هؤلاء الذين يدّعون أنّهم عرفوا الإنسان، هؤلاء عرفوا شبحه، ولم يعرفوه، بل عرفوا شبحاً لحيوانيّة الإنسان.ـ. وظنّوه الإنسان. وأولئك الذين يدّعون أنّهم عارفون بالإسلام، أولئك أيضاً رأوا الدرجة الدنيا من الإسلام، واقتنعوا بها، وظنّوا أنّهم عرفوا الإسلام. والإنسان بالمراتب التي له، تُعتبر مرتبته الطبيعيّة أدنى هذه المراتب، غاية الأمر أنّها محسوسة لنا؛ ولأنّ ذلك الشيء محسوس لنا، إذ إنّنا طبيعيّون ونعيش الآن في عالم الطبيعة، قد يُشبعنا هذا المحسوس. فالمعنويات غير موجودة الآن، فيما المحسوسات موجودة[1]. الإنسان موجود عجيب وغريب، يبقى إلى آخر عمره ولا يمكنه أن يعرف نفسه2.
ملاك شرافة الإنسان
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين﴾3.
النكتة هنا حيث يقول:﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾، فقد عبّر في جميع التبدّلات السابقة بـ "الخلق"، ولكنّه في هذا البيان غيّر العبارة وعبّر بـ "الإنشاء"، وقال إنّنا جعلناه شيئاً آخر في آخر مرحلة. وهذا في الحقيقة يظهر أنّ هذا يختلف في الجوهر عمّا سبق. فمثلاً، هذا أصبح مجرّداً وما سبق كان جسماً، ثمّ قال بعد ذلك: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾، فلم يقل هذه العبارة في الشيء الذي كان من الماديّات والجسمانيّات، ولكنّ من شرافة هذا الإنشاء الجديد عبّر بـ ﴿أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾.
إذن، يتضّح أنّ هذا موجود شريف هو فوق الجسم والجسماني؛ كما إنّ منتهى التشريف أن قال: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾[2]، بالطبع، إنّ من التشريف أنْ نسب التسوية إلى ذاته تعالى. فمثلاً، لو قام أحد الشرفاء بزيارة أحدهم، فإنّ صاحب المنزل سيباشر بخدمته وضيافته بنفسه نظراً لشرافة الضيف وأهمّيته، ولأهمّية الفعل وشرفه يتصدّى له صاحب المنزل مباشرةً. كما إنّ من التشريف نسبة روحه إليه تعالى، حيث يقول: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ ولم يرضَ نسب نفخ الروح إلى الغير، من قبيل الملائكة؛ ذلك أنّ الروح كانت مظهر الألوهيّة، وهي من الصقع الربوبيّ وآيته، فإذا ما رأى الإنسان هذه الجنبة في نفسه، فسوف ينسى طبيعته...
لذا، ما كان موجوداً في آدم، والذي من أجله نُسب إلى الله، هو تشريف الإنسان نفسه؛ حيث قال الله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾، وقد سجدت ملائكة الله للإنسان لجهة كونه منسوباً إلى الله والمظهر الأتمّ له. ولكنّ الشيطان لم يكن يرى تلك الجهة، بل رأى جهة الطينيّة في آدم؛ ولذا استدلّ قائلاً: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾[3]. بالطبع، إنّ هذه الكبرى، وهي أنّه لا ينبغي للأشرف أن يسجد للأخسّ ويطيعه صحيحة، ولكنّ خطأ الشيطان كان في الصغرى، حيث لم يرَ تلك الجهة المنسوبة إلى الله[4].
الكمال وطلب الإنسان له
يتحقّق الكمال الإنساني، حيث تكون ذات وجود الإنسان صافية وخالية من الكدورات، من خلال أصلين، هما الحكمة والحرّيّة.
أمّا الحكمة فهي العلم بنظام الوجود، لا بالماهيّات والمفاهيم والحدود، بل الاستقراء والبحث في نظام وجودات العالم هو الحكمة.
والحرّيّة الذاتية، هي أن يتمكّن الإنسان من تحرير نفسه من عبوديّة الشهوة والحرص. وبمقدار ما يكون الإنسان أسير الشهوة والحرص والطمع والظلمة والحسد وغيره، فلن يصل إلى الكمال. ويسير الإنسان في طريق التكامل عندما يخرج من العبوديّة والانقياد للحرص والشهوة، ويتحرّر من قيودهما.
على الإنسان أن يراقب هذين الأصلين. وحقيقة الذات تكون مساعدة من خلال العشق للكمال والنفور من النقص، فكلّ ما يطلبه الإنسان فمن انجذابه لكماله، وكلّ ما لا يعجبه فبسبب نقصه؛ لذا لو وجد الإنسان ما هو الأفضل من كلّ فاضل، فإنّه يميل إليه، وإذا ما احتمل وجود جمال أفضل من الذي يطلبه، فإنّه يتعلّق به، ولو احتمل وجود مملكة أخرى فإنّه يطلبها ويسعى إلى امتلاكها حتّى ولو كان يحكم الكرة الأرضيّة كلّها. ولو كان عالماً بعلم الأرض كلّها، واحتمل وجود علم آخر لطلبه؛ وهذا ناتج عن العشق الذاتيّ للكمال، فذاته هي صرف العشق للكمال، والكمال المطلق هو الله. إذاً، فكلّ ما يطلبه الإنسان، فإنّما يطلبه لكماله، ومن المحال للإنسان أن يطلب شيئاً لجهة النقص الموجودة فيه.
إذاً، الإنسان موحِّد بالفطرة وطالب لله، ويطلب كلّ شيء من أجله، غاية الأمر أنّه أحياناً يظنّ أنّ الشيء الفلانيّ كاملٌ؛ ولأنّ الإنسان يطلب الكمال المطلق، يظنّ أنّه الكمال المطلق. لذا، فالإنسان موحّد بالفطرة، وهذا معنى الآية: "وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ"[5]؛ أي أراد ربّك ألّا تعبدوا. وهذا في الحقيقة شيء واحد، مجبول عليه أصل ذات الإنسان، غاية الأمر أنّ الإنسان ينفر من النقص بالعرض؛ ذلك أنّ النفور من النقص هو من لوازم العشق للكمال المطلق. إذاً، ليس للإنسان أكثر من شيء واحد، وهو العشق للكمال.
نهضة الإنسان: الإنسان والثورة والحرية عند أعلام الفكر الإسلامي الأصيل، جمعية المعارف الإسلامية
1 صحيفة الإمام الخميني، ج8، ص434.
2 (م.ن) ط، ج14، ص147.
3 سورة المؤمنون، الآيات 12-14.
[2] سورة الحجر، الآية 29.
[3] سورة الأعراف، الآية 12.
[4]الإمام الخميني، تقريرات الفلسفة، ج3، ص43.
[5] السيوطي، الدرّ المنثور، ج 4، ص 170.