الظروف التي أحاطت بإمامة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)
الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)
يُعتبر عهد الإمام الصادق (عليه السلام) عهد الانفراج الفكريّ لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، طبعاً قياساً بالعهود السابقة التي مرّت بها الأمّة الإسلاميّة.
عدد الزوار: 70يُعتبر عهد الإمام الصادق (عليه السلام) عهد الانفراج الفكريّ لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، طبعاً قياساً بالعهود السابقة التي مرّت بها الأمّة الإسلاميّة. وأسباب هذا الانفراج كثيرة أهمّها ضعف الحكم الأمويّ وانهياره سنة 132هـ. والبداية الضعيفة لدولة بني العبّاس. ومن الطبيعيّ أن ينشغل الحكّام عن رموز أهل البيت (عليهم السلام). لذلك كان الإمام (عليه السلام) بعيداً عن المواجهة السياسيّة العلنيّة. ولذا سُمّي هذا العصر بعصر انتشار علوم آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
"وكان فضلاء الشيعة ورواتهم في تلك السنين آمنين على أنفسهم مطمئنّين متجاهرين بولاء أهل البيت (عليهم السلام) معروفين بذلك بين الناس، ولم يكن للأئمّة عليهم السلام مزاحم لنشر الأحكام، فكان يحضر شيعتهم مجالسهم العامّة والخاصّة للاستفادة من علومهم"[1].
ولقد بلغ الازدهار العلمي والفكري غايته في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) فازدهرت المدينة المنوّرة وزخرت بطلاب العلوم ووفود الأقطار الإسلامية، وانتظمت فيها حلقات الدرس، وكان بيته كجامعة إسلامية يزدحم فيه رجال العلم وحملة الحديث من مختلف الطبقات ينتهلون من معين علمه. ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان[2].
وإلى هذا أشار الجاحظ - وهو من شاهد علماء القرن الثالث "جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه"[3].
قبس من علمه ومناقبه
"أمّا مناقبه وصفاته فتكاد تفوق عدد الحاصر ويحار في أنواعها فهم اليقظ الباصر، حتّى إنّ من كثرة علومه المفاضة على قلبه من سجال التقوى صارت الأحكام التي لا تُدرَك عللها والعلوم التي تقصر الأفهام عن الإحاطة بحكمها تُضاف إليه وتُروى عنه"[4].
وقال كمال الدين محمّد بن طلحة: هو - "أيّ الإمام الصادق (عليه السلام) - من عظماء أهل البيت (عليهم السلام)، وساداتهم ذو علوم جمّة وعبادة موفورة وأوراد متواصلة وزهادة بيّنة وتلاوة كثيرة يتتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره ويستنتج عجائبه ويقسّم أوقاته على أنواع الطاعات بحيث يحاسب عليها نفسه. رؤيته تذكّر بالآخرة واستماع كلامه يزهّد في الدنيا والاقتداء بهداه يورث الجنة، نور قسماته شاهد أنّه من سلالة النبوّة، وطهارة أفعاله تصدع بأنّه من ذريّة الرسالة، نقل عنه الحديث واستفاد منه العلم جماعة من أعيان الأئمّة وأعلامهم مثل: يحيى بن سعيد الأنصاريّ وابن جريح ومالك بن أسد والثوريّ وابن عيينة وأبي حنيفة وأيوب وغيرهم، وعدّوا أخذهم منه منقبة شُرّفوا بها وفضيلة اكتسبوها"[5].
إذاً، قد شهد القاصي والداني والمؤالف والمخالف أنّ الإمام (عليه السلام) صاحب المقام العلميّ الرفيع الّذي لا ينازعه أحد. حتّى توافدت كلمات الثناء والإكبار والإعجاب عليه من قبل الحكّام، وأئمّة المذاهب، والمؤرّخين وأصحاب السير... وقد أجمع العلماء مثل: المفيد، والطبرسيّ، والفتّال النيسابوريّ، والشهيد الثاني، وابن شهر آشوب، وغيرهم أنّه نُقل عن الإمام من الروايات ما لم يُنقل عن أحد غيره.
وهناك شواهد كثيرة على عظمة الإمام الصادق (عليه السلام) العلمية، وهو أمر متفق عليه من قبل علماء الشيعة والسنّة، فالفقهاء والعلماء الكبار يتواضعون أمام عظمته العلمية ويمدحون تفوقّه العلمي، فأبو حنيفة إمام المذهب الحنفي الشهير كان يقول: "ما رأيت أعلم من جعفر بن محمد"[6].
ويقول أيضاً: لما أقدمه (جعفر بن محمد) المنصور بعث إليّ فقال: "يا أبا حنيفة إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من مسائلك الشداد فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلّمت عليه، فأومأ إليّ فجلست.
ثمّ التفت إليه فقال: يا أبا عبد الله هذا أبو حنيفة.
قال عليه السلام: نعم أعرفه.
ثمّ التفت إليّ فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد الله من مسائلك.
فجعلت أُلقي عليه فيجيبني، فيقول أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا، فربما تابعنا وربما تابعهم وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة فما أخل منها بشيء.
ثمّ قال أبو حنيفة وبعد ما بلغ إلى هذا الوضع: "أليس أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟"[7].
وقال مالك إمام المذهب المالكي: "اختلفت إلى جعفر بن محمد زماناً، فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إمّا مصلياً، وإمّا صائماً، وإمّا يقرأ القرآن، وما رأيته قط يحدّث عن رسول الله إلاّ على طهارة[8]. ولا يتكلم بما لا يعنيه. وكان من العلماء العبّاد والزهّاد الذين يخشون الله، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً"[9].
وكتب الشيخ المفيد: "ونقل الناس عنه -الصادق (عليه السلام)- من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته ما نقل عنه من العلوم"[10].
* من كتاب: في رحاب سيرة أئمة أهل البيت عليهم السلام – سلسلة المعارف التعليمية- جمعية المعارف الإسلاميّة الثقافية
[1] الطهراني، آغابزرك، الذريعة، ج2، ص 132.
[2] ابن حجر، الصواعق المحرقة، ص 199.
[3] الجاحظ، رسائل الجاحظ، ص 106، عن مجلة تراثنا، ج 47.
[4] الأربلي، أبو الفتح، كشف الغمة، ج2، ص 368.
[5] م. ن، ص368.
[6] الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج1، ص166.
[7] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج47، ص217؛ الشيخ أسد حيدر، الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب الأربعة، ج4، ص335.
[8] ابن حجر، تهذيب التهذيب، ج1، ص88.
[9] الشيخ أسد حيدر، الإمام الصادق عليه السلام والمذاهب الأربعة، ج1، ص53.
[10] الشيخ المفيد، الإرشاد، ص270.