كانت سُحُبُ الجاهلية الداكنة تُغطّي سماء الجزيرة العربية، وتمحي الاعمالُ القبيحةُ والممارساتُ الظالمة، والحروبُ الداميةُ، والنهبُ والسلبُ، ووأدُ البنات، وقتلُ الاولاد، كلَ فضيلة أخلاقية. في البيئة العربية وكان المجتمع العربيّ قد اصبح في منحدر عجيب من الشقاء، ليس بينهم وبين الموت الاّ غشاء رقيق ومسافة قصيرة!!
في هذا الوقت بالذات طلع عليهم شمس السعادة والحياة فأضاءت محيط الجزيرة الغارق في الظلام الدامس، وذلك عندما أشرقت بيئة الحجاز بمولد النبيّ المبارك «محمَّد» (صلى الله عليه وآله) وبهذا تهيأَت المقدمات اللازمة لنهضة قوم متخلف طال رزوحُه تحت ظلام الجهل، والتخلف، وطالت معاناته لمرارة الشقاء. فإنه لم يمض زمن طويل إلاّ وملأ نور هذا الوليد المبارك أرجاء العالم وأسس حضارة إنسانية عظمى في كل المعمورة.
فترةُ الطُفولة في حَياة العُظماء:
إن جميع الفصول في حياة العظماء جديرةٌ بالتأمل، وقمينة بالمطالعة، فربما تبلغ العظمة في شخصية أحدهم من السعة، والسموّ بحيث تشمل جميعُ فصول حياته بدء من الطفولة، بل وفترة الرضاع فتكون حياته وشخصيته برمتها سلسلة متواصلة من حلقات العظمة.
إن جميع الأدوار، والفترات في حياة العظماء، والنوابغ وقادة المجتمعات البشرية، وروّاد الحضارات الإنسانية وبُناتها تنطوي في الأغلب على نقاط مثيرة وحساسة وعلى مواطن توجب الاعجاب.
إن صفحات تاريخهم وحياتهم منذ اللحظة الّتي تنعقد فيها نطفهم في أرحام الاُمهات، وحتّى آخر لحظة من أعمارهم مليئة بالاسرار، زاخرة بالعجائب.
فنحن كثيراً ما نقرأ عن اُولئك العظماء في أدوار طفولتهم أنها كانت تقارن سلسلة من الامور العجيبة، والمعجزة.
ولو سهل علينا التصديق بهذا الامر في شأن الرجال العاديين من عظماء العالم لكان تصديقنا بأمثالها في شأن الانبياء والرسل اسهل من ذلك بكثير، وكثير.
إن القرآن الكريم ذكر فترة الطفولة في حياة النبيّ موسى عليهالسلام في صورة محفوفة بكثير من الأسرار، فهو يقول ما خلاصته: ان مئآت من الاطفال قُتِلوا وذُبحوا بأمرْ من فرعون ذلك العصر منعاً من ولادة موسى ونشوئه.
ولكن إرادة اللّه شاءت ان يُولد الكليم، وظلت هذه المشيئة تحفظه من كيد الكائدين ولهذا لم يعجز أعداؤه عن القضاء عليه أو إلحاق الأذى به فحسب، بل تربى في بيت فرعون أعدى أعدائه.
يقول القرآن الكريم في هذا الصدد: «وَلَقد مَننّا عَلَيْكَ مَرّة اُخرى إذْ أَوْحَيْنا إلى اُمِّكَ ما يُوحَى أَن أقذفيهِ في التابُوت فاقذفيه في اليمَّ فَليُلْقِهِ اليمُّ بِالْساحِلَ ياخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وعَدوُ لَهُ وَأَلقَيْتُ عَلَيْكَ مَحبَّةً مِنّي وَلِتُصنَعَ عَلى عَيْني».
ثمّ يقول: «إذْ تَمشِيْ اُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجعْناكَ إلى اُمِّكَ كيْ تَقَرَّ عَينُها وَلا تَحْزنْ»([1]).
