يقول تعالى: ﴿وتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾
﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾: هذا في الحقيقة أمرٌ ذُكر دليله معه، فقد يُسأل لماذا وجب علينا أن نتّقي الله؟ والجواب هو: لأنّ تعاملنا في كلّ شؤوننا هو مع الله، ولو كان مع غير الله فلنجذب انتباهه إلينا! هذا كلام الـمُتاجرة، وهو كلامٌ استدلاليّ، وكلامٌ إذا فكّر الإنسان فيه لأدرك ألّا حيلة له حقيقةً سوى تعامله مع الله.
طبعًا مقام عشّاق الله والعارفين به وأولئك الذين لا يعبدونه خوفًا أو طمعًا إنّما حبًّا هو أسمى بمراتب من أن تصل إليه أيادينا. لكن عندما نتحدّث فيما بيننا فإنّ هذه الآية تخاطبنا. نحن من لنا سوى الله تعالى؟ ونحن ليس لنا سوى الله تعالى، وهو ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾.
فإذا علم الإنسان أنّه سيواجَه يوم القيامة في مستقبله، وإذا أيقن ذلك فيجب عليه أن يتّقي الله ويُراعي أوامره ونواهيه، وهذا معنى التقوى، أيّ المراعاة الشديدة والدقيقة لأوامر الله ونواهيه. إذًا فعندما يقول تعالى ﴿الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ فهو في الحقيقة استدلالٌ على قوله ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾.
ثمّ يقول تعالى ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ﴾: أيّ إنّها من عمل الشيطان، وإنّ طبيعة هذا العمل هي طبيعةٌ شيطانيّةٌ، وهنا يتجلّى ويتّضح لنا أكثر - نوعًا ما - مفهوم الشيطان أيضًا. وعلى سبيل المثال: قد يجلس البعض في جمع، وبينما هم يتحادثون، يشرع اثنان منهم بالنجوى والهمس في الأذن، وهذا ما يُحزن الآخرين ويجعلهم يسيئون الظن فيما يقولانه، إلى درجة أنّهم يعتقدون بأنّهما يحيكان مؤامرةً ضدّ أحدهما أو بما يسوءه.
﴿لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُو﴾: فالأمر لا يعني أنّهم إذا تناجوا وتهامسوا فإنّ جذور المؤمنين ستُجتثّ من الأساس، بل تناجوا أيّها المنافقون ما شئتم! إنّ الله تعالى ينهى عن النجوى حتّى لا يُرتكب عملٌ منافٍ للأخلاق، لا أنّ المؤمنين سيلحق بهم الأذى والضرر، بل مصيرهم (أصحاب النجوى) إلى جهنم هم ومناجاتهم! ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ فكلّ ما في العالم وكلّ قوانينه وقواعده هي بإذن الله ولا يُمكن نقضها إلّا بإذنه، ولهذا يأتي الله تعالى أحيانًا على ذكر "بإذن الله"، وقد أتى على ذكره هنا أيضًا.
﴿وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾: ويجب عليهم ألّا يخافوا من هذه الظواهر والأحداث التي تقع، والتي تُحزنُهم وتنمُّ عن مؤامرة الأعداء. فلنفترض أنّ اثنين من المنافقين جلسا ليتهامسا وقد دبّرا كذلك مؤامرة ضد المؤمنين، فهل سيلحق بالمؤمنين ضررٌ حتميّ من هذه الناحية؟ كلا.
تفسير سورة المجادلة، الإمام السيد علي الخامنئي (حفظه الله)
2021-10-13