يتم التحميل...

هل وجود الدولة ضرورة اجتماعية؟

إضاءات إسلامية

هل وجود الدولة ضرورة اجتماعية؟

عدد الزوار: 121



بالرغم من تصوّر البعض بأنّ «الحرية» وقيام «السلطة الحكومية» أمران متناقضان لا يجتمعان أبداً وأنّ صيانة الحرية الفردية تقتضي - بالضرورة - أن تحذف «الحكومة والدولة» من قاموس الحياة البشرية.

وبالرغم من تصوّر أنّ الدول والحكومات هي ما تتألف - دائماً - من الأقوياء، وتراعي حقوقهم ومصالحهم على حساب حقوق الضعفاء ومصالحهم.

وكذا بالرغم من تصوّر أنّ الإنسان طيب ذاتاً وأنّه مخلوق عاقل وعالم فلا حاجة إذن إلى وجود دولة تنظم أُموره وتدبّر شؤونه وتحفظ مصالحه.

على الرغم من جميع تلك التصوّرات والمزاعم التي تكشف عن نوع من السفسطة والسذاجة ولا تنتج سوى الفوضى والهرج والمرج فإنّ ضرورة وجود حكومة في حياة البشر في غاية الوضوح بحيث لا يحتاج إلى دليل وبرهان أبداً.

إنّ الضرورة تقضي بقيام دولة تصون الحريات الفردية إلى جانب المصالح الاجتماعية وتسعى في تنظيم الطاقات وتنمية المواهب، وتوقف أبناء المجتمع على واجباتهم، وتجري القوانين الإلهية أو البشرية.

ولأجل هذا اعتبر جماعة من الفلاسفة والعلماء الكبار، (كأفلاطون وأرسطوا وابن خلدون وغيرهم)([1])، وجود الدولة ضرورة حيوية لا بد منها.

ولم يشذ عن ذلك إلّا ماركس الذي اعتبر وجود الدولة أمراً ضرورياً ما دام هناك وجود للصراع الطبقي، أما مع انتشار الشيوعية واستقرار النظام الشيوعي في العالم كله فلا حاجة إليها.

غير أنّ ماركس نظر إلى الحياة البشرية من زاوية واحدة هي زاوية «الصراع الطبقي» في حين أنّ للحياة البشرية زوايا أُخرى لو نظر إليها ماركس، وطالعها بموضوعية ودقة، لما حكم بعدم الحاجة إلى الدولة، ولما دعا إلى زوالها حتى بعد انتشار الشيوعية ـ حسب نظره ـ.

لأنّ سبب النزاع والاختلاف بين أفراد البشر لا ينحصر في الصراع الطبقي فقط بحيث لو زال هذا الصراع لأصبحت الأرض جنة عدن، بل هناك الغرائز البشرية كغريزة حب الجاه، وحب الذات، وغيرها من الغرائز غير المهذبة، هي أيضاً منشأ الصراع والاختلاف بين البشر إلى جانب «الصراع الطبقي».

ثم على فرض أن لا يكون هناك صراع طبقي فضرورة وجود الحكومة لأجل إدارة المجتمع من زاوية للقيام بحوائجها الاجتماعية أمر لا مناص منه.

فالمجتمع الذي زال فيه الصراع الطبقي لا يشذ عن سائر المجتمعات في احتياجه إلى من يدير أُموره من تأمين سكنه وصحته وتعليمه وتربيته ومواصلاته البرية والبحرية والجوية، والفصل في خصوماته في ما لا يرجع إلى الأُمور الطبقية إلى غير ذلك من الشؤون التي لا مناص منها لإقامة المجتمع مما يحتاج إلى المؤسسات، وإدارة شؤونها.

فلابد من مؤسسات تقوم كل واحدة منها بناحية من هذه الأُمور وتنظيمها ولا نعني من الحكومة إلّا هذا.

 وعلى أي حال فلابد من دولة توقف الناس على وظائفهم القانونية، وتعاقب المخالفين المتجاوزين، وتعيد الحقوق المهضمومة إلى ذويها، وتصون النظام والانضباط الاجتماعي الذي يمثل قاعدة السعادة ورمز بقاء المدنية، وأساس استمرار الحضارة وسبب تقدم البشرية في المجالات المادية والمعنوية.

وخلاصة القول: إنّ حفظ النظام الاجتماعي والحضارة الإنسانية وتعريف أفراد المجتمع بواجباتهم، ومالهم وما عليهم من الحقوق، ورفع أي نزاع وتصارع في حياة الجماعة أُمور تحتاج إلى: مرجع قوي يقوم بهذه المهام الضخمة، وهذا الواجب الإنساني الشريف ويحفظ بالتالي أساس الحضارة الذي هو حفظ النظام الاجتماعي وصيانته من التقهقر والانحطاط.

