقالة الأفكار الاعتبارية وكيفية حصولها، وهي جديرة بالبحث والمناقشة. إلا أننا هنا نقدم خلاصة ما يرتبط منها ببحثنا.

يبدأ حديثه من أن قدرة الذهن وعمله هو أن يلتقط أفكار عن الأشياء الخارجية العينية، وهي أفكار حقيقية ولا قدرة للذهن على اختراعها، ويطبقها على واقع ما، أي يطبق شيئا على شيء، وبالتعبير الاصطلاحي والأدبي يصنع مجازا.

وليس المجاز بنظر السكاكي استعمال اللفظ لمعنى آخر، فننتزع كلمة أسد مثلا مما وضعت له ونستعملها في غيره كإطلاقها على رجل شجاع لمشابهته الأسد.

لا ليس المجاز تصرفاً للأسد واقعاً، ثم نطلق اللفظ عليه.
وهذا إنشاء يقوم به الذهن.

وللمرحوم السيد البروجردي تعبير لطيف في هذا الصدد، إذ كان يقول: عندما نقول: رأيت أسدا يرمي، فإننا نستعمل جملة بدلاً من اثنتين.
فكأننا قلنا: رأيت زيدا يرمي، وزيد مثل الأسد.
وكان يقبل كلام السكاكي في المجاز.
هذا الحديث قاله الطباطبائي في باب قدرة الذهن على الانتزاع والإنشاء وما شابه، يعني أنه يجعل الشيء مصداقا لشيء آخر على وفق حساب.

وله كلام آخر وهو حسن للغاية -لكن تعميمه غير مقبول لدينا- وهو قوله: فرق الموجود ذي الروح من الموجود بلا روح أن الأخير ليس له سوى سبيل واحد وحركة واحدة إلى غايته، وأنه يتجه إليها مجبرا.

فالطبيعة في هذه المرحلة تتجهز بوسائل تعينها على التحرك إلى مقصدها.
وذو الروح من الناحية البدنية هكذا يتحرك إلى غايته، ولكن تجهز الطبيعة ليس بكاف لبلوغ ما تريد، فيستعين الحيوان بجهازه الشعوري والإدراكي.

فيحصل في الواقع تنسيق بين الطبيعة العينية والتكوينية، الطبيعة الفاقدة للإحساس فينشأ جهاز الشعور الذي يعمل على إيصال الطبيعة إلى ما تريد، والإنسان يحسب أن هذين اتحدا إتفاقا.

فالطبيعة الإدراكية للإنسان والحيوان هي أنه تصور أو أدرك شيئا مال إليه ورغب فيه، فإذا ناله سر به، وإلا اغتم.
فهو يسعى إلى الإلتذاذ بنيل شيء أو النجاة من خطر، فإذا لذعه الجوع انتفض يبحث عن طعام لما عرف من لذته.

والطبيعة تواجه حاجات لا تنتهي تدعوها إلى بلوغ غاياتها.
فالحيوان يلتذ بالطعام والطبيعة تحقق مبتغاها، هذان العملان غير مرتبط أحدهما بالآخر؟
هل اجتمعا مصادفة؟

هل يمكن أن يحصل هذا بنحو آخر، فيلتذ الأكل بتناول الحجر مثلا والمعدة تحتاج إلى مواد أخرى؟
هل تنفع الأطعمة اللذيذة آكلها وتسد حاجة الجسم والطبيعة إتفاقاً؟
ليس في الأمر اتفاق، وإنما هناك صلة بين الإثنين، سوى أن أحدهما أصل والآخر فرع.
وإذا كان الأمر كذلك، فهل الأصل هو القوة الإدراكية التي تريد الإلتذاذ والإنفلات من أذى الجوع، وتحتاج إلى جهاز يمكِّنها من بلوغ اللذة المنشودة ويعدها للذائذ أخرى؟
أو أن الطبيعة هي الأصل الذي يسخِّر المرء لخدمته؟

ولا شك في تناسب العمل وتناسقه، ولهذا يلتذ كل حيوان بما تحتاج إليه الطبيعة، وهي لا تحتاج لغير ما تلتذ به.
فالمرأة مجهزة بالترائب والحليب وجهاز الإنجاب، وتلتذ بذلك في حين أن الرجل يتقزز حتى من تصور الولادة.
وهذا يكشف عن أن ذلك على وفق حساب حكيم، فالحيوان البيوض يلتذ بالبيض، والولود يتلذ بالولادة.

إنه لتنسيق رائع في العمل.
ومن الخطأ التصور أن المطامح مختصة بذي الشعور، وهذا ما قاله الشيخ وآخرون.
وإذ يقال: للطبيعة غاية، يُشكل عليه بأنها ليست ذات شعور، فتكون لها غاية.
ومن الاتفاق تعلق الغاية بهذه الطبيعة التي لا شعور لها، فامتلاك جهاز الشعور تبع لغاية الطبيعة التي هي التحرك صوب كمالها.

وامتلاك الشعور بقول الشيخ لا يجعل عديم الغاية ذا غاية.
وامتلاك الغاية مربوط بالطبيعة نفسها، بيد أنها تشعر بهذه الغاية حينا، ولا تشعر بها حينا.
ولا انسجام بين اللذة وحاجة الطبيعة دائما، فكثير من اللذات ضرر على الطبيعة وإبعاد لها عن كمالها.

ويرد هذا الإشكال بأنه لا يعبأ بالموارد الشاذة في شأن الإنسان الذي يعمل بحكم العقل.
أعني أن الانسجام متحقق حتى إنه لا يمكن حمله على الاتفاق (المصادفة ).

وهناك استثناءات من قبيل المريض المحتاج إلى دواء لا تستطيبه النفس، فيحصل نوع من التغاير بين مقتضيين، وله تفصيل خاص به، فالحيوان يلتذ بتناول دوائه بحكم الغريزة، فيما لا يلتذ به الإنسان بحكم العقل.

لندع هذا.
قال السيد الطباطبائي: من هنا يشرع عالم الاعتبار، وعبر تعبيرا يظهر منه أن الأفكار الاعتبارية موجودة في الإنسان وغيره.
وليس هذا التصميم بمقبول لدينا.

وقال: بين الطبيعة والغايات على ما تعبر عنه الآثار رابطة وجوب وضرورة من النوع العيني والتكوينى والفلسفي الذي بين كل علةٍ ومعلولها، ولكن الإنسان في عالم الإعتبار يقيم هذا الوجوب العيني المقابل للإمكان والإمتناع في الطبيعة بين شيئين ليس بينهما هذه الرابطة.


*ثبات الأخلاق، الشيخ مرتضى مطهري، دار المحجة البيضاء، ترجمة لجنة الهدى ط1- عام 1414هـ ـ1993م، ص29ـ38. 2010-02-04