عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "تَجْلِسُونَ وَتُحَدِّثُونَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: تِلْكَ الْمَجَالِسُ أُحِبُّهَا، فَأَحْيُوا أَمْرَنَا، رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا. يَا فُضَيْلُ، مَنْ ذَكَرَنَا أَوْ ذُكِرْنَا عِنْدَهُ، فَخَرَجَ عَنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ جَنَاحِ الذُّبَابِ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ، وَلَوْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ".
أمرهم لا يموت
إنّ الموت يعرض على الفكر، كما يعرض على الأجساد، فهل فِكر أهل البيت ونهجهم في معرض الموت والزوال، حتّى أُمِرنا بإحياء أمرهم؟
إنّ أمرهم حيٌّ حقيقةً، ولا يعرض عليه الموت والفناء، فهم الثقل الأكبر، والله سبحانه يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[1].
وهم نور الله الذي لا يُطفأ، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[2].
لا يموت فكرهم، ولا ينتهي نهجهم، ولكن قد يعرض عليه الإهمال والهجر، ويتعرض للتشويه. وهذا ما أدركه الظالمون في سلطة بني أميّة وبني العباس، بعدما عجزوا عن محو ذكرهم وإزالته، فسعوا لأن يكون فكر أهل البيت وذكرهم مهملاً بين المسلمين ومهجوراً، فمنعوا ذكر فضائلهم، والقضاء بحكمهم، ورواية حديثهم.
وقد صحّ أن بني أميّة منعوا من إظهار فضائل عليٍّ عليه السلام، وعاقبوا ذلك الراوي له، حتّى إنّ الرجل إذا روى عنه حديثاً لا يتعلّق بفضله، بل بشرائع الدين، لا يتجاسر على ذكر اسمه، فيقول: "عن أبي زينبٍ".
وروى عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: "وددت أن أُترك فأحدِّث بفضائل عليّ بن أبي طالبٍ يوماً إلى الليل، وأنّ عنقي هذه ضُرِبَت بالسيف"...
ولولا أن لله تعالى في هذا الرجل سرّاً يعلمه من يعلمه، لم يُروَ في فضله حديثٌ، ولا عُرِفَت له منقبة[3].[4]
ولا يزال يتردّد صدى صوت زينب عليها السلام، في مجلس يزيد: "فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، وَنَاصِبْ جُهْدَكَ، فَوَاللَّهِ، لَا تَمْحُو ذِكْرَنَا، وَلَا تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلَا تُدْرِكُ أَمَدَنَا"[5].
حياة القلوب
قال الرضا عليه السلام: "مَنْ تَذَكَّرَ مُصَابَنَا، فَبَكَى وَأَبْكَى، لَمْ تَبْكِ عَيْنُهُ يَوْمَ تَبْكِي الْعُيُونُ. وَمَنْ جَلَسَ مَجْلِساً يُحْيَا فِيهِ أَمْرُنَا، لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوب"[6].
والله سبحانه يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾[7].
وعن الإمام الصادق عليه السلام لما سأل عن هذه الآية، قال: "نَزَلَتْ فِي وِلَايَةِ عَلِيٍّ عليه السلام"[8].
وقال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَ﴾[9].
ذلك الدّين القيِّم، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة الحجر، الآية 9.
[2] سورة التوبة، الآية 32.
[3] أبو جعفرٍ الإسكافيّ، المعيار والموازنة، الشيخ محمّد باقر المحمودي، لا.ن، لا.م، 1402ه1981-م، ط1، انظر هامش ص294. (والمؤلّف من أهل السنة)
[4] راجع: المحقّق البحرانيّ، الحدائق الناضرة، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، لا.ت، لا.ط، ج2، هامش ص45، التعليقة على التمندل بعد الوضوء. والحسنيّ، السيّد هاشم معروف، تاريخ الفقه الجعفريّ، قدّم له محمّد جواد مغنيّة، دار النشر للجامعيّين، لا.ت، لا.ط، ص135. وغيرها.
[5] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص135.
[6] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، مصدر سابق، ج14، ص502.
[7] سورة الأنفال، الآية 24.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج8، ص248.
[9] سورة الأنعام، الآية 122.