إنّ حقيقة الإسلام ليست إلّا سلسلة من «الأُصول والفروع» المنزلة من جانب الله والتي كلَّف رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدعوة الناس إليها وتطبيقها على الحياة في الظروف المناسبة، ولكن حيث إنّ تطبيق طائفة من الأحكام التي تكفل استقرار النظام في المجتمع لم يكن ممكناً دون تشكيل حكومة وقيام دولة، لذلك أقدم النبي (صلى الله عليه وآله) بحكم العقل، وبحكم ما كان له من الولاية المعطاة له من قبل الله، على تشكيل دولة.

على أنّ الحكومة ليست بذاتها هدف الإسلام بل الهدف هو تنفيذ الأحكام والقوانين وضمان الأهداف الإسلامية العليا، وحيث إنّ هذه الأُمور لا تتحقق دون أجهزة سياسية، وسلطات حكومية لذلك قام النبي (صلى الله عليه وآله) بنفسه بمهمة تشكيل مثل هذه الدولة وتأسيس مثل هذه الحكومة.

والخلاصة: أنّ إجراء حد السرقة والزنا على السارق والزاني، وتنفيذ سائر الحدود والعقوبات، ومعالجة مشاكل المسلمين، وتسوية نزاعاتهم في الأُمور المالية والحقوقية، ومنع الاحتكار والغلاء، وجمع الضرائب المالية الإسلامية وتوسيع رقعة انتشار الإسلام، ورفع الاحتياجات الأُخرى في المجتمع الإسلامي وغيرها، لا يمكن أن تتحقق دون وجود أمير جامع وزعيم حازم وبدون حكومة، وزعامة مقبولة لدى الأُمّة.

وحيث يتوجب على المسلمين الآن أن يطبقوا الأحكام الإسلامية بحذافيرها من جانب، وحيث إنّ تطبيقها على الوجه الصحيح لا يمكن دون تأسيس سلطة يخضع لها الجميع من جانب آخر، لهذا كله يتحتم أن تكون لهم أجهزة سياسية وتشكيلات حكومية، في إطار التعاليم والقيم الإسلامية ليستطيعوا بها أن يتقدّموا - في كل عصر - جنباً إلى جنب مع المتطلبات المستحدثة والاحتياجات المتجدّدة.

لقد أشار الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى ضرورة تكوين مثل هذه الحكومة بل إلى ضرورة وجود حاكم ما مرجحاً الحاكم الجائر على الفوضى الاجتماعية والهرج والمرج الذي يستتبعه عدم وجود حاكم، وأشار في نفس الوقت إلى أنّ الحكومة في منطق الإسلام ليست هي الهدف، بل هي وسيلة لاستقرار حياة كريمة آمنة حتى يتمتع كل فرد بحقوقه العادلة.

لقد أشار الإمام علي إلى أنّ الدولة - في نظر الإسلام - وسيلة لحفظ النظام الاقتصادي والأمن والدفاع وأخذ حقوق المستضعفين من الأقوياء المستكبرين، إذ يقول: «إنّه لابد للناس من أمير، بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع الفيء ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي».

وفي رواية أُخرى قال: «أمّا الإمرة البرة فيعمل فيها التقي، وأمّا الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي، إلى أن تنقطع مدته، وتدركه منيته»([2]).

وعلى هذا البيان يكون وجود الدولة ضرورة اجتماعية لا مناص منها.

أضف إلى ذلك أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) كلّف بعد رجوعه من حجة الوداع في غدير خم بأن ينصّب علياً خليفة من بعده لإمرة المسلمين، من جانب الله، وكان الأمر الإلهي مصدراً بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾([3]).

ثم يجسد الله أهمية هذا الموضوع وخطورته القصوى بأنّ عدم إبلاغ ما أُوحي إليه في أمر الخلافة يساوي عدم إبلاغ الشريعة رأساً، إذ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾([4]).

إنّ هذه الآية كما تدلّ على مقام الإمام وعظيم مكانته تكشف -كذلك - عن أهمية مقام الإمامة وخطورة قيادة المجتمع، لأنّه بسبب الإمام القائد تشرق أشعة العدالة على المجتمع البشري ولا تغيب، وهو الذي بسببه تبقى التعاليم الإلهية حية مصانة من كل تحريف، وبسببه تصل البشرية إلى شواطئ السعادة المادية والمعنوية على السواء.
 
مفاهيم القرآن، العلامة الشيخ جعفر السبحاني


([1]) مقدمة ابن خلدون : 41 ـ 42.
([2]) نهج البلاغة: الخطبة 39.
([3]) المائدة: 67.
([4]) المائدة: 66.

 
2020-11-16