العائلة الرأسمالية الامريكية
أبحاث في المجتمع
لاشك ان ايمان العائلة الامريكية بالنظرية الرأسمالية كان قد اوقعها في وضع مأساوي خطير، بسبب افتقاد النظرية لمنهج موضوعي ينظم الحياة العائلية ويساهم في بنائها العلوي. وبطبيعة الحال، فان الاحصاءات الحكومية تعكس واقع هذاالوضع الاجتماعي...
عدد الزوار: 236
لاشك ان ايمان العائلة الامريكية بالنظرية الرأسمالية كان قد اوقعها في وضع مأساوي خطير، بسبب افتقاد النظرية لمنهج موضوعي ينظم الحياة العائلية ويساهم في بنائها العلوي. وبطبيعة الحال، فان الاحصاءات الحكومية تعكس واقع هذاالوضع الاجتماعي. فعشرين بالمائة من مجمل الولادات في امريكا في العقود الاخيرة من القرن العشرين لاتحصل نتيجة الزواج الشرعي المتفق عليه اجتماعياً، وربع حالات الحمل تنتهي بالاجهاض، ونصف عدد الزيجات في امريكا تنتهي بالطلاق 1، وعشرين بالمائة من البالغين الامريكان يعيشون حياة العزوبيةاختياراً 2، علما بان وسائل الزواج ميسورة. وهذه الصورة الاجتماعية القاتمة دليل على فشل النظرية الرأسمالية الغربية في تقديم حل اجتماعي مقبول لمعالجة مشاكل الانسان الحياتية، خصوصاً في عصر تدعي فيه النظرية الرأسمالية نجاحها الباهر في كل الميادين العلمية والتقنية والاقتصادية.
واذا كانت صورة الحاضر تعيش ضمن هذا الاطار المنحل، فان صورة الماضي انما اختلفت في الشكل لا الجوهر. فخلال الحرب الاهلية الامريكية، على سبيل المثال، كان القانون الرأسمالي الامريكي يمنع الزنوج من التزاوج فيما بينهم ويسمح لهم بممارسة عملية الجماع دون زواج شرعي لغرض انجاب العبيد وبيعهم في اسواق النخاسة. لان العبد، في العقيدة الرأسمالية ، ملك للسيد المالك حتى في القضايا الخاصة وليس له الحرية في اختيار الشريك في عملية الزواج او في اي عمل آخ . وبذلك تدر عملية الجماع هذه اموالاً على المالك، دون الاكتراث لشرعية الزواج او الاهتمام بحق الانسان في التزواج الطبيعي والتأهيل العائلي. وكان معتنقو مذهب المورمن النصراني يمارسون عملية تعدد الزوجات لحد 1896 م. والذي منعهم قانوناً من ذلك ، شرط الحكومة الفيدرالية لولاية يوتا التي يسكنونها ، بعدم السماح لهم الدخول في الاتحاد الامريكي ما لم يعلنوا صراحة توقفهم عن ممارسة عملية تعدد الزوجات، وذلك لمعارضته لاصل الفكرة الرأسمالية حول مفهوم ( الفردية) التي تحترم ارادة الفرد وتعتبر فكرة تعدد الزوجات اهانة لكرامة الزوجات جميعاً!
ولاشك ان تعنت النظرية الرأسمالية في رفض فكرة تعدد الزوجات لم يحل المشكلة الاجتماعية التي تواجهها الاسرة الرأسمالية. فثلاثة ارباع الحالات الزوجية الامريكية تعاني من خيانات زوجية من كلا الطرفين في العائلة الواحدة 3. وازدياد عدد حالات التشرد بين النساء المطلقات والفتيات من العوائل المنحلة لا يساعد مفهوم النظرية الرأسمالية الزاعم بان الحب في المجتمع الحضاري الصناعي يخلق الزواج المثالي، وان التمتع بزوجة واحدة يجني الفرد الخيانة الزوجية. ولو كان زعم النظرية الرأسمالية صحيحاً، فَلِم انحدر اذن ثلاثة ارباع المجتمع في مستنقع الرذيلة بممارسة الخيانة الزوجية عن طريق الزنا ؟ وليس هناك ادنى شك من ان الاقرار بالانحراف عن الحياة الزوجية السليمة من جهة، ورفض قبول الحلول الاجتماعية التي يقدمها الفكر الديني المتمثل بالاسلام بخصوص نظام تعدد الزوجات من جهة اخر ، يعتبر تعنتاً واستكباراً لامبرر له، من قبل النظام الاجتماعي الرأسمالي.
