يتم التحميل...

بين الأخلاق والحقيقة

الأخلاق في القرآن

يجب الالتفات قبل البحث عن خلود الأخلاق إلى أن الفلاسفة يقولون بخلود الحقيقة والعلم والأخلاق. ولن نعرض هنا لخلود الحقيقة، ولكن نثير سؤالا ماسا وهو: لماذا فتحوا للأخلاق والحقيقة حسابين؟ ما الفرق بين الأصول الأخلاقية وسائر الأصول التي نسميها حقيقة؟

عدد الزوار: 378

يجب الالتفات قبل البحث عن خلود الأخلاق إلى أن الفلاسفة يقولون بخلود الحقيقة والعلم والأخلاق.
ولن نعرض هنا لخلود الحقيقة، ولكن نثير سؤالا ماسا وهو: لماذا فتحوا للأخلاق والحقيقة حسابين؟

ما الفرق بين الأصول الأخلاقية وسائر الأصول التي نسميها حقيقة؟

وما يقال به خلود الأصول العلمية يجب أن يشمل الأصول الأخلاقية أيضا:
ولكن الحق أن يفصّل بين الفئتين:

يجب أن نلتفت في البدء إلى مسألة صغيرة ليعلم أن بحث خلود الأخلاق يهمنا كثيرا، وأنه مرتبط بخلود الإسلام.
وتلك المسألة هي أن الأخلاق سلسلة تعليمات.

ومن يرى التعاليم الأخلاقية غير ثابتة يرى التعاليم الإسلامية كذلك.
وهذا ينسخ كثيرا من الإسلام.

ولتكامل الحقيقة صلة بالإسلام أيضا، لكن صلة نسبية الأخلاق به أقوى منها.
فلماذا فصلوا الأخلاق عن الحقيقة؟

الحقيقة أصل نظري، والأخلاق أصل عملي.
فالحقيقة حكمة نظرية، والأخلاق حكمة عملية.

ولا يمكن لأصول الحكمة العملية أن تدخل حظيرة الحقيقة، لأن الحكمة النظرية تبيّن الحقائق الموجودة في الماضي والحاضر، فهي صورة الواقع على ما هو.
أما الحكمة العملية فمرتبطة بالإنسان، والبحث فيها مرتبطة بما يجب أن يفعله. فهي إنشاء.

والحكمة النظرية خبر عن الواقع، والبحث فيها يتناول مطابقتها للواقع وعدمها، وثبات هذه المطابقة وتغيرها.
وليس في الأخلاق خبر عن الواقع ولا مطابقة.

وتناولت كُتُبنا العقلين العملي والنظري بعنوان (عقلي الإنسان) أو (قُوَّتَيْه) لكنها لم تتناول التفاوت الأساسي بينهما تناولا كافيا، مع أنها دلت على بداية حسنة.
فقد بُحث العقلان بحثاً نفسِيَّ الطابع، فقيل: في الإنسان قوتان: إحداهما العقل النظري، والأخرى العقل العملي.

والعقل النظري قوة في النفس تكشف بها عما هو خارج عنها.
والعقل العملي سلسلة إدراكات تدبر بها البدن.

فهو مختص بطبيعة النفس، والعقل النظري مختص بما فوقها.
ولذا كانوا يقولون: للنفس كمالان: نظري، وعملي.

والفلاسفة يرون ماهية الإنسان وجوهره وكماله في العلم خلافا للعرفاء الذين لا يرون الكمال في العلم، لاعتقادهم بأن الإنسان الكامل هو الذي يبلغ الحقيقة لا الذي يكشف عنها.

وكانوا يقولون بشأن العقل العملي: إنه يسعى لتدبير البدن أحسن تدبير بسلسلة أحكام تمكنه من بلوغ الكمال.

ويرجع القدماء توازن البدن إلى الحرية، لأن النفس محتاجة إلى البدن، ولا تستطيع أن تبلغ الكمال النظري من دونه،ولهذا يجب أن تتعادل القوى.

والقوة التي تقيم هذا التعادل هي القوة العاملة.

وإذا تعادلت القوى لم يقهر البدن النفس، وإنما يكون مقهورا لها.

وكانوا يرون التوازن في خضوع البدن للنفس وقهرها له.

هذا ما قاله قدماؤنا، وربما لم يبحث أحد الحكمتين النظرية والعملية أكثر من الشيخ أبي علي1فقد قسم الحكمة في الإلهيات من الشفاء الى نظرية وعملية.

