يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "وإيَّاكَ والإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، والثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وحُبَّ، الإِطْرَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِه، لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ..."[1].
موانع البصيرة
وموانع البصيرة متعدّدة، منها: حبّ الدنيا، السعي وراء الشهوات والملذّات، الفِتن والشُبهات، الغفلة، الأماني، وغير ذلك. ويمكن احتساب كلّ ما هو مضادّ للنور والبصيرة أنّه من موانع البصيرة، وإن كانت مانعيّته تختلف باختلاف درجته.
القسم الأوّل: الموانع الخارجيّة
1- الفِتنة واشتباه الحقّ بالباطل:
إنّ الفِتن بطبيعتها تعمل على حَجْب عيون البصيرة فتعميها، تمنعها من العمل أصلاً، أو بالحدّ الأدنى تُضعف قدرتها.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّه، ويَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّه. فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ، لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ، انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ[2] ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه، ويَنْجُو - الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّه الْحُسْنى"[3].
إنّ الفتنة تقع حينما يختلِط الحقّ بالباطل والباطل بالحقّ، ويغدو التمييز بينهما دقيقٌ وصَعْب للغاية، لأنّه في مثل هذه الظروف لا تكون الأمور واضحة المعالِم، بمعنى أن يكون الحقّ في جهة والباطل في جهة أخرى. وما على الإنسان إلّا اتّباع الحقّ أو الباطل، بل تكون الأمور مختلَطة وغير واضحة، ولذا يحتاج الإنسان إلى بصيرة قويّة تُمكّنه من تشخيص الأمور واتّخاذ الموقف المناسب. على كلّ حال، إنّ طبيعة عالم الدنيا هي اختلاط الحقّ بالباطل، في حين أنّ طبيعة البعث هو فصل الحقّ عن الباطل.
ولهذا السبب فإنّ أحد أسماء يوم القيامة في القرآن المجيد هو "يوم الفصل"، والذي كُرّر عدّة مرات، اليوم الذي تظهر فيه كافّة الخفايا والأسرار، ويُفصل فيه بين الصفوف.
2- الإعلام المضلِّل:
والإعلام المضلّل يعمل على عدّة محاور، وذلك لإبعاد الناس عن المنهج الحقّ.
فإذا رجعنا إلى التاريخ لنقرأ الصراع بين الحقّ والباطل، فسنجد نموذجاً لذلك ما استخدمه فرعون من طُرق إعلاميّة متعدّدة في معركته مع النبيّ موسى عليه السلام، ونورِد منها ما يأتي: تخويف الناس وبثّ الدعايات الكاذبة أو تفخيم بعض الحقائق، لِصَرْف الناس عن دينهم، ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾[4].
- بثّ روح التشاؤم من موسى عليه السلام وأتباعه في الناس، والإيحاء بأنّهم هم سبب الوَيلات على المملكة وما فيها، ﴿فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ﴾[5].
وهذا ما يعتمده الإعلام المضلّل من خلال تنفير الناس من النهج الحقّ وإلحاق التُّهَم فيهم. ومن هنا يعمل الإعلام المضلّل على محاوِر متعدّدة لضرب الفِكر الإسلاميّ، وهذا يؤثّر بشكلٍ كبير على بصيرة المؤمن. ومن أهم هذه المحاور:
- الحرب الإعلاميّة على الهويّة الإسلاميّة، كما في الدعوة الصادرة من الغرب للعولمة وفصْل الدين عن الدولة، ودعوة بعض التافهين لتغريب المفاهيم والقِيَم الإسلاميّة.
- محاولة إسقاط الرموز الإسلاميّة، كما نراه في المحاولات المتكرّرة والوضعيّة بالإساءة لشخصيّة النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في الأفلام السينمائيّة والرسوم الكاريكاتوريّة.
- القيادة الضالّة والمضلِّلة، ومنها اختراع شخصيّات تحمِل طابعاً دينيّاً أو إيمانيّاً كَحالِ رؤوس التشيُّع الُّلندني، أو أمراء التكفير الذين يُضلّون الناس المؤمنين عن حقيقة الإيمان ويوجّهونهم نحو الدين المشوّه الذي يقدّم الإسلام بصورة قاتمة ومخيفة.
إنّ معي لبصيرتي، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم 53 من كتاب له عليه السلام كتبَهُ للأشتر النخعيّ – لمـّا ولّاه على مصر وأعمالها حين اضّطرب أمْرُ أميرها محمّد بن أبي بكر، وهو أطول عهْد كتبَه وأجمعه للمحاسن، ص 443.
[2] مجمع البحرين: الضغث: قبضة الحشيش المختلط رطبها ويابسها، ويقال ملء الكف من القضبان والحشيش.
[3] نهج البلاغة، مصدر سابق، رقم 50 من كلام له عليه السلام، وفيه بيان لما يخرب العالم به من الفتن وبيان هذه الفتن، ص 88.
[4] سورة غافر، الآية 26.
[5] سورة الأعراف، الآية 131.