إشارات:
· يطرح القرآن الكريم وجهين من الهداية:
- الهداية التكوينية، نظير هداية النحل وغريزته في إمتصاص رحيق الأزهار، وفي صنع
القرص الشمعي، أو هداية الطيور في هجرتها في رحلتي الصيف والشتاء، ويبيّن القرآن
الكريم هذا النوع من الهداية في قوله تعالى ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾[1].
- الهداية التشريعية، والمتمثّلة في إرسال الرسل والأنبياء والكتب السماوية لهداية
البشر.
· ذكرت كلمة "الصراط"[2] في القرآن الكريم ما يزيد عن أربعين مرة. إن اختيار النهج
الفكري دلالة على شخصية الإنسان ووعيه.
· ثمّة طرق عدّة غير إلهية أمام الإنسان عليه اختيار أحدهما:
- طريق طلباته ورغباته.
- طريق توقّعات الناس وأهوائهم.
- طريق وساوس الشيطان.
- طريق الطواغيت.
- طريق الأجداد والماضين.
- طريق الله وأوليائه.
أما الإنسان المؤمن فيختار طريق الله وأوليائه، لما يتميّز به على الطرق الأخرى،
ومن جملة هذه المزايا:
1- إنّ الطريق الإلهيّ طريق راسخ وثابت، على العكس من طرق الطواغيت وأهواء الناس
والأهواء الشخصية التي تتغيّر في كل يوم.
2- إنّ الصراط المستقيم واحد، والطرق الأخرى متعددة ومتفرقة.
3- إنّ السير في هذا الطريق يوصل الإنسان إلى هدفه المنشود.
4- لا خسران أو فشل في هذا الطريق.
· فالصراط المستقيم، هو طريق الله ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾[3].
· الصراط المستقيم طريق الأنبياء، ﴿إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ﴾[4].
· الصراط المستقيم، طريق العبودية لله، ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[5]
· الصراط المستقيم، طريق التوكل على الله، ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ
إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾[6].
· الصراط المستقيم، طريق التوحيد والإستعانة بالله وحده[7].
· الصراط المستقيم هو كتاب الله[8].
· الصراط المستقيم، طريق الفطرة السليمة[9].
- ينبغي للإنسان أن يستعين بالله، في إختياره الصراط المستقيم وفي الثبات عليه، مثل
المصباح الكهربائي فإن إنارته تتطلب تزويده في كل لحظة بطاقة كهربائية من المولّد،
﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾.
- كل مسلم يدعو الله في كل صلاة أن يهديه الصراط المستقيم، حتى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام يدعون الله أن يثبّت خطاهم على الصراط
ذاك.
- يجب على الإنسان أن يدعو الله ليهديه إلى الصراط المستقيم في أي أمرٍ كان، سواء
في اختيار العمل، أو الصديق، أو الفرع الدراسي أو الزوجة...، إذ، ربّما كانت
معتقدات الإنسان سليمة لا غبار عليها، لكنه عند التطبيق يتعرّض لمزالق أو منحدرات،
أو العكس. إذن، فطلب الصراط المستقيم من الله في كل لحظة أمر ضروري.
- للصراط مراتب ومراحل، لذلك حتى أولئك الذين يسيرون في طريق الحقّ، مثل أولياء
الله، ينبغي لهم أن يدعوا الله أن يثبّتهم على طريق الحقّ، وأنيزيدهم من نور
الهداية، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى﴾[10].
- الصراط المستقيم هو الطريق الوسطى التى أوصى بها الإمام علي عليه السلام في قوله:
"اليمين والشمال مضلّة والطريق الوسطى هي الجادّة"[11].
- الصراط المستقيم هو الإعتدال والوسطية والإحتراز من أي إفراط أو تفريط، إن في
العقيدة أو في العمل. فهذا يخرج عن الجادة بتطرّفه عقائدياً، وذاك في العمل
والأخلاق، وهذا ينسب جميع الأعمال إلى الله، لدرجة أنّه يسلب الإنسان كلّ دور
واختيار في تقرير مصيره، وآخر يرى نفسه الفعّال لما يشاء، من دون أي رقابة أو حساب
من الله، واحد يعتقد بأن رسل السماء كالناس العاديين وأحياناً سحرة أو مجانين،
والثاني يرفعهم إلى منزلة الله. هذا يرى أن زيارة الأئمة والمعصومين والشهداء بدعة،
والآخر يُفرط في تقديس وإحترام كلّ حجر وشجر، ويتّخذها قبلة يتوسّل بها، وهذا يرى
أن الإقتصاد هو القاعدة والأساس، والثاني يزهد في شؤون الدنيا ويطوي عنها كشحاً،
بعضهم يُبدي غيرة مفرطة في حياته، والآخر يطلق العنان لزوجته لتسرح وتمرح في
الأسواق والطرقات سافرة دونما رقيب أو حجاب يسترها، هذا يفرط في البخل، والثاني
يبسط يده كلّ البسط فيسرف ويبذّر بلا حساب، هذا يعتزل الخلائق، وذاك يفرّط في الحقّ
من أجل الخلق... إلخ.
هذه السلوكيات والأعمال إنحراف عن صراط الهداية المستقيم. لقد جعل الله دينه القويم
هو الصّراط المستقيم[12]، إذ ورد عن الأئمة المعصومين عليهم السلام في الروايات:
"نحن الصراط المستقيم"[13]، بمعنى، أنّهم التجسيد العملي والموضوعي للصراط
المستقيم، والأسوة الكاملة للسير في طريق رُسُل السماء، لقد أوصى أولئك العظام
شيعتهم بالإعتدال والوسطية في جميع شؤون الحياة، في العمل، والترفيه، والدرس،
والمأكل، والإنتقاد والغضب والصلح وحب الأبناء... إلخ[14]. والمثير للعجب أن إبليس
يكمن لنا في هذا الصراط المستقيم[15].
