عطاء الصوم
في رحاب الشهر المبارك
كم يختلف الناس في شخصياتهم ومواقفهم ومستوياتهم؟ فتجد فيهم الشجاع الذي يتفجر بطولة وصمودا ويهزأ بالمخاوف ويخوض غمار المخاطر تحت شعار: "لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا ". وعلى العكس من ذلك تجد الجبان المستسلم، الذي يخاف من ظله وينزعج من أطياف منامه، وينهار أمام أقل خطر محتمل!!
عدد الزوار: 72
الإرادة القوية
كم يختلف الناس في شخصياتهم ومواقفهم ومستوياتهم؟ فتجد فيهم الشجاع الذي يتفجر بطولة وصمودا ويهزأ بالمخاوف ويخوض غمار المخاطر تحت شعار: "لا نبالي أوقعنا على الموت أم وقع الموت علينا ".
وعلى العكس من ذلك تجد الجبان المستسلم، الذي يخاف من ظله وينزعج من أطياف منامه، وينهار أمام أقل خطر محتمل!! وترى في الناس العالم المشغف بحب العلم، المتعطش للمعرفة، والذي يبذل ساعات عمره وطاقات جهده، في سبيل العلم والمعرفة.. وفي المقابل ترى الجاهل الذي يسأم الدراسة ويتهرب من العلم والثقافة.
وفي الناس الشخصية الرزينة المتسامية عن الإغراءات والشهوات.. وفيهم الشخصية الحيوانية المائعة التي تسقط لأبسط إغراء، وتنزلق عند اقل شهوة!!
لماذا يختلف الناس هكذا؟
ترى ما هو سبب اختلاف مواقفهم وشخصياتهم؟
هل أن هناك فارقا فسيولوجيا سبب لهم هذا التفاوت؟ كلا، فتركيب جسم البطل الشجاع لا يختلف أبدا عن تركيب جسم الجبان الخائف.. وهيكل العالم العارف لا يفرق أبدا عن هيكل الجاهل الغارق في الجهل..
وفسيولوجية الشخص الرزين هي نفس فسيولوجية الشخص المائع. إذا فلماذا الاختلاف؟
هل الظروف والأجواء المعيشية والاجتماعية هي التي تفرض هذا ا لاختلاف؟
كلا، فصحيح أن الأجواء الاجتماعية والظروف المعيشية لها دخل في تكوين شخصية الإنسان، ولكن لا تعدو أن تكون عاملا مساعدا ومشجعا على اتجاه معين بيد أنها ليست العامل الأساس والسبب الرئيسي الوحيد.
والدليل على هذه الحقيقة واضح جدا فقد يعيش إنسان في ظروف تتهيأ له فيها أجواء الدراسة، وتتوفر أسباب العلم.. ولكنه في الأخير لا يتوفق للعلم رغم كل الأجواء المساعدة بينما يعيش إنسان آخر في أجواء وأوضاع يصعب عليه فيها طلب العلم ولا تتأتى له أسباب الدراسة. ولكنه يصارع الأجواء ويتغلب على تلك الظروف ليصبح عالما عملاقا!! وفوق ذلك فقد يعيش شخصان في جو واحد وظروف متشابهة ثم تختلف شخصيتهما فيما بعد !! أليس كذلك؟.
إذا فما هو السبب الرئيسي في صياغة شخصية الإنسان وتحديد مواقفه؟
إنه ليس شيئا من خارج الإنسان يفرض على الإنسان اتجاها خاصا يلبسه شخصية معينة.. وإلا لما كانت للإنسان أية قيمة حقيقية مادام آلة بيد الأوضاع الخارجية المفروضة عليه والتي لا يد له في صنعها.. وحينئذ فلا دور له إلا دور التنفيذ الذي لا يملك محيصا عنه. إذا فلماذا يتوجه إليه الذم أو المدح، وينال العقاب أو الثواب؟
إنما السر الحقيقي يكمن في أعماق نفس الإنسان، ويقبع في داخله.. انه تلك الملكة العظيمة، والجوهرة السامية، وافية الغالية، إنها الإرادة!!
الإرادة هي الفارق المميز بين الإنسان وبين سائر المخلوقات يقول الله {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها أتشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا} وكانت الإرادة هي تلك الأمانة..
والإرادة تعني القدرة على التصميم والإصرار على تحقيق الهدف فحينما يصمم الإنسان على أمر ما ويمتلك القدرة على الصمود من اجل تحقيق ذلك الشيء، فانه لابد وان يصل إلى ما أراد أو يغادر الحياة دون أن يعترف بالعجز أو الفشل !!