ثمّ إن القرآن الكريم يذكر قصة ولادة المسيح، ويصور طفولته ونشأته بشكل أعجب إذ يقول: «وَاذْكُر في الكتاب مرَيَم إذ اْنتَبذَتْ مِنْ أهلهَا مَكاناً شَرْقيّاً. فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونهمْ حِجَاباً فأَرسَلْنا إليها رُوحَنا فَتَمثَّلَ لَها بَشَراً سَويّاً. قالَت إنّي أعُوذُ بالرَّحْمن مِنْكَ إنْ كُنْتَ تَقيّاً قالَ إنَّما أنا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهبَ لَكِ غُلاماً زكيّاً. قالَت أَنّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أكُ بَغِيّاً. قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَليَّ هَيِّنٌ وَلنجعلَهُ آية لِلنّاسِ وَرَحمَةً مِنَّا وَكانَ أمْراً مَقْضِيّاً. فَحَملَتْهُ فانتَبِذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيّاً. فاَجاءها الَمخاضُ إلى جِذْع النَخلة قالَت يالَيتَني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً. فَنادَاهَا مِنْ تَحْتِها ألا تحزَني قَدْ جَعَلَ رَبُّكَ تَحتَكِ سَريّاً. وَهُزِّي إلَيْكِ بِجذْع النَخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطباً جَنيّاً. فَكُلي واْشرَبي وَقَرّي عَيْناً فَإمّا ترينَّ مِنَ البَشَر أحداً فقُولي إنّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ اُكلِّمَ الْيَوْمَ إنسِيّاً. فَأتتْ بهِ قَوْمَها تَحمِلُه قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئتِ شَيئاً فَريّاً. يا اُخْتَ هارُونَ ما كانَ أبوكِ امْرَأَ سَوء وَما كانَتْ اُمُّكِ بَغِيّاً. فأشارَتْ إليْهِ قالُوا كَيفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ في المَهْدِ صَبيّاً. قالَ إنّي عَبْدُ اللّه آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعلَني نَبيّاً. وَجَعلَني مُباركاً أينَ ما كُنْتُ وَأوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكاة مادُمْتُ حَيّاً. وَبَرّاً بوالِدتي وَلَمْ يَجْعَلْني جَبّاراً شَقِيّاً. وَالسَّلامُ عَليّ يَومَ وُلِدتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ اُبْعَث حَياً»([2]).
فإذا كان أتباع القرآن والتوراة والانجيل يشهدون بصحة هذه المطالب حول ولادة هذين النبيين العظيمين من اولي العزم لموسى وعيسى عليهما السلام، ويقرون بصدقها، فلا يصحّ في هذه الصورة أن نستغرب وقوع أمثالها في شأن رسول الإسلام، ونتعجب من الحوادث العجيبة الّتي سبقت أو رافقت ميلاده المبارك، ونعتبرها اُموراً سطحية لا تدل على شيء.
فنحن نقرأ في الكتب التاريخية وفي كتب الحديث عن وقوع حوادث عجيبة يوم ولادة النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله) مثل: ارتجاس أيوان كسرى، وسقوط اربع عشرة شرفة منه، وانخماد نار فارس الّتي كانت تُعبد، وجفاف بحيرة ساوة، وتساقط الاصنام المنصوبة في الكعبة على وجوهها، وخروج نور معه (صلى الله عليه وآله) اضاء مساحة واسعة من الجزيرة، والرؤيا المخيفة الّتي رآها انوشيروان ومؤبدوه، وولادة النبيّ (صلى الله عليه وآله) مختوناً مقطوع السُرّة، وهو يقول: «أللّه اكبر، والحمدُ للّه كثيراً، سُبحان اللّه بكرة وأصيلا».
وقد وردت جميع هذه الأمور في المصادر التاريخية الأُولى، والجوامع الحديثية المعتبرة([3]).
