يتم التحميل...

الأسباب الداعية لاستمرار الظلم الاجتماعي

أبحاث في المجتمع

إذا كانت أكثرية أفراد المجتمع مظلومة اجتماعياً ومحرومة من حقوقها الأساسية، فلماذا لا تطيح هذه الكثرة بالطبقة المتحكمة القليلة العدد؟ ولماذا يستمر الظلم الاجتماعي لأجيال عديدة وحقب زمنية طويلة دون أن يتزعزع النظام الاجتماعي الظالم؟...

عدد الزوار: 48

إذا كانت أكثرية أفراد المجتمع مظلومة اجتماعياً ومحرومة من حقوقها الأساسية، فلماذا لا تطيح هذه الكثرة بالطبقة المتحكمة القليلة العدد؟ ولماذا يستمر الظلم الاجتماعي لأجيال عديدة وحقب زمنية طويلة دون أن يتزعزع النظام الاجتماعي الظالم؟ لاشك أن الجواب على هذا السؤال يتطلب ملاحظة عاملين مهمين يتمسك بهما النظام السياسي الحاكم، الأول: السيطرة على منابع القوة لحفظ النظام، والثاني: إيجاد نظام فكري عقائدي يبرر للغالبية العظمى من أفراد المجتمع أحقية هذا النظام في البقاء.

أ ـ السيطرة على منابع القوة الاجتماعية
لاشك أن القاعدة الاقتصادية لجماعة ما تلعب دوراً مهماً في التركيبة الاجتماعية والثقافية للمجتمع ككل. بمعنى ان الجماعة التي لها قوة اقتصادية عظيمة، تستطيع أن تترجم هذه القوة الاقتصادية إلى قوة سياسية، وتتمكن من خلالها السيطرة على المؤسسات الاجتماعية الأساسية، كمؤسسات الحكومة، والقضاء، والتعليم، والطب، ونحوها. وقد أشار القرآن الكريم بشكل إجمالي إلى أهمية المال في القوة الاجتماعية كما جاء على لسان موسى عليه السلام: ﴿إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا1، وفي موضع آخر: ﴿وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا2، ﴿كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا3، و﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ4. والمال في النظام السياسي الظالم، هو المحرك الأساس لكل المؤسسات الاجتماعية، فالقانون في ذلك المجتمع يدافع عن الثري ولا يحمي الفقير. والمؤسسات المتلبسة بالدين في المجتمعات الرأسمالية تدعم النظام الاجتماعي الظالم ولا تنادي بالإطاحة به. وحتى المؤسسات التعليمية تمجد حسنات النظام السياسي ولا تنتقد أخطاءه وسلبياته. وبالتالي فان الطبقة الغنية الحاكمة تصبح هي الوطن والعرض والدين، ومن يهاجمها فإنما يهاجم كل المقدسات التي يؤمن بها الأفراد في الطبقات الاجتماعية. وشخص كهذا ـ بعرفها ـ خارج عن الإجماع العام الذي أقره العرف الاجتماعي وأمضاه القانون.

ب ـ النظام الفكري لطبقة الأقوياء
ولاشك أن النظام الفكري والثقافي لأي مجتمع هو النظام الفكري الذي تتبناه الطبقة الحاكمة. فطبقة العمال الحاكمة في المجتمع الشيوعي المندثر ـ مثلاً ـ تفرض ـ بكل قوة ـ الفكر الذي تتبناه وتؤمن به. وعندها، يصبح الفكر الشيوعي هو الفكر المسيطر على الساحة الفكرية في المجتمع. والفكر الذي تؤمن به النظرية الرأسمالية يسيطر على كل توجهات المجتمع الرأسمالي. وهكذا ترى أن الأفكار تابعة للحكام، كما أن الأحكام تابعة للأسماء في المصطلح الأصولي. ويشير القرآن الكريم إلى هذا المفهوم أيضا عندما يتعرض لممارسات فرعون في إقناع الأفراد بأنه هو الإله الذي ينبغي أن يعبد: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي5، ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ6، فهو المستخف المستهتر بالقيم السماوية: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ7، ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾8، وهو الذي يبث الرعب في قلوب الناس: ﴿عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ9، وهو الذي يمتلك القوة والإرادة الطاغوتية: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ10، ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ11، وهو الذي يؤمر فيطاع: ﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى12، ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ13، ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ14، وهو الذي طغى واستعلى في الأرض: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ15، ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى16، ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى17.

ولاشك أن أحفاد فرعون اليوم يمارسون طرقاً فكرية تؤدي إلى نتائج تشابه ما أدت إليه سياسة فرعون، وهي السيطرة على الحكم والنظام الاجتماعي بالقوة. وأقرب مثال على ذلك هو سياسة النظام الرأسمالي الغربي، فان أخطر فكرة يرهبها ذلك النظام هي فكرة (العدالة الاجتماعية)، ولذلك فإننا لا نتحسس لصدى هذه الكلمة في الساحة الإعلامية أو الفكرية أو السياسية الرأسمالية. بل يحاول ذلك النظام بكل جهد استبدال كلمتي (العدالة الاجتماعية) بـ(الحلم الأمريكي). والحلم الأمريكي فكرة مزيفة تحاول الإيحاء لأفراد النظام الاجتماعي بأن جمع الثروة الاجتماعية وتراكمها مبني ـ حسب الفكرة الرأسمالية ـ على أساس الجهد والعمل18. ولكنها تتناسى بأن الثروة العينية الموجودة في المجتمع لما كانت محدودة بحدود توفر النقد المتداول، أصبح تحقيق (الحلم الأمريكي) أداة لحرمان بقية الأفراد الذين يعيشون على نفس الأرض الاجتماعية، لأن أية زيادة مالية في دخل طبقة اجتماعية معينة يؤدي إلى اختلال اقتصادي واجتماعي ونقيصة في الطبقات الاجتماعية الأخرى.