فالطالب الذي يريد الوصول إلى مستوى علمي، ويصمم على بلوغ ذلك لابد وأن يجابه كل العوائق والظروف بصموده وإصراره، ويتحمل السهر والتعب والعناء والهجرة والفقر، إلى أن يصل إلى ما يصبوا إليه بقوى إرادته..
والشعب الذي يواجه عدوا مستعمرا وتتحرك فيه إرادة التحرر ويصمم على ذلك، فانه سيكون مستعدا للبذل والتضحية والعطاء حتى ينال الاستقلال والحرية.. كما حدث ذلك بالفعل للشعب الجزائري المسلم الذي واجه طغيان الاستعمار الفرنسي بكل شجاعة وصمود وقدم ما يزيد على مليون شهيد، حتى طرد الاستعمار الأثيم وعاش الحرية والاستقلال..
والإنسان الذي يتعرض لإغراء الشهوة وبريق الانحراف إذا ما تنبهت لديه إرادة التقوى فان جميع وسائل الإغراء ودواعي الشهوة ستتحطم إمام صموده وإرادته..
وقد خلد لنا القرآن تجربة ناجحة في هذا المجال مر بها نبي الله يوسف- عليه السلام- الذي كان أجمل شباب عصره وساقته الظروف إلى بيت سيدة مصر زوجة العزيز الفائقة الجمال، وقد أغرمت به وعشقته أبرزت له كل وسائل الإغراء والشهوة وهيأت كل الأجواء والظروف، ولكنه أراد أن يكون عفيفا رغم كل ذلك. يقول القرآن الحكيم: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾1.
هكذا تمارس الإرادة دورها في حياة الإنسان وتوجه سلوكه وتصوغ نفسيته..
ولكن هل يختلف الناس في مستوى أرادتهم وقوتها؟ وإلا فلماذا يمتلك بعضهم إرادة فولاذية قوية بينما يعاني الآخرون خواء الإرادة وضعفها؟
في الواقع إن مستوى الإرادة واحد عند جميع الناس والقوة والضعف في الإرادة ليس صفة تكوينية أصيلة و إنما هي صفة كسبية ثانوية ينالها الإنسان من خلال ممارساته وحياته تماما كالعضلات التي يمتلكها كل فرد منا بينما نختلف في قوة هذه العضلات وضعفها بسبب ممارسة الرياضة والتدريب ومحاولة التقوية..
فعضلاتك يوم ولدت ليست بأقوى من عضلاتي يوم وردت الدنيا، ولكنك لو تعبت على نفسك ومارست رياضة تقوية العضلات بالتمارين ورفع الأوزان الثقيلة وما أشبه ستكون أقوى عضلا مني إن لم أمارس و أتدرب مثلك أليس كذلك؟
وهكذا يكون الأمر في الإرادة النفسية فالإنسان الذي يحاول ترويض نفسه وتدريب إرادته وممارسة الصمود والإصرار منذ بداية تفتحه ش وجميه للحياة.. هذا الإنسان تتوفر له إرادة حديدية فيما بعد.. عكس الإنسان الذي يعيش على أهوائه ويلبى شهواته ولا يؤذي نفسه بالصبر والصمود..
من أجل إرادة فولاذية.
من هنا فقد ركزت النصوص والتعاليم الإسلامية على ضرورة ممارسة رياضة النفس لتنمية الإرادة عند الإنسان باعتبارها مفتاح سعادة الإنسان وسر نجاحه وتقدمه..
يقول الله تعالى ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى2﴾.
ويحذر سبحانه وتعالى الإنسان من الانسياق مع أهواء نفسه وشهواتها، فإنها تورده حياض السوء وتسقطه في حضيض الانحراف، يقول الله تعالى ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ3﴾.
أما الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فيعتبر جهاد النفس ومحاربة أهوائها أهم وأعظم من جهاد العدو الخارجي حيث يقول: " الجهاد الأكبر هو جهاد النفس ".
ويقول الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: " أشجع الناس من غلب هواه ".
وعن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: " سألني رجل عما يجمع خير الدنيا والآخرة؟ فقلت: خالف نفسك ! ".
وعن الإمام الصادق عليه السلام: " طوبى لعبد جاهد نفسه وهواه ومن هزم جند هواه ظفر برضا الله ".