واذا كان الحب العذري الكائن في المجتمع الصناعي كأساس للزواج الناجح هو الذي يساعد الزوجين كما تزعم النظرية الرأسمالية على بناء علاقات زوجية حميمة بعد الزواج، فلماذا اذن، تنتهي نصف الحالات الزوجية الرأسمالية الامريكية المفترض قيامها اساسا على قاعدة الحب العذري، الى الطلاق؟ اليس هذا تناقضاً مع الفكرة القائلة بان نجاح اي قضية نسبياً يتوقف على حل ثلاثة ارباع اجزائها على الاقل؟ فكيف نعتبر الزواج في المجتمع الرأسمالي نجاحاً للفكرة الرأسمالية؟ وكيف نعتبر نصف الحالات الزوجية التي تنتهي الى تهديم الاسس الاسرية نجاحا للفكرة الاجتماعية الرأسمالية؟
ويتساءل الفرد ما هو الحب العذري، الذي تزعم النظرية الرأسمالية اعتباره من اهم اركان النظام العائلي في المجتمع الانساني؟ وللجواب على هذا السؤال فلنفترض انه الشعور الذي يتملك الفرد، فتظهر عليه اعراضه . وهذه الاعراض تنقسم الى قسمين؛ اولاً: اعراض جسدية، وهي الشهوة وخفقان القلب، وثانياً: اعراض نفسية، وهي تنشيط الملكة الوجدانية بالتركيز على فرد معين ذي مواصفات جذابة، ثم المجازفة في سلوك اي طريق يوصل ذلك المحب الى حبيبه. وهذا النوع من الحب يشجعه النظام الرأسمالي وتوصي به الثقافة الغربية المرئية والسمعية والكتبية. هنا، قد يتساءل المرء لماذا تتحمس النظرية الرأسمالية الى نشر هذا النوع من الحب بين افراد المجتمع؟ ولماذا تحاول النظرية الرأسمالية تقديس هذه الظاهرة التي غالباً ما تحصل بين فردين ينجذب احدهما الى الآخر، ثم يتطور هذا الانجذاب الى علاقة شخصية تنتهي بالزواج؟
وللجواب على ذلك تدعي الفكرة الرأسمالية ان الحب العذري مهم في انشاء حياة عائلية في عالم صناعي رأسمالي، لاسباب منها:
اولاً: ان الحب العذري يساعد الفردين المتحابين على نزع ارتباطاتهما العائلية مع العائلة الكبيرة، وهذه الخطوة مهمة في تنشيط الانتاج الرأسمالي وتشجيع المتزوجين الجدد على الانتقال الى اي منطقة او مدينة تحتاجها العملية الانتاجية. اما، لوكان الحب العذري منعدما وكانت الاسرة كبيرة، فان الزواج سيأخذ مساره الطبيعي دون الانغماس بالناحية النفسية والعاطفية للحب والتركيز على شهوات الفرد بشكل مطلق وتناسي العالم والواقع الخارجي المحيط بجدران ذلك الشعور.
ثانياً: ان الحب العذري يساهم في اشباع الناحية العاطفية التي حرمها انكسار وتحطم الاسر الكبيرة. ففي وقت الازمات تساهم الاسرة الكبيرة في التخفيف عن الآلام التي يتعرض لها الانسان المصاب بازمة من تلك الازمات، وتساهم ايضاً في تقديم المساعدة العاطفية والمادية: في حين ان الاسر الصغيرة تفتقد الى هذا النوع من الحنان والتعاون الجماعي: ولذلك فان الرأسمالية تشجع الافراد على ممارسة الحب العذري حتى يساهم ذلك الحب في رأب الصدع الذي سببته لهم العملية الرأسمالية الانتاجية.
ثالثاً: وخوفاً من تناقص النسبة المئوية السنوية للمواليد، فان الفكرة الرأسمالية تشجع الافراد على ممارسة الحب العذري لانه يؤدي الى الزواج وبقاء فكرة الذرية مستمرة في النظام الاجتماعي. فلو عرض الخيار لافراد النظام الرأسمالي بالزواج او عدمه لاختارت نسبة ملحوظة منهم العدم، تخوفاً من تحمل المسؤولية المالية والاجتماعية التي تفرضها الاسرة، وتوافقاً مع فكرة ( المذهب الفردي) في الاستمتاع الشخصي بالحياة دون الاهتمام بالمسؤولية الجماعية التي يفرضها التزواج الإنساني.
ومجمل القول ان النظرية الرأسمالية تشجع الافراد على تحطيم القيود الاسرية التي يشجعها النظام الديني، وتحفزهم على التزواج عن طريق الاختلاط والاعجاب المتبادل وتخفيف القيود الاجتماعية على علاقة الرجل بالمرأة قبل الزواج. ولاريب ان السبب المباشر الذي يدعو النظرية الرأسمالية الى التبشير بكل حماس لفكرة انشاء الأسر الصغيرة، هو اعتقادها بان الأسر الصغيرة التي تفتقد العلاقات المتينة مع اقاربها وعشيرتها، تعتبر اكثر نفعاً واوفر انتاجاً واعظم خدمة للنظام الرأسمالي من الأسر العشائرية الكبيرة.
* النظام العائلي ودور الاسرة في البناء الاجتماعي الاسلامي، د: زهير الاعرجي، أمير- قم، ط1 سنة 1415هـ -1994م،ص42-46.
2- (بيتر ستاين). العزوبية. انجلوود كليفز، نيوجرسي: برنتس- هول، 1976.
3- (ديفيد فنكلهور) وآخرون. الجانب المظلم من العائلة. بيفرلي هيل، كاليفورنيا: 1983 م. 2010-02-05