-لقد وردت في القرآن والروايات أمثلة عدة على توخّي جانب الإعتدال، وتنهى عن
الإفراط والتفريط، لنتأمل هذه الأمثلة:
* ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ﴾[16].
* ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ
الْبَسْطِ﴾[17]
* ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ
ذَلِكَ قَوَامً﴾[18]
*﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيل﴾[19]
* كن براً بوالديك، ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَان﴾[20]، ولكن إذا أرادا حرفك عن
سبيل الله، فلا تطعهما، ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَ﴾[21].
* النبي يحمل رسالة عامة، ﴿وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّ﴾[22]، وفي ذات الوقت، يدعو
أسرته، ﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ﴾[23].
* لقد أمر الإسلام بالصلاة وهي المرقى الذي يصل العبد بالخالق، ﴿وَأَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ﴾، وأوصى أيضاً بأداء الزكاة، وهي جسر بين العبد والناس، ﴿وَآتُواْ
الزَّكَاةَ﴾[24].
* لا نتأثر بالمحبّة فنزيغ عن شهادة الحق، ﴿شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنفُسِكُمْ﴾[25] ولا نَقعدْ للعداوات فننحرف عن جادة العدل والصواب، ﴿وَلاَ
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾[26].
* للمؤمن طرد، ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ﴾ وجذب ﴿رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾[27].
* فهو يحتاج للإيمان القلبي، ﴿آمَنُو﴾ ليعضده بالعمل الصالح ﴿وَعَمِلُواْ
الصَّالِحَاتِ﴾[28].
* يحتاج إلى الدموع والدعاء وطلب النصرة من الله، ﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرً﴾[29]، ويحتاج إلى المصابرة والثبات في الشدائد، ﴿عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ﴾[30]. كان الإمام الحسين عليه السلام يذرف الدموع ويبتهل
إلى الله في جوف الليل، وفي الوقت نفسه، كان يحدّ سيفه لمحاربة الأعداء.
* في يوم عرفة غداة عيد الأضحى يبتهل الحاج إلى الله تعالى، وفي صبيحة العيد يشهد
ذبح الأضحية.
* يبيح الإسلام الملكية الخاصة: "الناس مسلطون على أموالهم"[31] لكنه يمنع الإضرار
بالآخرين، ويحدّ منه: "لا ضرر ولا ضرار"[32].
ليس الإسلام ديناً أحادياً ليهتمّ بجانب ويترك جوانب أخر، بل ديدنه الاعتدال في كل
أمر، والحثّ على الوسطية والصّراط المستقيم.
التعاليم:
1- كل الوجود يتحرّك في طريق مشيئة الله وإرادته. أللهمّ! اهدنا إلى ما تحبّ
وترضى، ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾.
2- طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، أهمّ مطلب للموحدين، ﴿إِيَّاكَ
نَعْبُدُ...﴾﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾.
3- من أجل السير على الصراط المستقيم، يجب أن ندعو بدعوة، ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ
المُستَقِيمَ﴾.
4- نبدأ بالحمد، ثم بالإستعانة فالدعاء، ﴿الْحَمْدُ للّهِ... اهدِنَ﴾.
5- أفضل أنواع الإستعانة بالله، طلب الهداية إلى الصراط المستقيم، ﴿وإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ ... اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾.
الشيخ محسن قراءتي - بتصرّف
[1] - سورة طه الآية 50.
[2] - "الصراط" جسر في يوم القيامة على جهنّم، يعبر جميع الناس عليه.
[3] - سورة هود الآية 56.
[4] - سورة يس الآيتان 3-4.
[5] - سورة يس الآية 61.
[6] - سورة آل عمران الآية 101.
[7] - نظراً إلى أن الألف واللام في {الصِّرَاطَ} تشير إلى طريق التوحيد نفسه في
الآية السابقة.
[8] - طبقاً لرواية في تفسير مجمع البيان ج 1، ص 58.
[9] - طبقاً لرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير الصافي، ج 1، ص 86.
[10] - قائل عبارة { الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
*} ... طوى مراحل من الهداية لذلك فإن طلبه هو لمراحل هداية أرقى.
[11] - بحار الأنوار ، ج87، ص 3.
[12] - { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} سورة الأنعام
الآية 161.
[13] - تفسير نور الثقلين، ج 1، ص 20.
[14] - انظر: أصول الكافي، باب الإقتصاد في العبادات.
[15] - لقد أقسم الشيطان لله بقوله: { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ
الْمُسْتَقِيمَ}، سورة الأعراف الآية 16.
[16] سورة الأعراف الآية 31.
[17] - سورة الأعراف الآية 16.
[18] - سورة الفرقان الآية 67.
[19] - سورة الإسراء الآية 110.
[20] - سورة البقرة الآية 83.
[21] - سورة لقمان الآية 15.
[22] - سورة مريم الآية 51.
[23] - سورة مريم الآية 55.
[24] - سورة البقرة الآية 43.
[25] - سورة النساء الآية 135.
[26] - سورة المائدة الآية 8.
[27] - سورة الفتح الآية 29.
[28] - سورة البقرة الآية 25.
[29] - سورة البقرة الآية 250.
[30] - سورة الأنفال الآية 65.
[31] - بحار الأنوار، ج 2، ص 272.
[32] - الكافي، ج 5 ،ص 28.