ولكن كيف يمارس الإنسان رياضة النفس ويقوي إرادته بالتدريب؟ إن ذلك لا يتم إلا بأن يتعمد الإنسان مخالفة نفسه، والتمرد على أهوائه في الأمور العادية والمباحة حتى تتقوى إرادته وتكون قادرة على الصمود إمام الأمور الخطيرة والمحرمة.
وفي رمضان يفرض الله تعالى على الإنسان هذه الرياضة والتدريب، حيث يحرم عليه أمور هي في حد ذاتها مباحة وعادية يمارسها الإنسان في كل يوم، كالأكل والشرب، وذلك من أجل تقوية إرادة الإنسان وتنمية صموده النفسي.
فأنت متعود في كل يوم أن تتناول وجبة الإفطار صباحا، والغذاء ظهرا، وأن تشرب الماء كلما عشت وأن تتناول ما يقدمه لك صديقك حين تزوره.. وكل ذلك شيء طبيعي وعادي في جميع أيام السنة... ولكن ما إن يطل عليك هلال شهر رمضان حتى تتخذ قرارا جديدا صارما بالامتناع عن كل ما تعودت على تناوله في سائر الأيام !!
فطعام الإفطار والغذاء متوفر أمامك في البيت ونفسك تتوق للأكل، ولكنك تقول لنفسك وبصوت الإرادة: لا.. وتعطش ويلدغك الظمأ وتحن نفسك إلى الماء البارد، أو العصير اللذيذ، ولكن إرادتك تعلن رفضها وإصرارها على تنفيذ قرار الامتناع وتقول لك: لا.
وتأوي إلى فراشك فتجد زوجتك التي أباحها الله لك وقد ترتفع لديك درجة الحرارة الجنسية، وتثور شهوتك وما أن تنتبه لنفسك انك صائم حتى يرتفع هتاف الإرادة من أعماق نفسك: لا.
وهكذا تستمر فترة التدريب والرياضة معك طيلة شهر كامل حتى تتقوى عضلات إرادتك وينمو صمود نفسك، وتكون قادرا على ممارسة الإرادة وعلى قول: لا في الوقت المناسب وأمام أي كسل أو إغراء أو شهوة.
ولا ننسى أن نشير إلى مفعول الإيحاء النفسي لدى الإنسان عند الصوم. فقد يتساءل الإنسان الصائم مع نفسه: لماذا أتحمل الجوع؟ ولماذا أعاني قسوة العطش؟ ولماذا احرم نفسي من الالتذاذ مع زوجتي؟؟ ويبرز أمامه جواب عريض على شاشة نفسه: لأني قررت الصيام والامتثال لآمر الله تعالى.. ويتكرر السؤال فيتأكد الجواب، وبذلك تتقوى الإرادة هذه الإرادة.
هذه هي الحكمة الأساسية من فريضة الصوم: تقوية، ولكن المشكلة أن كثيرا من الصائمين يغفلون عن هذا الهدف العظيم، ويمارسون الصوم كعادة سنوية، دون أن يحاولوا التنبه إلى غاية الصوم المهمة!! وهؤلاء في الحقيقة لا يستفيدون أبدا من صيامهم إلا الفائدة الصحية التي يجلبها لهم الجوع والعطش لذلك ورد في الحديث الشريف: " رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ". والآن- عزيزي الصائم- أنتقل معك إلى بعض الأحكام التفصيلية للصوم، والتي يبرز منها التركيز على الجانب الإرادي.
الصوم حرمان هادف
الإنسان هذا الكريم على الله.. والذي خلق الله الكون وما فيه من اجله وسخره لخدمته..
هذا الإنسان لماذا يفرض عليه هذا الحرمان القاسي من طعامه وشرابه ولذاته- لمدة شهر-؟!!
الواقع إن فرض هذا الحرمان لم يكن تشهيا ولا اعتباطا فهو صادر عن جهة حكيمة لا تعرف العبث والتشهي، انه حرمان هادف نابع من صميم مصلحة الإنسان وخيره، وأقل ما نستطيع أن نصوره أنه كالحرمان الذي يفرضه الطبيب على مريضه ليس إلا ليودع المرض ويعانق الشفاء سريعا.
ونسجل هنا بعض النقاط التي يهدف إليها هذا التكليف الشاق:
ا- يعيش الإنسان طوال السنة يتقلب بين أطباق الطعام الشهي والشراب اللذيذ وفي أحضان الجنس الناعم، فتشغله لذة هذه النعم وتستولي على تفكيره، فيغفل عن ما خلفها من منعم متفضل وما تستلزمه من شكر متواصل...