ومع ملاحظة ما ورد في حق موسى وعيسى ونقلنا بعضه هنا، لا يبقى أيّ مجال للشك في صحة هذه الحوادث.
نعم ينبغي أن نسأل هنا: ماذا كانت تهدف هذه الحوادث غير العادية؟
وفي الاجابة على هذا السؤال يجب ان نقول:
إن هذه الحوادث الخارقة والعجيبة كانت تهدف إلى أمرين:
الأول: أن تدفع بالجبابرة، والوثنيين وعَبدة الاصنام إلى التفكير فيما هم فيه فيسألوا أنفسهم: لماذا انطفأت نيرانُهم الّتي طالما بقيت مشتعلة تحرسها اعيان السَدنة والكهنة؟
لماذا سبّبت هزةٌ خفيفةٌ في ارتجاس ايوان كسرى العظيم المحكم البنيان، ولم يحدث لبيت عجوز في نفس ذلك البلد شيء؟
لماذا تهاوت الاصنامُ المنصوبة في الكعبة وحولها، وانكبَّت على وجودهها بينما بقيت غيرها من الاشياء على حالها لم يصبها شيء ابداً؟
لو كانوا يفكرون في تلك الحوادث لعرفوا أن تلك الحوادث كانت تبشّر بعصر جديد... عصر انتهاء فترة الوثنية وزوال مظاهر السلطة الشيطانية واندحارها؟
الثاني: ان هذه الحوادث جاءت لتبرهن على شأن الوليد العظيم، وانه ليس وليداً عادياً، فهو كغيره من الانبياء العظام الذين رافقت مواليدهم أمثال تلك الحوادث العجيبة، والوقائع الغريبة، كما يخبر بذلك القرآن الكريم فيما يحدثه عن حياة الانبياء ـ كما عرفت ـ وتخبر بها تواريخ الشعوب والملل المسيحية واليهودية.
واساساً لا يلزم أن تكون تلك الحوادث سبباً للعبرة ووسيلة للاتعاظ يوم وقوعها، بل يكفي أن تقع حادثة في إحدى السنين، ثم يعتبرُ بها الناس بعد أعوام عديدة، وقد كانت حوادثُ الميلاد النبويّ من هذه المقولة، لأن الهدف منها كان هو ايجاد هزة في ضمائر اُولئك الناس الذين كانوا قد غرقوا في اوحال الوثنية، والظلم، والانحراف الاخلاقي حتّى قمة رؤوسهم، وعشعشت الجهالة والغفلة في اعماقهم حتّى النخاع.
إن الذين عاشوا في عصر الرسالة، أو من أتى من بعدهم عندما يسمعون نداء رجل نهض ـ بكل قواه ـ ضدّ الوثنية، والظلم، ثم يطالعون سوابقه، ويلاحظون إلى جانب ذلك ما وقع ليلة ميلاده من الحوادث العظيمة الّتي تتلاءم مع دعوته، فإنهم ولا شك سيعتبرون تقارن هذين النوعين من الحوادث دليلا على صحة دعواه، وصدق مقاله فيصدِّقونه، وينضوون تحت لوائه.
إن وقوع أمثال هذه الحوادث الخوارق عند ميلاد الأنبياء مثل «إبراهيم» و«موسى» و«المسيح» و«محمَّد» صلّى اللّه عليه وآله وعليهم اجمعين لا يقل أهمية عن وقوعها في عصر رسالتهم ونبوتهم، فهي جميعاً تنبع من اللُطف الالهي، وتتحقق لهداية البشرية، وجذبها إلى دعوة سفرائه ورسله.
سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، آية الله الشيخ جعفر السبحاني – بتصرّف يسير
([1]) طه: 37 ـ 40.
([2]) مريم: 16 ـ 33.
([3]) تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 5، بحار الأنوار: ج 15، ص 248 ـ 331، السيرة الحلبية: ج 1، ص 67 ـ 78 وغيرها.