لقد زوّد الله تعالى الإنسان بالعين ليعرف طريقه إلى العالم المحيط به، وهي من أعظم النعم التي أنعم الله بها على الخلائق، ولكن قد يُسيء الإنسان الاستفادة من هذه العين، فيقع في ظلمات كفران النعم، وذلك حين يُصرّ على أن يُبصر بهذه العين ما يُغضب الجبّار جلّ جلاله، فيعصيه بنعمه بدل أن يشكره عليها. وربما يتغافل أو يغيب عنه أنّ الله تعالى يقول وقوله الحق: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾[1].
فمن يفتح عينه في الحرام يُعمي الله بصيرته عن الحقّ، لأنّ الجزاء من جنس العمل، ومَن غضّ بصره فتح الله بصيرته، ومن أطلق بصره أغلق الله بصيرته، وطمس على قلبه والعياذ بالله، والله تعالى يقول: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾[2]. نعم إنَّ الله خبير بما يصنعون يرى أعمالهم مهما دقّت وصغُرت، ويعلم حركاتهم وسكناتهم، ومطَّلع عليها لا يغيب عنه شيء منها: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[3].
وقد روي عن حكيم الأمّة الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته"[4]. هذا من كرمت عليه نفسه، وأمّا من هانت عليه نفسه، وكانت بدايته اتباع الهوى، فسوف تكون نهايته الذلّ والبلاء المتبوع بحسب ما أتبَع هواه، ويصير له ذلك عذاباً يُلازم قلبه، وقديماً قد قيل:
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً فصارت في المشيب عَذاباً
ومن المأثور من سيرة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ترحّمه على من يُسيطر على شهوته، ويقمع نفسه، فيقول عليه السلام: "فرحم اللّه رجلاً نزع عن شهوته، وقمع هوى نفسه، فإنّ هذه النّفس أبعد شيء منزعاً، وإنّها لا تزال تنزع إلى معصية في هوى"[5].
مصحف البَصر
إنّنا نتحدّث عن موضوع مهمّ قد ابتُلي به الكثير من الناس، وهو مَدّ العين بالنظر إلى ما حرّم الله تعالى، وقد ارتأينا أن نبدء هذا الفصل الهام بما روي عن مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: "القلب مصحف البصر"[6]، وقد سُمِّيَ المُصْحَفُ مُصْحَفاً لأنَّه أُصْحِفَ، أي جُعِلَ جامعاً للصُّحُف المكتوبة بين الدَّفَّتَيْن[7]، وأصبح علماً على القرآن الكريم، فيُقال قرأتُ المصحف...
وأحد وجوه معنى قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "القلب مصحف البصر" هو: أنّ القلب صحيفة ينتقش فيه ما يُدرك بالبصر، فالإدراك البصري يقع بالقلب والبصر آلية له، فكأنّ البصر قلم يرسم المحسوسات في صحيفة القلب[8].
وممّا يجدر الإشارة إليه مطلوب منّا أن نتدبّر المصحف الشريف القرآن الكريم"، وما يحتويه من آيات، وكذلك يتوجّب علينا أن نُراقب ما يرِد عليه من أفكار ومفاهيم في كلّ زمان، فإمّا أن نوافق عليها ونتبنّاها، أو نردّها ونُفندها، فلماذا لا نُكلّف أنفسنا بتدبّر ما احتواه القلب من صور، وبمراقبة ما يرد عليه من أفكار وواردات وصور جديدة، وبالتّالي الرضى بها أو ردّها من حيث أتت. وإنّ أيّ شخص قادر بما آتاه الله تعالى على أن يقوم بمفرده بعمليّات مراقبة وفرز، وتنظيم وتقويم للأفكار الواردة على القلب، وبالتّالي إلغاء موافقات قديمة على استخدام أفكار قلبية[9] سابقة، وكلّ ذلك دون أن يُطلع أو يَطلِع أحد على ما يُجريه في داخله، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "من رعى قلبه عن الغفلة، ونفسه عن الشهوة، وعقله عن الجهل، فقد دخل في ديوان المتنبّهين"[10].
طلائع القلوب، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة الإسراء، الآية 36.
[2] سورة النور، الآية 30.
[3] سورة الحديد، الآية 4.
[4] عبد الواحد بن محمد الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص637، طبعة: دار الكتاب الإسلامي، قم، وابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج20، ص99، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص13.
[5] ابن أبي الحديد المدائني، شرح نهج البلاغة، ج10، ص16.
[6] م.ن، الحكمة 409، الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الحكم، ج1، ص273، والعلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص328 .
[7] الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي، العين، ج2، ص120، طبعة دار ومكتبة الهلال.
[8] حبيب الله الهاشمي الخوئي، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج21، ص489، طبعة المكتبة الإسلامية، طهران.
[9] قال مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام: "العقول أئمّة الأفكار، والأفكار أئمّة القلوب، والقلوب أئمّة الحواسّ، والحواسّ أئمّة الأعضاء.." يراجع محمد بن علي أبو الفتح الكراجكي، كنز الفوائد، ج1، ص200، الطبعة 1: دار الذخائر، قم.
[10] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص68 .