فالإنسان قد لا يقدّر النعم مادامت متوفرة له وإنما يراها كشيء طبيعي ناله باستحقاقه لا فضل لأحد عليه به، ولكن إذا فقد إحدى النعم فحينئذ يشعر بقيمتها وبالفراغ الذي تركته، ومن هنا انطلقت الحكمة التي تقول: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى.
والصوم موعظة عملية يحرم فيها الإنسان من النعم التي تغمره طوال السنة ويحس بألم الحرمان.. فيشعر بقيمة تلك النعيم ويعرف قدرها، ويفكر في فضل المنعم عليه بها، فيتوجه إلى الله ويشكره على تلك النعم ويطلب إليه دوامها واستزادتها.
2- نظام الحياة يقتضي وجود التفاوت بين الناس اقتصاديا، فالناس ليسوا في مستوى واحد من الطاقات والقوى فمن الطبيعي أن يكون نصيب الأقوى من خيرات الكون أكثر من نصيب الضعيف.
ولو كان الناس كلهم في مستوى واحد لفقد التعاون والتفاعل بينهم لعمارة الحياة. فالعامل إذا كان مليونيرا فعلى ما يجهد نفسه في العمل، والكناس إذا كان ثريا فسوف لن يتنازل إلى مستوى الكناسة.. يقول القرآن الحكيم ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا4﴾.
ومن ناحية أخرى فإن الله خلق الحياة كمرحلة ابتلاء وامتحان للبشر، وتفاوت المستوى الاقتصادي شكل من أشكال الامتحان و ﴿وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ﴾5.
وإذا كان من الحكمة وجود هذا التفاوت الاقتصادي فليس من العدالة أن تستأثر فئة بخيرات الكون وثروات العالم وتتفرج على بقية الناس يعانون من ألم الفقر والحرمان!
فما هو العلاج الصحيح لهذه المشكلة الإنسانية؟
الحضارة المادية بلونيها الرأسمالي والاشتراكي أخفقت في حل هذه المشكلة وأثبت الواقع فشلها.
فالمذهب الرأسمالي يوسع شقة التفاوت بين الناس وينمي الطبقية البغيضة في المجتمع بما يتيح للأثرياء من حرية فردية تجعلهم يتفننون في امتصاص ثروات المجتمع..
وكذلك المذهب الاشتراكي الذي يغذي روح الفرقة والعداوة بين طبقتي المجتمع، فهو يغرس في قلوب الحمال الحقد والبغض على الطبقة الثرية ويحكم على الطبقة العاملة أن تعيش صراعا مستمرا ضد الطبقة الأخرى، وبالطبع لا تطيب نفوس الأثرياء أن تسلب منهم أموالهم بقوة وعنف!
بالإضافة إلى ما نتج عن هذين المذهبين من مضاعفات خطيرة لم تعد خافية على صعيد الواقع..
أما الإسلام وهو الدين السماوي الخالد فقد قدم للمشكلة علاجا إنساناً ناجحا حيث فرض للفقراء النصيب الوافر في أموال الأثرياء ووضع الطرق السليمة العادلة التي تضمن لهم حقوقهم.
وأول مرحلة يقوم بها الإسلام في هذا المجال هي: توليد التعاطف والتراحم بين الطبقتين واستعمل لذلك نوعين من الأسلوب:
أسلوب فكري: - ففي الآثار الإسلامية كتابا وسنة أحاديث كثيرة تحث على مراعاة الفقراء والمساكين وترغب في إنعاشهم ورفع مستواهم المعيشي..
وأسلوب عملي: - وذلك أن فرض على الإنسان فترة من الحرمان تذكره بتلك الأغلبية من الناس التي تعيش مثل هذه الحالة طوال حياتها.
فالإنسان في الصوم حينما يضنيه الظمأ ويزعجه الجوع وترتفع عنده درجة الحرارة الجنسية.. وحينما يحس بألم الحرمان وقساوته.. يفكر في حالة هؤلاء الفقراء والمساكين والذين يعيشون هذه الصعوبة والحرمان دائما وأبدا.
وحينما تتولد الرحمة وينشأ العطف فسيكونان بداية ناجحة لحياة تعاون ورفاه للطبقتين.
يقول الإمام الصادق عليه السلام: " أما العلة في الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأن الغني لم يكن ليحس الجوع فيرحم الفقير لأن الغني كلما أراد شيئا قدر عليه، فأراد الله عز وجل أن يسوّي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع ".
