مفهوما التوكل والتفويض، مفهومان حركيان، نابعان من التوحيد، ويمنحان الإنسان قدرة فائقة وكفاءة عالية على التحرُّك في ساحات الحياة العريضة. وهما يسلبان الإنسان كلّ حالة للتردّد والضعف والخوف في العمل.
فإنّ التوكّل والتفويض يقومان على أساس حالة نفسية ثابتة ومطمئنة للعبد. وهذه الحالة النفسية المطمئنة بالله تعالى تمنح الإنسان القدرة والقوّة والمعنوية العالية في العمل.
وقد وعد الله تعالى عباده أن يكفي المتوكّلين عليه، يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[1] و(حَسْبُهُ) يعني: يكفيه من كلّ شيء فإنّ الله يكفي من كلّ شيء ولا يكفي عنه شيء.
وكفاية الله تعالى لعبده سُنّة مشروطة من سُنن الله. وهذا الشرط هو التوكّل على الله، فمن يتوكّل على الله يكفيه الله وهو حسبه. يقول تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
وهذا هو معنى السنن المشروطة، بخلاف السنن القطعية غير المشروطة فهي غير مرتبطة بشرط، نحو قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ﴾[2].
فإن الابتلاء سُنّة مطلقة وغير مشروطة. والتوكّل هو أحد وجهي القرار. والوجه الآخر للقرار هو (الاستشارة). وتتمّ الاستشارة في مرحلة التحضير للقرار، بالتداول والمناقشة مع أصحاب الرأي. وهذا هو الوجه الآخر للقرار.
الوجه الأوّل هو (التوكّل) في مرحلة التنفيذ والعزم. وأما الاستشارة ففي مرحلة التحضير للقرار، وهي تنفع في تنضيج القرار والتوكّل في مرحلة العزم والتنفيذ في كبح (الأنا) في مرحلة القرار والعزم والتنفيذ، وتعميق اعتماد العبد على الله تعالى وحوله وقوّته.
وعن هذين الوجهين للقرار يقول تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[3].
وعندما يتوكّل العبد على الله يعينه الله في شأنه ويسدّده ويأخذ بيده، ويذلّل أمامه العقبات الصعبة.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من كان متوكّلاً على الله لم يُعدم الإعانة"[4].
وعنه عليه السلام أيضاً: "من توكّل على الله ذلّت له الصعاب وتسهّلت عليه الأسباب"[5].
وعنه عليه السلام أيضاً: "ليس لمتوكّل عناء"[6].
وعنه عليه السلام: "يا أيّها الناس توكّلوا على الله، وثقوا به، فإنّه يكفي من سواه"[7].
وناهيك بذلك، فإنّ الإنسان لا يتوكّل على الله ولا يضع ثقته بالله إلّا إذا كان واثقاً بأنّ الله يكفيه من كلّ شيء، فإذا توكّل على الله بهذه الثقة والإيمان كفاه الله من كلّ شيء.
والتوكّل على الله يمنح صاحبه النور الذي يعرف به الشبهات والأخطاء فيتجنّبها. عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من توكّل على الله أضاءت له الشبهات"[8].
ولكن علينا أن نُميّز بين الصحيح والخطأ في معنى التوكّل.
الصحيح في معنى التوكّل أن يبذل الإنسان جهده في التفكير والتخطيط والاستشارة والدراسة الموضوعية والاستفادة من خبرات الآخرين وتجاربهم، ويجعل الله تعالى وكيلاً عن نفسه في تسديده وإنجازه وتجنيبه الأخطاء. وتوفيقه للنجاح... وهذا هو الصحيح في معنى التوكّل... والخطأ في تفسير التوكّل أن يترك الإنسان الأمر على عواهنه، ويقعد عن الحركة والتفكير والاستشارة والدراسة والتخطيط والنزول إلى ساحات العمل ويتوكّل على الله.
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه مرَّ بقوم أصحّاء جالسين في زاوية المسجد فقال: "من أنتم"؟ قالوا: نحن المتوكّلون قال عليه السلام: "لا بل أنتم المتأكّلة فإن كنتم متوكّلين ما بلغ بكم توكّلكم"؟ قالوا: إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا. قال عليه السلام: "هكذا تصنع الكلاب عندنا".
قالوا: فما نفعل؟ قال: "كما نفعل". قالوا: كيف تفعل؟ قال عليه السلام: "إذا وجدنا بذلنا، وإذا فقدنا شكرنا"[9].