وعلى ضوء ما ذكرناه، فان الطبقة الرأسمالية الغنية المتحكمة بشؤون النظام الاجتماعي تحاول إدانة الفقراء والمظلومين ووصمهم بالفشل الاقتصادي في جني الأموال، فتزعم بأن الفقراء والمستضعفين لو كان لهم قدر من الذكاء والمهارة لما استغرقت رحلتهم من صحراء الأحلام إلى شاطئ الواقع وقتاً طويلاً. وهذا الإلصاق الفكري تستخدمه الطبقة الرأسمالية الحاكمة حتى تبقى متمسكة بمواقعها السياسية والاجتماعية القوية. وهذا الإسقاط النفسي بلوم الفقراء على فقرهم وتشجيعهم على الإيمان بالحظ والمصير المكتوب ونحوها يخدم النظام الطبقي الرأسمالي لأنه يحاول تخدير الفقراء إلى أمد غير محدود. ولذلك، فان أية حركة فكرية تحاول إيقاظ الغافلين من غفلتهم ونومهم تواجه بأقسى واعنف الوسائل.

والإسلام بكل أبعاده العبادية والاجتماعية، خصوصاً فيما يتعلق بفكرة العدالة الاجتماعية، يمثل هذه الحركة الموضوعية التي تحاول إيقاظ هؤلاء النائمين من نومهم العميق، ولذلك فان محاربته تستدعي استخدام اقسي وسائل البطش والتنديد، على عكس الديانات الأخرى التي تشجعها الأنظمة الاجتماعية الظالمة، كالهندوسية مثلاً التي تؤمن بأن روح الفرد المطيع تحل في أجسام أفراد الطبقة العليا في المجتمع، وروح العاصي لتعاليم الهندوسية تحل في أجسام أفراد الطبقة الفقيرة19، لأن الفقر ما هو إلا عقابٌ للأرواح العاصية، فلا يستطيع حينئذ أن ينتقل الأفراد من الطبقة الفقيرة المحكومة إلى الطبقة الثرية الحاكمة.

والنظام الكنسي النصراني في القرون الوسطى كان عونأً للنظام الإقطاعي السائد في أوروبا. فطالما كان الملك مفوضاً من قبل الله سبحانه وتعالى بالتصرف بأرواح وأموال وأعراض الناس، فان الجرائم المنسوبة للطبقة الحاكمة إنما هي نتيجة طبيعية للإرادة الإلهية والعمل الرباني، وليس للأفراد دخل في تغييرها أو إدانتها! إذن ليس غريباً أن نجد أفرادا عاشوا آثار تلك الأفكار مثل (كارل ماركس) وغيره آمنوا ـ بعد إن رأوا بأم أعينهم فظائع سلوك رجال الكنيسة ـ بأن الدين أفيون الشعوب. وليس هناك شك بأنهم كانوا يقصدون النصرانية الكنسية في ذلك، لأنهم رأوا آثار أحكام بابوية القرون الوسطى الزاعمة بأن النظام الاجتماعي الظالم لا يجوز تغييره أو إدانته عن طريق الثورة والعنف، لأن ذلك النظام ما هو إلا تصميم الهي للبشرية المعذبة ! وحتى أن فكرة الاستعمار الأوروبي للمناطق الآمنة في أفريقيا وآسيا لنهب ثروات العالم الإسلامي في القرون الأربعة الأخيرة، صورت من قبل الطبقة الرأسمالية على أنها من أنبل قضايا الرجل البيض. وكان هدفها بالأصل ـ بزعمهم ـ رفع غائلة البدائية والمرض والفقر عن رجال المجتمعات المتخلفة، ورفع علم الحضارة والتقدم في ثنايا تلك المجتمعات20. وربما اعتقد فقراء المجتمع الرأسمالي في الماضي أن ادعاءات الرجل الأوروبي الأبيض فيما يتعلق بفقراء العالم صحيحة، ولكن تبين لهم فيما بعد أن الذي استعبدهم لقرون طويلة لا يمكن أن يعدل مع أفراد آخرين يختلفون عنه في الجنس واللغة والدين.

وعليه، فان النظام الفكري للطبقة الحاكمة هو الذي يبقي الظلم الاجتماعي قائماً، مع أن الطبقة الحاكمة قليلة العدد والطبقة المحكومة تمثل أغلبية أفراد النظام الاجتماعي، ويأتي المال الذي يعكس منابع القوة الاجتماعية ليتوج سيطرة نظام الظلم الاجتماعي على كل مقدرات الحياة الإنسانية.

*النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي،أمير_قم،ص44-50.


1- يونس:88.
2- الإسراء:6.
3- التوبة:69.
4- القصص:76.
5- القصص: 38.
6- غافر:-36.
7- الشعراء:-23.
8- غافر:-29.
9- يونس:-83.
10- يونس:-79.
11- الأعراف:-123.
12- طه: 60.
13- طه: 78.
14- الشعراء: 53.
15- يونس: 83.
16- طه: 43.
17- طه: 79.
18- ( كريستوفر جنكز ) وآخرون. من الذي يسبق؟ العوامل الحاسمة في النجاح الاقتصادي في أمريكا. نيويورك: الكتب الأساسية، 1979 م.
19- (لويس رينو). الهندوسية. نيويورك: برازيلر، 1962 م.
20- (جوزيف كونراد). قلب الظلام. نيويورك: سانت مارتن، 1989 م.

2011-04-28