وزادها تفصيلاً في المنطق من الشفاء2 وربما كان تفصيلها في المباحثات3 أوسع منه في غيره.
وهذه المباحث القديمة مجتمعة بسطت يد التحقيق في هذه المسألة، لكنها تُوفِها حقها منه.
حتى العقل العملي ما زال يشوبه الإبهام.
ويظهر من كلام لهم أن العقل العملي هو قوة إدراك النفس، يعنون أن لعقلنا إدراكين هما: إدراك العلوم النظرية، وإدراك العلوم العملية.
ويستفاد من كلام آخر كلمة العقل مشتركة لفظا في العقلين العملي والنظري، وأن العقل العملي ليس من سنخ4 الإدراك فهو قوة عاملة لا قوة عالمة.

هكذا ورد في كلمات الحاج ملاّ هادي السبزواري. فالعقلان العملي والنظري ليسا واضحين في كلامهم.

ولا يعنينا كونهما قوتين أو قوة واحدة، ولا كون احدهما قوة عالمة والآخر قوة عاملة، حتى إذا أطلق العقل في الصورة الأخيرة على العقل العملي كان من باب الاشتراك اللفظي، يعني أن العقل العملي ليس في الواقع من سنخ العقل العالم.

ويذكر هنا أن ما بحثه السيد الطباطبائي في المقالة السادسة من أصول الفلسفة التي لم يسنح لنا التعليق عليها كان إبتكاراً ثميناً جداً لا ريب فيه.

ونقصه الوحيد أنه تصدى له وفكر فيه وبلغ غايته منه، لكنه لم يربطه بكلمات قدمائنا ليعرف جذر هذه المطالب في كلمات الشيخ وأمثاله، ويعلم العقل العملي والعقل النظري.

ولو أنه بدأ من كلماتهم ووصلها بكلماته، لكان خيراً. وعلة هذا القطع عن كلمات الفلاسفة القدماء هو أنه بلغ ذلك الابتكار عن أصول الفقه لا عن الفلسفة.

واستلهم القسم الأول من بحثه من آراء المرحوم الحاج الشيخ محمد حسين الإصفهاني في باب الإعتباريات، فقد اقتفاه ومضى، ولهذا لم يربطه بآراء الفلاسفة.

فقال: "كل ما نستنتجه مرتبط بالحكمة العملية، ومتعلق بعالم الأفكار الإعتبارية.
فالحكمة النظرية أو الحقيقة على وفق التعبير هنا معناها الأفكار الحقيقية التي هي الصورة الواقعية للأشياء.
والأفكار العملية معناها الأفكار الإعتبارية.
والأفكار الإعتبارية هي كل الأوامر والنواهي وكل ما يطرح في علم الأصول.
وقد طرحت في علم الأصول طرحا أحسن من طرحها في كل ماعداه".

وهو يرى الاعتبار فكرة حقيقية نطبقها ونعممها على أمر آخر، وليس للنفس أو العقل مثل هذه القدرة أن تبدع مفهوما مثل باب الحقيقة أو المجاز.

فكل مجازٍ عبارة عن حقيقةٍ مصداق واقعيتها ليس مجازاً.
وسواء قبلنا رأي السكاكي وقلنا: إن اللفظ يبقى على معناه، ونعتبر مصداقه شيئاً آخر، أم رددناه وقلنا: إن اللفظ يستعمل في غير معناه.
فالعقل ليس قادرا أن يخلق فكرة مثل مفهوم الملك دفعة، ولكنه يحفظ مفهوماً في صورة حقيقية يعتبره مجازاً لشيء آخر.

الحسن والقبح
من ها هنا بدأ وتقدم، واتسع الباب اتساعاً كبيراً يستوعب كل المفاهيم التي تذكر في الأخلاق كالحسن والقبح، وتراها إعتبارية.
فهل انتزع الحسن من الوجوب، أو الوجوب من الحسن؟

هذا ما بحثه مفصلاً. وكتب في النجف مقالة في العلوم الإعتبارية بالعربية تضمنها بحثه بالفارسية.

ووصل في مسألة الوجوب إلى أن كل وجوب ناشىء من أن الطبيعة لها أغراض في صميمها تسعى إليها، فالجماد والنبات والحيوان ينجز الأفعال غريزياً، والإنسان ينجزها فطرياً.
وتلك هي الطبيعة التي تتحرك صوب غايتها.

