يتم التحميل...

درجات الصبر في كلام الإمام الخميني (قدس سره)

إضاءات إسلامية

درجات الصبر في كلام الإمام الخميني (قدس سره)

عدد الزوار: 108



إعلم أن للصبر درجات حسب ما يفهم من الأحاديث الشريفة. ويختلف الأجر والثواب عليه على ضوء مراتبه. كما في الكافي الشريف مستندا إلى مولى المتقين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. «قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ الصَّبْرُ ثَلاَثَةٌ: صَبْرٌ عِنْدَ المُصِيبَةِ وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ وَصَبْرٌ عَنِ المَعْصِيَةِ. فَمَنْ صَبَرَ عَلَى المُصِيبَةِ حَتّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزَائِهَا، كَتَبَ اللهُ لَهُ سِتَّمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ كَتَبَ اللهُ لَهُ سِتَّمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ الأَرْضِ إِلَى العَرْشِ، وَمَنْ صَبَرَ عَنِ المَعْصِيَة كَتَبَ اللهُ لَهُ تِسْعَمِائَةِ دَرَجَةٍ ما بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ الأَرْضِ إِلَى مُنْتَهَى العَرْشِ»([1]).

 ويفهم من هذا الحديث بأن الصبر على المعصية أفضل من كل مراتب الصبر حيث تكون درجات أكثر، والفواصل بين درجاته كبيرة جداً. ويفهم أيضاً بأن مساحة الجنة أوسع مما في أوهامنا نحن المحجوبين والمقيدين. ولعل ما ورد في تحديد الجنة من قوله تعالى: ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾([2]). عائد إلى جنة الأعمال، وما ورد في هذا الحديث الشريف، جنة الأخلاق، والمقياس في جنة الأخلاق، قوّة الإرادة وكمالها، وهي غير محدودة بحدّ. وقال بعضٌ بأن المقصود في الحديث الشريف تحديد الجنة من جهة العلو والارتفاع، وفي الآية المباركة من جهة العرض، ولا تنافس بينهما إذ أنه من الممكن أن يتّحدا من ناحية العرض ويختلفان من ناحية الارتفاع. وهذا بعيد، لأن الظاهر من «العرض» المساحة لا ما يقابل الطول. كما أنه ليس للسماوات والأرض عرضاً بالمعنى المقابل للطول حسب المتفاهم العرفي واللغوي، وان كان لهما عرض بمعنى البُعد الثاني في مصطلح الطبيعيين، والقرآن الكريم لا يتكلم على أساس المصطلحات العلمية.

وفي الكافي الشريف مستنداً إلى الإمام الصادق عليه السلام قال: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وأله وسلم ـ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُنَالُ فِيهِ المُلْكُ إلاّ بِالقَتْلِ وَالتَّجَبِّرِ، وَلاَ الغِنَى إلاّ بِالغَضْبِ وَالبُخْلِ، وَلاَ المَحَبَّةُ إلاّ بِاسْتِخْرَاجِ الدَّينِ وَاتِّبَاعِ الهَوى، فَمَنْ أَدْرَكَ ذلِكَ الزَّمَانَ فَصَبَرَ عَلَى الفَقْرِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الغِنَى وَصَبَر عَلَى البِغْضَةِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى المَحَبَّةِ وَصَبَرَ عَلَى الذُّلِّ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى العِزِّ أَتَاهُ اللهُ ثَوَابَ خَمْسِينَ صِدِّيقاً مِمَّنْ صَدَّقَ بِي»([3]).

 ونقل حديث آخر أيضاً عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بهذا المضمون، وعلى أي حال فإن الأحاديث في هذا الموضوع كثيرة. ونحن نكتفي بهذا القدر من الأحاديث الشريفة.
 
في بيان درجات صبر أهل المعرفة:
اعلم أن ما ذكرناه إلى هنا، يعود إلى عامة الناس والمتوسطين كما ذكرت في أول فصل من هذه الفصول ـ المذكورة ـ من أن الصبر قد عُدَّ من مقامات المتوسطين من الناس. ولكن للصبر درجات أخرى ترجع إلى أهل السلوك والعرفاء والكُمَّلين والأولياء. حيث إن منها:

(الصَبْرُ فِي اللهِ) وهو الثبات في المجاهدة وترك ما هو متعارف عليه لدى الناس ومألوف عندهم. بل ترك نفسه في سبيل الحبيب. وهذا المقام عائد لأهل السلوك.

والمرتبة الأخرى (الصَبْرُ مَعِ اللهِ) وهو لأهل الحضور ومشاهدي الجمال حين الخروج من جلباب الإنسانية، والتجرد عن ملابس الأفعال والصفات ولدى تجلي القلب بتجليات الأسماء والصفات، وتوارد واردات الأُنس والهيبة، وحفظ النفس من التلّونات، والغياب عن مقام الأنس والشهود.

والمرتبة الثالثة (الصَبْرُ عَنِ اللهِ) وهو من درجات العشاق والمشتاقين من أهل الشهود والعيان عندما يعودون إلى عالَمِهم ويرجعون إلى عالم الكثرات والصحو.

وهذا من أصعب مراتب الصبر وأقسى المقامات. وقد أشار إلى هذه المرتبة مولى السالكين وإمام الكُملين أمير المؤمنين عليه السلام في الدعاء الشريف الموسوم بدعاء كميل: «فَهبني يَا إلهِي وَسَيِّدي وَمَوْلاَيَ صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِك فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ».
وَرُوِيَ أَنَّ شَابّاً مِنَ المُحِبّينَ سَأَلَ الشِّبْلِي عَنِ الصَّبْرِ فَقَالَ: أيُّ الصَّبْرِ أَشَدُّ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ للهِ. فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: الصَّبْرُ بِاللهِ. فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: الصَّبْرُ عَلَى اللهِ. فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: الصَّبْرُ فِي اللهِ. فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: الصَّبْرُ مَعَ الله. فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ فَأَيٌّ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ عَنِ اللهِ فَشَهِقَ الشِّبْلِي وَخَرَّ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ «(شرح منازل السائرين، باب الصبر، ص 88).

 والمرتبة الرابعة (الصَّبْرُ باللهِ) وهو لأهل التمكين والاستقامة حيث يحصل بعد الصحو والبقاء بالله وبعد التخلّق بأخلاق الله، ولا نصيب فيه إلاّ للكملين. وحيث أنه لا حظّ لنا في هذه المراتب ولا نصيب، لم نتطرق في هذه الأوراق للبحث المفصل عن ذلك.
 
الأربعون حديثاً، الإمام الخميني (قدس سره)


([1]) (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح 15)
([2]) إشارة للآية الكريمة " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنةِ عرضها السموات والأرض اعدت للمتقين ". آل عمران/ 133.
([3]) (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح 12)

2021-02-02