يتم التحميل...

فزتُ وربِّ الكعبة

زَادُ المُنِيبين في شهر اللّه

رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا عمّار، إذا رأيتَ عليّاً سلك وادياً، وسلك الناسُ وادياً غيرَه، فاسلُك مع عليٍّ ودعِ الناس؛ إنّه لن يُدَلِّيَك في ردىً، ولن يخرجَك من الهدى»

عدد الزوار: 222

رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يا عمّار، إذا رأيتَ عليّاً سلك وادياً، وسلك الناسُ وادياً غيرَه، فاسلُك مع عليٍّ ودعِ الناس؛ إنّه لن يُدَلِّيَك في ردىً، ولن يخرجَك من الهدى»[1].

هو رجلٌ عاش لله تعالى، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه، يحبّ فيه، ويبغض فيه، أوّل الناس إسلاماً، وأعظمهم جهاداً، قسيم الجنّة والنار، فيه يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَعَلَ لِأَخِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَضَائِلَ لَا يُحْصِي عَدَدَهَا غَيْرُهُ، فَمَنْ ذَكَرَ فَضِيلَةً مِنْ فَضَائِلِهِ، مُقِرّاً بِهَا، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّر»[2].

وإنّ انتماءَنا لأمير المؤمنين (عليه السلام) وولايتَنا له، يفرضان علينا أن نقتديَ به، ونهتديَ بهديه، ونترجمَ حبَّنا له ومودَّتَنا في سلوكنا وأفعالنا. ولو أردنا الإضاءة على جوانب شخصيّته المباركة كلّها لطال بنا المقام، لكن نقتصر على الآتي:

إباؤه وشهامته
لقد كان أبيّاً يترفّع عن فعل ما يقترفه الجاهلون، فلم يكن يردّ على الذين يواجهونه بالسبّ والشتيمة، بل كان يوصي أصحابه ألّا يفعلوا مثل ما يفعل أعداؤه ممّن كانوا يشتمونه على المنابر كرهاً وحقداً، قائلاً لهم: «إِنِّي أَكْرَه لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، ولَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ، كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ: اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا ودِمَاءَهُمْ، وأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وبَيْنِهِمْ، واهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَه، ويَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ والْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِه»[3].

صدقه وإخلاصه
إنّ شدّة التزامه (عليه السلام) بمبادئ الإسلام الحنيف والحقّ، دفعته إلى ألّا يداهن أحداً على حساب تلك المبادئ، حتّى عُيّر من بعض الجهلة بأنّه لم يكن يعرف بالسياسة، وهذا منهم جهل مطبق بفكر الإمام وسيرته وسلوكه، وهو الذي ترك لنا بمواقفه تلك عبراً ودروساً لا ينبغي لمؤمنٍ إلّا أن يتّخذها دستوراً له في حياته ليحفظ بذلك دينه وإنسانيّته، فمثل هؤلاء كانوا يقدّمون السياسة على تلك المُثل، على قاعدة «الغاية تبرّر الوسيلة».

وفي مقولته الشهيرة بعد حيلة معاوية بن أبي سفيان: «واللَّه مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي، ولَكِنَّه يَغْدِرُ ويَفْجُرُ، ولَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ»[4]، تأكيدٌ واضح على السياسة التي كان يتّبعها، فلم يكن يغلّب المصالح الآنيّة والضيّقة على المبادئ الأخلاقيّة التي لا ينبغي التنازل عنها قيد أنملة.

وفي حقيقة الإيمان يقول (عليه السلام) مبيّناً هذا المفهوم: «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ، عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ»[5].

زُهده
إنّ من أبرز الصفات التي اتّصف وعُرِف بها (عليه السلام)، صفة الزهد، ويعني عدم التعلّق بأمور الدنيا ومادّيّاتها، وترك الارتباط بها، من زينة وزخرفة ومأكل وملبس ومسكن، فقد كان بسيطاً في عيشه أيّما بساطة، يخصف نعله ويأكل الشعير ويطحنه بيديه الكريمتين، ويأكل من الخبز اليابس.