ويفعل الإنسان أفعالاً يريدها ويفكر فيها من أجل غاية لا ينالها إلا بإرادته.
وهذه الغاية هي في الواقع غاية الطبيعة التي لا تباشر الوصول إليها، وإنما تتذرع بالإرادة والفكر.
من هنا تمس الحاجة إلى الإعتبارات تلقائياً.

فطبع الإنسان كطبع النبات يحتاج إلى الغذاء، ولكنه يكسبه بالفكر والإدارة، بينما النبات يستمد غذاءه من التربة بجذوره الضاربة فيها.
والحيوان يندفع إلى غذائه من تلقاء نفسه بحكم غريزته التي لا تعرف ماهيتها.
ولا يفعل الإنسان هكذا، بل يفعله على وفق الإرادة التي لا يعلم أنها جهاز مسلط على جهاز الطبيعة.
فالإنسان يتحرك بجهازين: الطبيعة، والفكر والإرادة.

وجهاز الفكر والإرادة ينبغي تحقيق ما يصبو إليه جهاز الطبيعة.
فالغاية تظهر بصورة حاجة مثل اشتهائه الزاد.

وقدماؤنا بينوا مقدمات الإرادة، فقالوا: مقدمات الفعل الاختياري هي: تصوره، ثم التصديق بفائدته، والرغبة فيه التي اختلفوا فيها، ثم الجزم، والعزم، فتحصل الإرادة وبعدئذ يحدث الفعل الإختياري.

والسيد الطباطبائي يقبل هذه المقدمات، لكن الشيء الأساسي عنده هو الحكم الذي تحكم به النفس، لا الحكم النظري الذي كان القدماء يصدقون بفائدته.

بل هو حكم إنشائي يجب أن تفعل هذا.
وما يتكىء عليه هو أن كل فعل اختياري يضم حكماً إنشائياً واعتبارياً دائماً، مثل يجب فعل كذا ويجب عدم فعل كذا.
وهذا الوجوب هو الذي يجبر الإنسان على ابتغاء القصد الطبيعي.
وربما رد السيد كل الإيرادات إلى العلم.
وهذا كان مثل أكثر أعماله الأخرى التي هي في البدء فكرة تخطر له، فيتعقبها دون التفات إلى ما قاله الآخرون بشأنها.

وقد قلت له مرة: هل ما تقوله هنا موافق لما قاله القدماء في الفرق بين الحكمتين العملية والنظرية وتصريحهم بأن الحسن والقبح إعتباريان.
وإذ واجه قدماؤنا المتكلمين ذكروا للبرهان نوعاً من المبادئ.

وعندما ذكروا مبادئ للخطابة والجدل ذكروا الحسن والقبح، وصرحوا بأنهما لا يستفاد منهما في مبادئ البرهان، وعدوهما جزءاً من المشهورات، وضربوا قبح ذبح الحيوان عند الهنود لهما مثلاً.

ولو بحث أحد بآفاق الفلسفة لما واجه مسألة يستند إثباتها إلى الحسن والقبح خلافاً للمتكلمين الذين يستندون إليهما في كل مسألة مثل أن اللطف حسن، وهذا قبيح على الله، وذاك واجب عليه.

والفلاسفة يرون هذه أموراً اعتبارية، ويعدونها من المسائل النظرية غير القابلة للاستدلال.

وهذا يبين أنهم مثل العلامة الطباطبائي يرون الحسن والقبح اعتباريين.

والموضوع الآخر الذي يعطي حديث الطباطبائي الأهمية الكبرى هو أن شخصاً مثل راسل الذي جاء اليوم بفلسفة حديثة يعود كل ما جاء به إلى ما قاله الطباطبائي.
ولا ريب في أن الطباطبائي لم يطّلع على أفكار هؤلاء.

وما انتبهت إذ كتبتُ عنه أصول الفلسفة أنه جاء بفلسفة جديدة في العلوم العملية والأخلاقية هي أحدث ما قدمه العصر في الأخلاق.
وربما لاح له هذا النظر قبل حوالي أربعين سنة عندما كان في النجف، وهو مقارن لظهور نظر الأوربيين المشابه له لا متأخر عنه.
وهو لم يطلع على آرائهم قط.

