البداء هو عين النسخ، إلا أنه يقال على الأمور التكوينية، وأما النسخ فيقال على الأمور التشريعية، فهو مرتبط بنظام التكوين، ذلك أنه تعالى قد بنى الكون على أساس قانون العلية، من خلال إيجاد المقتضيات والشروط ورفع الموانع، فإذا تمت العلة لم يمكن تخلف المعلول عن التحقق.
فالبداء إذاً لا يعني التدخل في سنن التكوين، بمعنى حصول التغير فيها بمعزل عن الأسباب والعلل، بل هو يتوافق مع هذه السنن، غاية الأمر أن حصوله يتم بواسطة تحقق المعدات والعلل الناقصة وعدم تحققها.
وعلى هذا الأساس، فلا مكان للبداء بعد تحقق العلة التامة للأشياء، وهو ما يعبر عنه بالقضاء والإبرام في المصطلح الشرعي المستفاد من أقوال الأئمة (عليهم السلام)، بل هو مورد العلل الناقصة والمعدات، وما يعبر عنه بالقدر.
وقد فصل الإمام الكاظم (عليه السلام) هذه المسألة، على نحو يرفع كل التباس فيها، فقد ورد عن معلى بن محمد أنه قال: «سأل العالم (عليه السلام) كيف علم الله؟ قال (عليه السلام): علم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى، فأمضى ما قضى، وقضى ما قدر، وقدر ما أراد، فبعلمه كانت المشيئة، وبمشيئته كانت الإرادة، وبإرادته كان التقدير، وبتقديره كان القضاء، وبقضائه كان الإمضاء، والعلم متقدم على المشيئة، والمشيئة ثانية، والإرادة ثالثة، والتقدير واقع على القضاء بالإمضاء.
فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء، وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء، فالعلم في المعلوم قبل كونه، والمشيئة في المنشأ قبل عينه، والإرادة في المراد قبل قيامه، والتقدير لهذه المعلومات قبل تفصيلها وتوصيلها عيانا ووقتا، والقضاء بالإمضاء هو المبرم من المفعولات، ذوات الأجسام المدركات بالحواس، من ذي لون وريح ووزن وكيل وما دب ودرج من إنس وجن وطير وسباع وغير ذلك مما يدرك بالحواس.
فلله تبارك وتعالى فيه البداء مما لا عين له، فإذا وقع العين المفهوم المدرك فلا بداء، والله يفعل ما يشاء، فبالعلم علم الأشياء قبل كونها، وبالمشيئة عرف صفاتها وحدودها، وأنشأها قبل إظهارها، وبالإرادة ميز أنفسها في ألوانها وصفاتها، وبالتقدير قدر أقواتها، وعرف أولها وآخرها، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلهم عليها، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها وذلك تقدير العزيز العليم»[1].
يتبين مما تقدم، أن البداء، الذي يقول به الإمامية، على وزان الكثير من الآيات القرآنية المباركة، التي تحدثت عن التعليل بظهور علمه تعالى، كما في قوله تعالى: ﴿وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه﴾[2].
وقوله تعالى: ﴿ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم﴾[3].
فكما لا يمكن نسبة علمه تعالى إلى الحصول بعد عدمه، كذلك الحال في البداء، فإن المراد منه أن يظهر للعيان ما في علمه تعالى المكنون، فحقيقته الإبداء والإظهار والإبانة.
البداء وتأثير الدعاء:
أشرنا في ما سبق، إلى أن علمه تعالى المتعلق بالظواهر الكونية، وأسبابها، ونتائجها، مودع في مخلوق شريف، يسمى "اللوح المحفوظ"، وإن كل من يمكنه الاتصال بهذا اللوح سيعلم الظواهر الكونية، ماضيها وحاضرها ومستقبلها، إلا أن هناك ألواحا أخرى أدنى مرتبة من اللوح المحفوظ، حفظت فيها هذه الظواهر لكن بصورة مشروطة وغير تامة، ومعلقة على أمور أخرى، بحيث يكون تحقق الظاهرة، وحصولها في الواقع العيني، متوقفا على تحقق هذه الشروط، أو رفع الموانع المفترضة. وقد اتضح مما تقدم أن البداء يحصل في هذا المستوى، أي في الألواح الثانوية، وهذا ما يعبر عنه في لسان الروايات بالأجل الموقوف، فقد ورد عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: "سألته عن قول الله عز وجل: قضى أجلا وأجل مسمى عنده، قال: هما أجلان، أجل محتوم وأجل موقوف"[4].
وعن الفضيل قال: "سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء، ويؤخر منها ما يشاء"[5].
ومن هذه الشروط والظروف ما يرتبط بفعل الإنسان واختياره، ذلك أن لفعل الإنسان أثرا في عالم التكوين، بحيث يمكنه أن يحقق شروطا، أو يرفع موانع، لاستنزال رحمة أو عذاب من خلال فعله، وهو ما أشار عليه قوله تعالى، حكاية عن نوح (عليه السلام): ﴿فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم أنهار﴾[6].
حيث دلت هذه الآيات أن الاستغفار والدعاء يؤثر في عالم التكوين أثرا حقيقيا، فإنه من جملة المعدات، الواقعة في طريق تمام العلة، وهو ما أكدت عليه الكثير من الأحاديث الشريفة، وإن الأمر، لم يصل إلى مرتبة الإمضاء منه تعالى، فإنه قابل للتغير والتبدل، فقد ورد عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) أنه قال: "عليكم بالدعاء، فإن الدعاء لله، والطلب إلى الله، يرد البلاء وقد قدر وقضى ولم يبقى إلا إمضاؤه، فإذا دعي الله عز وجل وسئل صرف البلاء صرفه"[7].
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): "الدعاء يرد القضاء بعدما أبرم إبراما"[8].
والأحاديث الواردة الدالة على تغيير المقادير، وتحقق البداء كثيرة ومتفرقة في مختلف الأبواب.
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
[1] أصول الكافي، ج1، ص148، ح16
[2] سورة البقرة، آية:143
[3] سورة محمد، آية:31
[4] أصول الكافي، ج1، ص147، ح4.
[5] المصدر نفسه، حاشية7
[6] سورة نوح، آية:10-12
[7] أصول الكافي، ج2، ص470، ح8
[8] أصول الكافي، ج2، ص470، ح7