وقال عليه السلام لابنه محمّد بن الحنفية لمّا أعطاه الراية، يوم الجمل: "تزول الجبال ولا تزل، عضّ على ناجذك. أعر الله جمجمتك، ثبت في الأرض قدمك، ارم ببصرك أقصى القوم، وغضّ بصرك، واعلم أنّ النصر من عند الله"[10].
صحيح أنّ النصر من عند الله، ولكن هذه السنّة مشروطة بالثبات والمقاومة وصلابة الموقف... عندئذٍ ينصر الله تعالى عبده. فيقول لابنه محمد: أن يثبّت في الأرض قدميه، ويرم ببصره أقصى القوم، ويتقدّم غير متهيّب ممّن يحول بينه وبين القوم.
ثمّ يقول له: واعلم أنّ النصر من عند الله، وهو جوهر الأمر والإيمان.
والتفويض أن يضع الإنسان نفسه وتصرّفه وإرادته وعقله تحت تصرّف الله تعالى، يوجّهه كيفما يريد، فيعمل بما يريد الله ويختار له. وليس معنى ذلك أن لا يُخطّط ولا يُفكّر ولا يحاول، وإنّما معنى ذلك أن يجعل تفكيره وعزمه وتدبيره وسعيه تحت تصرّف الله ليوجّه الله فكره وعزمه، كما يجب ويريد.
وأثر التفويض في حركة العبد: التسديد، والتأييد، والتبصير من الله تعالى لعبده، ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾[11]. وأثره في نفس العبد: الاطمئنان والثقة بالله في الحركة. فإنّ الإنسان إذا شعر بأنّ حركته وعمله من تدبير الله، وأنّ الله يتولّى تدبير أمره، ويوجّهه، ويبصّره يكتسب قوّة ومعنوية عالية في العمل.
إنّ (العمل) و(الحركة) في ساحات الحياة يمكن أن تكون سُلّماً يرفع الإنسان إلى قمم التوحيد، إذا شدّ الإنسان حركته وعمله بالله تعالى توكّلاً وتفويضاً.
ويمكن أن يكون عمله وحركته حجاباً بينه وبين الله إذا قطع حركته وعمله عن الله وشدّه بحجاب الأنا.
فإنّ الحركة والعمل بهذا الاتجاه يُصيبه بخيبة كبيرة في حال الفشل، وبنشوة الذات والأنانية في حالة النجاح. وكلاهما ضارّان.
إنّ أعمالنا في الحياة يمكن أن نُحوّلها إلى مراقي ومعارج للعروج إلى الله، وتعميق حالة الارتباط بالله والعبودية لله تعالى، ويمكن أن تتحوّل إلى حجب كثيفة، غليظة تحجب صاحبها عن الله تعالى حجاباً تامّاً.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام، كما في رواية ثقة الإسلام الكليني رحمه الله في الكافي: "الإيمان له أركان أربعة: التوكّل على الله، وتفويض الأمر إلى الله، والرضا بقضاء الله، والتسليم لأمر الله عز وجل"[12].
وهذه أربع خصال كما يقول الإمام علي عليه السلام، وهي في نفس الوقت الأركان الأربعة للمشاريع القيادية والإدارية التي ينهض بها عباد الله الصالحون.
فإنّ التوكّل على الله والتفويض إلى الله بشروطها وهو الاستشارة والتفكير والتخطيط والإعداد الصحيح يُحقّق التسديد من الخطط والمشاريع الإدارية والقيادية.
والرضا والتسليم لله يُطمئنان العبد ويبعثان في نفسه السكينة والطمأنينة، وهما أهمّ شروط القيادة والإدارة الناجحة التي تتجاوز العقبات بثقة وطمأنينة وثبات.
قبسات من الثقافة الإدارية في نهج البلاغة، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة الطلاق، الآية 3.
[2] سورة البقرة، الآية 155.
[3] سورة آل عمران، الآية 159.
[4] الآمدي، غرر الحكم، 8128 – 9028 – 7451.
[5] م. ن.
[6] م. ن.
[7] المتقي الهندي، كنز العمّال، 8513.
[8] الآمدي، غرر الحكم، 8985.
[9] الميرزا النوري، مستدرك وسائل الشيعة، ج 11، ص 220.
[10] السيّد الرضي، نهج البلاغة، كلمات الإمام علي عليه السلام، الخطبة 12.
[11] سورة غافر، الآية 44.
[12] الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 47.