ومن المحدثين راسل الذي فصّل هذا الموضوع تفصيلاً حسناً.
ومن يطالع تاريخ فلسفته، ولا سيما ما يخص نظرية أفلاطون يجد رأي راسل في هذه المسألة.
فأفلاطون تحدث في الأخلاق حديثاً رفيعاً، لكنه رأى الحكمتين النظرية والعملية نوعاً واحداً، ونظر إليهما بعين واحدة، وتناول الخير في الأخلاق قائلاً: الأخلاق هي أنه يجب أن يطلب الإنسان الخير الذي هو حقيقة مستقلة عن النفس الإنسانية تجب معرفتها.

أي أن ما يطلبه الإنسان في باب الأخلاق وفي باب الحقيقة واحد.
فهو مثل الرياضيات التي تبحث في الأعداد المستقلة عن ذهننا، والطب الذي يتناول موضوعات خارج الذهن.

فيظهر من قول أفلاطون أن الخير الأخلاقي موجود مستقل عن الإنسان الذي يجب عليه أن يعرفه كما يعرف الحقائق الأخرى.
من هنا يتضح أن قدماءنا ألفوا بين أقوال الماضين، فاصطفوا الحسن، واطرحوا سواه من غير أن يدلوا على المصطفى منها والمطرح.

وقد استقوا كثيراً من قول أفلاطون في الأخلاق، لكنهم استبعدوا منه ما ذكرناه آنفا، وهو جدير بالاستبعاد.

وضمن نقل راسل لرأي أفلاطون يعرض رأيه هو قائلاً: يجب أن نفتح مسألة الأخلاق ونرى ما يتجلى لنا منها، فكيف فكر أفلاطون الذي قال: للخير وجود فيما وراء وجودنا؟
وقدم هنا جواباً هو رأي السيد الطباطبائي نفسه قال: أصل الحسن القبح مفهوم نسبيّ يطرح في علاقة الإنسان بالأشياء، فعندما يكون لنا غاية نريد بلوغها نقول: هذه وسيلة حسنة؟

والآن ما معنى هذه وسيلة حسنة؟
معناه وجوب التوسل بها إلى غايتنا، وحسن هذه الوسيلة هو هذا الوجوب لا صفة واقعية لتلك الوسيلة.
فقد حسب أفلاطون الحسن والقبح موجودين في الأشياء وجود البياض والكروية وأمثالهما فيها، وهما ليسا كذلك.

وقولنا: الصدق حسن يعني أنه حسن بالنسبة لأمر معين.
أي: أنه حسن، لأنه يوصلنا إلى ذلك الأمر، لا لأنه حسن للجميع.

وبالتحليل المنطقي وصل رسل وآخرون إلى أن الحسن والقبح اعتباريان، وأن ما ابتلى به الفلاسفة حتى اليوم هو أنهم ظنوا المسائل الأخلاقية كالمسائل الرياضية والطبيعية، وفكروا فيها كما يفكرون في هذا المسائل.

فعدوا البحث في الأخلاق عن حسن عمل وقبحه كالبحث في الطبيعة عن الجاذبية مثلا.
فالحسن والقبح عندهم مما يكتشف، وهما ليسا كذلك.

فلو صدق أحد أو كذب في قوله: الظلام حالك لما أتصف ظرف قوله، أعني الوجود العينيّ للظلام بصفةٍ عينيّة اسمها الحسن، بصفة غير عينيّة اسمها القبح.
وذلك لأن هاتين الصفتين ليستا من صفات الشيء نفسه.
وإنما هما من صفات توصيله وعدم توصيله إلى غاية معينة.

واعتبر الصدق حسناً، لأنه لا يوصل إلى هذه الغاية، فيجب أن يقال.
واعتبر الكذب قبيحاً، لأنه لا يوصل إليها، فيجب ألا يقال.
وهذا يعني أنه ليس لدينا هنا سوى وجوب القول وعدمه.

والحسن والقبح ينتزعان من هذا الوجوب وعدمه.
وليست نتيجة هذا الكلام أن الأخلاق لا حقيقة لها.
وما جاء به هؤلاء جديد للغاية في نظرهم، وهو مورد اهتمام الفلسفة الأوربية الآن ومحط قبولها
وهو عندهم ناسخ للنظريات الأخلاقية كنظرية أفلاطون وارسطو وكانت وأمثالهم.
وقلنا: إن ما جاءوا به قد ورد في كلام الحكماء الإسلاميين.
ونقص عمل السيد الطباطبائي هو أنه لم يربطه بآراء حكمائنا القدماء.
وكان الأستاذ الحائري يقول: إن الأوربيين سألوه في الامتحان عن هذه النظرية وهذا حاكٍ عن تعاطيهم لها.

