موانع البصيرة متعدّدة، منها خارجية ومنها داخلية، وما سنذكره هنا هو الموانع الداخلية لتحقق البصيرة عند الإنسان.
1- الأماني:
يقول الله تعالى: ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[1].
"الأماني" جمع "أمنية"، والمقصود بها هنا الرجاء الذي لا يتحقّق للإنسان. والأمل أو التمنّي إنّما يَنبع من محدوديّة قدرة الإنسان وضَعْفه. فإذا كانت له علاقة بالشيء ولم يستطع أن يبلُغَه ويحقّقه فإنّه يأخذ صورة التمنّي عنده. وإذا استطاع الإنسان أن يحقّق كلّ ما يريده ويرغب فيه، لم يكن للتمنّي من معنى. وبالطبع، قد تكون أماني الإنسان، أحياناً، نابعة من روحه العالية، وباعثة على الحركة والجدّ والنشاط والجهاد وسَيْره التكامليّ، كما لو تمنّى بأن يتقدّم الناس بالعِلْم والتقوى والشخصيّة والكرامة، إلّا أنّه كثيراً ما تكون هذه الأحلام والأماني كاذبة. وعلى العكس من الأماني الصادقة، فإنّها أساسٌ للغفلة والجهل والتخدير والتخلُّف، كما لو تمنّى الإنسان الخلود في الأرض والعمر الدائم وأن يملك أموالاً طائلة وأن يحكُم الناس جميعاً...
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ قلوب الجهّال تستفزّها الأطماع، وترتهنها المنى، وتستعلقها الخدائع"[2].
وعنه أنّه قال عليه السلام: "إنّ الطمع موردٌ غير مُصدِر، وضامنٌ غير وفيٌّ، وربّما شرق شارب الماء قبل ريّه. وكلّما عظم قدر الشيء المتنافس فيه عظمت الرزيّة لفقِده. والأمانيُّ تُعمي أعين البصائر، والحظُّ يأتي من لا يأتيه"[3].
2- حبّ الدنيا:
عن الإمام عليّ عليه السلام: "لِحُبِّ الدُّنيا صَمَّتِ الأسمَاعُ عَن سَمَاعٍ الحِکمَهِ، وَعَمِيَتِ القُلُوبُ عَن نُور البَصيرَةِ"[4]. وفي المقابل، الزهد بالدنيا يؤدّي إلى البصيرة، يقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "مَن زَهَدَ في الدُّنيا عَلَّمَهُ الله بِلا تَعَلُّمٍ وَجَعَلَهُ بصيراً، وكشف عنه العمى"[5].
حبّ الدنيا رأسُ كلّ خطيئة، وأساس كلّ نقصان، ومن انطوى باطنه على حبّ الدنيا حتّى مال إلى شيء، لا ليتزوّد منها ويستعين بها على الآخرة، فلا يطمعنّ أن يصفو له لذّة المناجاة، ولن يشعر بروح وحقيقة العبادة، ولذا نرى الأدعية ركّزت على ضرورة إخراج حبّ الدنيا من القلب، "أَخرِج حبّ الدنيا من قلبي"[6].
3- الغفلة:
قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[7].
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أمّا علامة الغافل فأربعة: العمى، والسهو، والّلهو، والنسيان"[8].
وقد حذّر الإمام عليّ عليه السلام عن الغفلة ووصفها بأوصاف تبيّن خطورتها، منها: "دَوَامُ الغَفلَةِ يُعمِي البَصيرهَ"[9]، "من غَفِل جَهِل"، "الغفلة ضلالة"، "من غلبت عليه الغفلة مات قلبه"، "الغفلة ظُلمَة"[10].
الغفلة هي من الأمراض الخَطِرة، والتي تؤثّر على نفسيّة الإنسان وسلوكيّاته، ولذا عندما وصف الإمام عليّ عليه السلام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنّه طبيب يعالج أمراض الناس الأخلاقيّة، ومن المواضع التي كان يتّبعها مواضع الغفلة، قال: "طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّه، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَه، وأَحْمَى مَوَاسِمَه، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْه، مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ، وآذَانٍ صُمٍّ، وأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِه مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ ومَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ"[11].
ومواضع الغفلة ومواطن الحيْرة كناية عن قلوب الجهّال، فقوله: "دوّار بطبّه"، لأنّ الطبيب الدوّار أكثر تجربة، أو يكون قد عنى به أنّه يدور على من يُعالجه، لأنّ الصالحين يدورون على مرضى القلوب، فيعالجونهم. ويقال: "إنّ المسيح رُئي خارجاً من بيت مومسة، فقيل له: يا سيّدنا، أمثلُكَ يكون هاهنا؟! فقال: إنّما يأتي الطبيبُ المرضى".
والمراهم هي الأدوية المركّبة للجراحات والقروح. والمواسم هي حدائد يوسم بها الخيل وغيرها، ثمّ ذكر أنّه إنّما يعالج بذلك من يحتاج إليه، وهم أولو القلوب العمي، والآذان الصمّ، والألسنة البُكم، أي الخُرْس. وهذا تقسيم صحيح حاصر، لأنّ الضلال ومخالفة الحقّ يكون بثلاثة أمور: إمّا بجهل القلب، وإمّا بعدم سماع المواعظ والحُجج، أو بالإمساك عن شهادة التوحيد وتلاوة الذّكْر. فهذه أصول الضلال، وأمّا أفعال المعاصي ففروع عليها[12].
إنّ معي لبصيرتي، دار المعارف الإسلامية الثقافية - بتصرّف
[1] سورة الحديد، الآية 14.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج19، ص35.
[3] نهج البلاغة، خُطَب الإمام عليّ (تحقيق صالح)، مصدر سابق، رقم 275، ص 524.
[4] الّليثيّ الواسطيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، مصدر سابق، ص 404.
[5] السيّد حسن القبانجيّ، مسند الإمام عليّ عليه السلام، تحقيق الشيخ طاهر السلامي، مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات، لبنان - بيروت، 1421 - 2000م، ط1،ج10، ص 138.
[6] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، نشر مؤسّسة فقه الشيعة، لبنان - بيروت، 1411ه، ط1، ج2، ص 591.
[7] سورة ق، الآية 22.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 1، ص 122.
[9] الّليثي الواسطيّ، عيون الحِكَم والمواعظ، مصدر سابق، ص 250.
[10]العِلْم والحكمة في الكتاب والسُنَّة، محمّد الريشهريّ، الغفلة، ص 167.
[11] نهج البلاغة، مصدر سابق، 108 ومن خِطبة له عليه السلام، وهي من خُطب الملاحم، فتنة بني أميّة، ص 156.
[12] ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن هبة الله، شرح نهج البلاغة، تحقيق وتصحيح محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ، إيران - قم، 1404ه، ودار إحياء الكتب العربيّة - عيسى البابيّ الحلبيّ وشركاه، 1378ه - 1959م، ط1، ج7، ص 184.