لا بدّ لنا من أن نتحرّر من النزعة الاستصحابيّة، من نزعة التمسّك بما كان حرفيّاً بالنسبة إلى كلّ أساليب العمل. هذه النزعة التي تبلغ القمّة عند بعضنا. هذه النزعة الاستصحابيّة التي تجعلنا دائماً نعيش مع أمّةٍ قد مضى وقتها، مع أمّةٍ قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها، لأنّنا نعيش بأساليب كانت منسجمةً مع أمّةٍ لم يبقَ منها أحدٌ، وقد انتهت وحدثت أمّةٌ أخرى ذات أفكارٍ أخرى، ذات اتجاهاتٍ أخرى، ذات ظروفٍ وملابساتٍ أخرى، فحينئذٍ من الطبيعيّ أن لا نوفّق في العمل لأنّنا نتعامل مع أمّةٍ ماتت، والأمّة الحيّة لا نتعامل معها، فمهما يكن لنا من تأثيرٍ سوف يكون هذا التأثير سلبيّاً، لأنّ موضوع العمل غير موجودٍ في الخارج، موضوع العمل ميّتٌ، وما هو موجود في الخارج لا نتعامل معه.
يجب أن يكون واضحاً عندنا أنّنا يجب أن نتعامل مع هذا الإنسان الحيّ الموجود في الخارج المكوّن من اللحم والدم، وهذا الإنسان يتغيّر ويتطوّر وتختلف ظروفه وملابساته، نحن لا بدّ لنا من أن نتعامل مع هذا الإنسان، وحيث إنّنا لا بدّ لنا من أن نتعامل مع هذا الإنسان فلا بدّ من أن نفكّر دائماً في الأساليب التي تنسجم مع هذا الإنسان.
بين الشهيد الأوّل وعلماء العصر
الشهيد الأوّل رضوان الله عليه قبل قرون وقرون فكّر في تنظيم شؤون الدين والمرجعيّة بشكلٍ من الأشكال، ونقل الكيان الدينيّ من مرحلةٍ إلى مرحلةٍ، لكن أليس بالإمكان أن يفكّر مئات العلماء الذين جاؤوا بعد الشهيد الأوّل إلى الآن، ومئات العلماء الموجودين فعلاً، ومئات العلماء الذين سوف يخلفون هؤلاء العلماء بعد ذلك، أليس بالإمكان أن يفكّر هؤلاء المئات من العلماء في تطوير أساليب الشهيد الأوّل؟ في تحسينها، في تنقيتها؟ أليس بالإمكان هذا؟
ما دمنا نؤمن بأنّ الأساليب تتغيّر وإن كانت النظريّة ثابتةً، إذاً فلا بدّ لنا من أن نفتح باباً للتفكير في هذه الأساليب! هذا جزءٌ من وظيفتنا، لأنّنا ندرس العلم للعمل، ولا ندرس العلم لكي نجمّده في رؤوسنا. فيجب أن نفكّر في أنّنا عالمون لكي نعمل لا أنّنا عالمون لكي نعلَم فقط، فإذا كنّا عالمين لكي نعمل فلا بدّ من أن نجعل جزءاً من وظيفتنا أن نطرح على أنفسنا، أن نطرح على أساتذتنا، أن نطرح على زملائنا، أن نطرح في كلّ مكان هذه الأسئلة:
ـ ما هو العمل؟ كيف نعمل؟ ما هي أساليب العمل؟ كيف يمكن تجديد أساليب العمل بالشكل الذي ينسجم مع الأمّة اليوم؟ نحن نتعامل مع عالَم اليوم لا مع عالَم عصر المماليك، إذاً كيف نتعامل مع عالم اليوم؟
هذه أسئلةٌ قد يكون جوابها صعباً في بداية الأمر، لأنّه ليس هناك مطالعاتٌ وترويضٌ فكريّ على الجواب عليها. هذه الأسئلة أسئلةٌ دقيقةٌ ومرتبطةٌ بمدى خبرة الإنسان وتجاربه واطلاعه على ظروف العالَم. لهذا قد نجد صعوبة في الجواب على هذه الأسئلة، لكن هذه الصعوبة لا بدّ من تذليلها بالبحث والتفكير ومواصلة البحث والتفكير.
إذاً لا بدّ من أن نجعل جزءاً من وظيفتنا أن نفكّر دائماً في كيفيّة تغيير أساليب العمل، وكيفية الانسجام مع وضعنا وبيئتنا.
محنة الأمم، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
2022-01-04