روى هارون بن عنترة عن أبيه، قال: دخلتُ على عليّ بالخورنق، وكان فصل شتاء، وعليه خَلَقُ[6] قَطِيفة[7]، هو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنّ الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً، وأنت تفعل ذلك بنفسك؟! فقال: «والله ما أرزؤكم شيئاً، وما هي إلّا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة»[8].

وأتاه أحدهم بطعام نفيس حلو، يُقال له: الفالوذج، فلم يأكله عليّ، ونظر إليه يقول: «والله إنّك لطيّب الريح حسن اللون طيّب الطعم، ولكن أكره أن أُعوّد نفسي ما لم تعتد»[9].

والمشهور أنّه كان يأبى أن يسكن قصر الإمارة الذي كان مُعدّاً له بالكوفة، لئلّا يرفع سكنه عن سكن أُولئك الفقراء الكثيرين الذين يقيمون في خِصاصهم البائسة، ومن كلامه هذا القول الذي انبثق عن أسلوبه في العيش: «أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ؟!»[10].

عدم تكلّفه
إنّ من السمات التي اتّسمت بها شخصيّة الإمام (عليه السلام) البساطة وعدم التكلّف، فلم يكن يُشعِر الآخرين بضرورة التكلّف له، وكان يقول: «شَرُّ الإِخْوَانِ مَنْ تُكُلِّفَ لَه»[11]، ويقول: «إِذَا احْتَشَمَ[12] الْمُؤْمِنُ أَخَاه فَقَدْ فَارَقَه»[13].

والنهي عن التكلّف يشمل ما كان مرتبطاً بالأفعال والأقوال، ومن ذلك التملّق والمبالغة في الحبّ وغير ذلك، ومن ذلك ما حدث مع بعض من غالوا به(عليه السلام)، وقد قال: «هَلَكَ فِيَّ رَجُلَانِ: مُحِبٌّ غَالٍ ومُبْغِضٌ قَالٍ»[14].

ضربة بضربة
إنّ في الموقف الذي اتّخذه أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدما ضربه ذاك الشقيّ على رأسه الشريف درسٌ عظيمٌ لنا، إذ يُحذّر أرحامه في حال شهادته بهذه الضربة، يقول: «يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ: قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي. انْظُرُوا، إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِه هَذِه، فَاضْرِبُوه ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، ولَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: إِيَّاكُمْ والْمُثْلَةَ! ولَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ»[15].

وهذا في الواقع ينسجم بشكل تامّ مع مبادئه الرفيعة في أن يؤخذ حقّ المظلوم، ولكن أن يكون ذلك بحدوده الشرعيّة التي شرّعها الله تعالى.

فهو من جهة يؤكّد ضرورة الاقتصاص من القاتل، ومن جهة أخرى يحذّر من تعدّي حدود الله في الاقتصاص منه.

وهذا ليس غريباً عنه (عليه السلام)، وهو الذي سار في حياته كلّها ملازماً للحقّ والعدل، بصغائر الأمور وكبائرها.

فسلامٌ عليه يوم وُلِد، ويوم استشهد، ويوم يُبعَث حيّاً.

 * زَادُ المُنِيبين في شهر اللّه، إصدار دار المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، الطـبعــة الأولى 2024م.


[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج38، ص32.
[2] الشيخ الصدوق، الأمالي، مصدر سابق، ص201.
[3]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص323، الخطبة 206.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص318، الخطبة 200.
[5] المصدر نفسه، ص556، الحكمة 458.
[6]  الخَلَق: البالي من الثياب والجلد.
[7]  كساءٌ له أَهداب.
[8]  ابن الأثير، عز الدين عليّ بن أبي الكرم محمّد الشيبانيّ، الكامل في التاريخ، دار صادر للطباعة والنشر - دار بيروت للطباعة والنشر، لبنان - بيروت، 1386هـ - 1966م، لا.ط، ج3، ص400.
[9]  المتّقي الهنديّّ، كنز العمال، مصدر سابق، ج13، ص184.
[10]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص418، الكتاب 45.
[11]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص559، الحكمة 479.
[12]  أي التكلّف.
[13]  السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص559، الحكمة 480.
[14]  المصدر نفسه، ص489، مصدر سابق، الحكمة 117.
[15]  المصدر نفسه، ص422، الكتاب 47.

2024-03-25