وسئل الإمام الحسين عليه السلام: "لِمَ افترض الله عز وجل على عبده الصوم؟ فقال عليه السلام: ليجد الغني مس الجوع فيعود بالفضل على المسكين ".
صوموا تصحوا
ليس تطفلا من الإسلام أن يعنى في تشريعاته بشؤون الجسم كما يعني بشؤون الروح.. وأن ترمز بعض أحكامه إلى الناحية الصحية لبدن الإنسان.. فهو الدين الذي أعلن من أول يوم أنه دين الدنيا والآخرة والمادة والروح، وليس كبقية الأديان التي كانت تصرح بتحيزها إلى أحد الجانبين على حساب الآخر..
الإسلام يؤمن بأن العقل السليم في الجسم السليم، وبأن الإنسان الذي تتوفر لديه الصحة والحيوية في جسمه بالإضافة إلى سلامة نحره وطهارة روحه.. هذا الإنسان يستطيع أن يقوم بدوره في الحياة خير قيام، وحينما يتحدث القرآن الكريم عن المؤهلات القيادية لطالوت عليه السلام يقول ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾.
لذا وضع الإسلام أحكامه الوقائية لتجعل الإنسان بعيدا عن متناول المرض والإصابة والوقاية خير من العلاج، فحظر على الإنسان المواد التي تعمل للفتك بصحته وإن كانت تبدأ بأسلوب خفي ضئيل لتتفاقم فيما بعد..
فحرم الميتة والدم ولحم الخنزير والنجاسات والمسكرات ولبس الذهب والحرير (بالنسبة للرجال)..
ولكن ليست المواد الضارة هي المصادر الوحيدة للأمراض! فحتى المواد النافعة قد تسبب للإنسان أمراضا خطيرة! وذلك حينما يفقد التوازن في تناولها.
فأكثر الأمراض يكون سببها هو فقدان الاعتدال في الأكل والشرب والجنس. يقول أحد الأطباء: " إن معظم الناس يحفرون قبورهم بأسنانهم "، وقام بعض الأطباء بدراسة دقيقة حول الإنسان المعاصر وأسلوب التغذية وصرح بعده: " بأن الناس يأكلون ثلاثة أضعاف حاجتهم وهم بذلك يجلبون الأمراض لأنفسهم ".
فكيف يخطط الإسلام للوقاية من هذا المرض الخطير؟
إنه يضع تعاليمه الحكيمة لتوعية الناس نحو تغذية أفضل لتجنب مضاعفات الغذاء، فهذا القرآن الكريم يخاطب الناس ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ﴾ ويقول صلى الله عليه وآله وسلم: " المعدة بيت الداء ".
ولكي يتعلم الإنسان كيف يتغلب على هذه المشكلة، ويتدرب على التوازن والاعتدال في أكله وشربه فقد فرض عليه الصوم حيث يمتنع هو من نفسه وباختياره عن الطعام والشراب قليله وكثيره مهما كان الطعام شهيا أو كان هو جائعا.
وتستمر به هذه الفترة التدريبية لمدة شهر يتعود خلالها على التوازن ويتمرن على ضبط النفس وتنظيم الغذاء فيأكل ليعيش لا يعيش ليأكل..
ومن ناحية أخري فالصوم يتيح للجهاز الهضمي والذي يعمل باستمرار فرصة ارتياح وهدوء بعد تعب طويل يستعيد فيها نشاطه ليعود بعدها إلى العمل..
وكذلك فإن الصوم- كما يقرر الأطباء- يقضي على البؤر الصديدية التي تتكون داخل الجسم وتصب إفرازاتها السامة في الدم غير أن الإنسان قد لا يشعر بها حتى يتضاعف خطرها.. وفي الصوم عندما تقل المواد الغذائية في الجسم وتدب الأجهزة الداخلية في الاستهلاك فتحتوي تلك الخلايا وتريح الإنسان من خطرها.
ويعرض الأطباء قائمة من الأمراض التي يمكن أن يستعان بالصوم في علاجه: كاضطراب الهضم، البدانة، أمراض القلب، القلق، التوتر العصبي، البول السكري، ارتفاع ضغط الدم، تذويب الشحم الزائد…
وبالتالي، نجد كلمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ترتسم أمامنا بخط الواقع العريض: " صوموا تصحوا ".
ويقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: " الصيام أحد الصحيتين ".
1- يوسف:23.
2- النازعات:40- 41
3- يوسف:53
4- الزخرف:32
5- الأنعام:165