ما الرابطة بين العلوم النظرية والعملية؟
والعلوم النظرية في اصطلاح العصر هي النظرة إلى الكون.
والعلوم العملية هي المنطق والجدل والفلسفة المادية.
فكيف نحصل على نتيجة من مقدمات من أصل الحقيقة الذي هو من سنخ الإنشاء؟

ولا إشكال في كون المقدمات خبرية والنتيجة خبرية.
فتقول مثلاً: ألف مساوٍ لباءٍ، وباء مساوٍ لجيمٍ.
فألف إذن مساوٍ لجيم.
وهنا حصلت نتيجة خبرية من مقدّمتين خبريتين.
لكن كيف نحصل على نتيجةٍ إنشائية من مقدمتين خبريتين؟
هل هناك قياس مقدمتاهُ خبريتان ونتيجته إنشائية؟
لا نريد أن نقول لا.
فما تحليله إذا كان موجوداً؟
وهذا محل نقاشٍ حاد في أوروبا استنتج منه رسل وأمثاله أنه ليس هناك أصول أخلاقية دائمة.
إلى هنا استنتجنا ما نريد من أن الحسن والقبح ليسا صفتين عينيتين للأشياء يجب اكتشافهما على نحو ما يجري. في العلوم العصرية.
أي أن من يسلك هذا السبيل إلى الأصول الأخلاقية لا يدرك غايته، لتشابه الأمر الاعتباري عليه بالأمر الحقيقي.

هل الاعتباريات ثابتة أو متغيرة؟
أو هل هي نوعان: ثابت ومتغير؟

فهذه مسألة متصلة، ولنا مناقشة للغربيين فيها.
والسيد الطباطبائي يرى الاعتباريات نوعين: ثابتا ومتغيرا.

ولم يبحث كثيرا عن الاعتبارات الثابتة على نحو ما فعل بالمسألة برمتها، لكن أساس نظريته هو أن لدينا اعتبارين.
وضرب العدل والظلم ونظائرهما أمثلة للاعتباريات الثابتة، وقال: حسن العدل وقبح الظلم أمران اعتباريان ثابتان لا يتغيران، ولدينا الكثير من الاعتبارات المتغيرة أيضا.
من هنا يجب أن ندخل بحث الواجبات.

ولا ريب في أن بعض الواجبات فردي وجزئي، فالمحتاج إلى درس معين يقول: يجب أن أتلقى هذا الدرس وغير المحتاج إليه يقول: يجب ألا أتلقى هذا الدرس.
وكل من المتحاربين يحارب لوجوب معيّن.
فالوجوبات الفردية الجزئية لا ريب في نسبيتها، أي أنها تتغير من امرئ لآخر.
فعندما أقول: هذا الغذاء لذيذ لي، فإن فيه جانباً نظرياً هو علمي بلذته.
كما أنه في جانباً عملياً هو وجوب تناوله.

والمسألة في الأخلاق هي: هل هناك سلسلة وجوبات يعمل الناس على أساسها عملا واحدا؟
هل لدينا من قبيل ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا5. و ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ الخيرات6.
والطباطبائي يفرق بين (أوحينا إليهم فعل الخيرات) و (أوصينا إليهم أن افعلوا الخيرات)

الوجوبات الكلية
إذا كان لدينا مثل هذه الوجوبات، فكيف توجه مع المقاصد الجزئية؟
ومن هنا نصل إلى نتيجة عالية هي أن لا يكفي لفرق الحكمة النظرية من العملية أن نقول: هذه مجموعة وجودات، وتلك مجموعة وجوبات.

وهذا لا يكفي لتفسير الحكمة العملية، لارتباطها بالوجوبات الكلية.
فالصناعة مرتبطة بعدة وجوبات، لكنها لا تستطيع أن تكون حكمة عملية، لأن وجوباتها جزئية.

والوجوبات الكلية هي تكون في جميع الأذهان.ولا تكون لمقاصد جزئية.
وأصل هذه الوجوبات القبول بأن الروح مجردة، وأن الإنسان غير محدود بالطبيعة المادية، وهذا نفسه من أدلة تجرد النفس.

