إن لله سبحانه رجالا مصطفين، يستدر بهم الغمام، ويندر أمثالهم في الدهر، وهم مثل للفضيلة والإخلاص، وخزنة للعلم والأسرار، قد منحهم الله سبحانه من سابق علمه، واستأمنهم على غامض علومه، مما لا يقوى على احتماله غيرهم، فجمعوا العلم، سره وجهره، وحازوا من الفضائل، نفسيها وخلقيها، وبلغوا القمة في العبادة قوليها وعمليها جارحيها وجانحيها، وأخذوا عنه سبحانه أسرار العلم وجواهر الحكمة حتى زكت نفوسهم، وكادوا أن يزاحموا الملائكة المقربين. وفي حقهم يقول أمير المؤمنين - عليه السلام: "ما برح لله، عزت آلاؤه، في البرهة بعد البرهة وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم وكلمهم في ذات عقولهم"([1]).
أجل إن الإيمان المحض والعبودية الخالصة، يرفعان بالإنسان إلى درجة يستطيع معها صاحبها أن يتصرف في الكون إذا أراد بإذن الله سبحانه، ويخرق القوانين الطبيعية بمشيئته تعالى. ولقد بين الذكر الحكيم بعض أعمالهم وأفعالهم التي تبهر العقول وتدهش العيون، وهم بين نبي اصطفاه الله سبحانه لهداية الناس ومده بالبينات، وزوده بالمعجزات، ورجل صالح مخلص لا يدرك له شأو ولا يشق له غبار، وهم وإن لم يكونوا بأنبياء ولكن يغبطهم بعض الأنبياء، على منازلهم، ومقاماتهم. وها هو علي - عليه السلام يعرفهم بقوله: "هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه"([2]). إن هؤلاء الأبدال قد منحوا هذه المنزلة الرفيعة بفضل العبودية وسلوك سبيل الطاعة، فعلموا بما لم يعلم به الناس، ووقفوا على علم الحوادث والوقائع التي يبتلى بها الناس، وتصرفوا في الكون تصرفا بديعاً خارجاً عن السنن العادية إلى غير ذلك مما لهم من المثل والفضائل.
إن العبادة التي يتصور أكثر الناس أن آثارها تنحصر في دفع العذاب والعقاب وجلب الثواب، تمنح النفس قدرة عظيمة يكون بها صاحبها مثلا لله سبحانه، ولله المثل الأعلى، وتعالى عن الند والمثل. إن سلوك طريق العبودية والانتهاء عن المحرمات والالتزام بالواجبات والمستحبات، والإخلاص في القول والعمل ذو أثر عظيم وعميق في تزويد النفس بقدرة خاصة خارقة للقوانين والسنن الكونية لأهداف عالية، إلى هذا يشير الحديث القدسي: "ما تقرب إلي عبد بشئ أحب إلي مما افترضت عليه، وأنه ليتقرب إلي بالنافلة فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته"([3]). فكم في المؤمنين بالله من ذوي الرتب العلوية، رجال وأبدال شملتهم العناية الإلهية، فجردوا أنفسهم عن أبدانهم، حينما أرادوا معاينة الحقائق، واطلعوا على الأسرار، على غرار اطلاع يعقوب على مصير ابنه، واطلاع يوسف على الغامض من حياة صاحبيه في السجن.
في ظل أصول الإسلام، سماحة الشيخ جعفر سبحاني
([1]) نهج البلاغة، الخطبة: 217.
([2]) المصدر نفسه: قصار الحكم: 147.
([3]) الوسائل: ج 3، الباب 17 من أبواب إعداد الفرائض برقم 6