وقد وصل كانت أيضا إلى تجرد النفس بالمسائل الأخلاقية.
والإنسان محتاج بدنياً إلى أشياء محدودة متفرقة نسبية، فاحتياج زيد يخالف احتياج عبيد.

وموجبات هذه الاحتياجات الفردية متناقضة جدا، ولذا كانت غير أخلاقية.
ومثلما تجر الطبيعة المادية الإنسان تجره الروح إلى مكانة عالية، ولذا سخر لها إرادته وفكره.

وتريد الطبيعة المادية للإنسان أن تبلغ الكمال بسد الحاجة إلى الغذاء.
فنحن على ما يقول شوبنهاور: نلقي في أفواهنا اللذيذ والحلو، وننطلق وراء اللذة في عالم الفكر، ولا نعلم أن الطبيعة تريد أن تبلغ غايتها فينا، ولهذا أتاحت لنا اللذة، فإذا كنا نبحث عن اللذة في عالم الفكر نتحرك في الوقت نفسه صوب مقاصد الطبيعة.

فالطفل مثلا يبكي، لأن الطبيعة تريد أن تهبه النضج فهو لا يبكي من إحساسه بالألم فقط، بل الطبيعة تعلن حاجته بهذه الوسيلة، وتتيح له الإحساس والإدراك.
وللإنسان سموّ روحي لعل أصله هذا الشرف والكرامة المستقران فيه وبعض الوجوبات مسخرة لبلوغ هذا الكمال.

فعندما يقول: يجب أن أفعل كذا، فإنه يعني أن يبلغ ذلك السمو، وإن لم يظهر هذا القصد في شعوره.
وهذه المعاني مشتركة بين الناس، ولذا يحسون بها إحساسا واحدا.
والتوجيه الثاني للوجوبات الكلية هو مسألة الطبع الاجتماعي، إذ يقال: إنه فُطِر على الاجتماع، وإنه منح سلسلة من البواعث لسدّ حاجاته الاجتماعية لا الفردية فحسب.

فهو مفطور على سد الحاجات الفردية والاجتماعية.
ولولا هذا الميل الاجتماعي لديه لما نشأ هذا الوجوب لذلك، فأنا أعمل كذا ليشبع فلان مثلا، ولو لم يكن له صلة بي لما نشأ هذا الحكم.

وهذا الحكم مرتبط بالأنا الأعلى فرديا كان أم اجتماعيا، وهذا الأنا الأعلى يريد الوصول إلى مقصده، وهو الذي يرغمني على الأفعال الأخلاقية التي هي أصول ثابتة، أي: وجوبات لا تتغير.
وهي كلية، ولدى الناس جميعاً، ودائمة لا مؤقتة.

والمسألة الأخرى التي قالها هي فلسفة الوجود، وفلسفة الصيرورة.
وفلسفة الوجود مرتبطة بثبات الأخلاق، فهي ترى أن الأخلاق خالدة، وأن هذا الأصل الأخلاقي صحيح إلى الأبد.

فيما تراه فلسفة الصيرورة نسبياً موقتاً معتبراً في زمان، وغير معتبر في آخر.
وهذه المسألة مهمة جداً، لأنها لا تختص بالأخلاق وحدها، بل تشمل الأحكام أيضا.

فهؤلاء يعتقدون بأن الحقائق متبدلة لا تستقر على حال أبدا، حتى الدستور كذلك، لأن الفرق بين الحقيقة والأخلاق أن الأولى خبر، والثانية إنشاء.
ولا بد أن تشمل الأخلاق بهذا التبدل الدائم.

*ثبات الأخلاق، الشيخ مرتضى مطهري،دار المحجة البيضاء،ترجمة لجنة الهدى،ط 1 - عام 1414هـ ـ1993م،ص5ـ28.

1- أراد الشيخ الرئيس الحسين بن عبدالله بن سينا الفيلسوف الطبيب الفقيه الأديب المولود في صفر سنة سبعين وثلاثة مئة للهجرة أي في آب سنة 980 للميلاد
2- الشفاء من كتب الشيخ بالعربية وهو أربعة أقسام: المنطق، والرياضي، والطبيعي، والإلهيات
3- كتاب له أيضا نشره الدكتور عبدالرحمن بدوي في كتابه أرسطو عند العرب سنة 1947
4- سنخ: اصل
5- الشمس8
6- الأنبياء73
2011-03-31