يتم التحميل...

تعامل عبيد الدنيا المتظاهرين بالإسلام مع القرآن

الفصل الثالث

إنّ الذين ليسوا أقوياء من حيث الإيمان بالله ولوازمه، ولم يترسّخ الإيمان في قلوبهم وأرواحهم كما يجب وينبغي، لا يستبشرون إزاء الدين والقيم الدينية

عدد الزوار: 195

إنّ الذين ليسوا أقوياء من حيث الإيمان بالله ولوازمه، ولم يترسّخ الإيمان في قلوبهم وأرواحهم كما يجب وينبغي، لا يستبشرون إزاء الدين والقيم الدينية لدى حصول تعارض بين رغباتهم النفسية وإرادة الله والقيم الدينية، ويميلون من الناحية النفسية لأن يفسّروا ويوجّهوا الأحكام والقيم الدينية بما يلائم ميولهم وباتجاه أهوائهم النفسية، وسيكون مفرحاً بالنسبة لهذه الفئة إذا ما غدا تفسير الدين والقرآن مباحاً بما يتناسب مع أهوائهم النفسية، لأنّهم بذلك يكونون قد حقّقوا مطامحهم النفسية من جهة، ولم يخرجوا حسب الظاهر من ربقة الإسلام، ويتمتعون بامتيازات الإسلام داخل المجتمع الإسلامي من جهة أخرى.

من الطبيعي أيضاً أن يُقبل الذين لم يترسّخ الإيمان والتقوى في قلوبهم وأرواحهم، وليسوا من الملتزمين كثيراً بالقيم الدينية والأحكام الإلهية على مثل هذه الاستنباطات للدين والقرآن، وأن يحتذوا بالذين يفسّرون ويوجّهون الدين والقرآن والقيم الدينية طبقاً لميولهم النفسية، ويتخذوهم قدوةً لهم ويُطرون عليهم ويمدحونهم، ومن الطبيعي أيضاً أن لا تربط هؤلاء الناس علاقة حسنة مع تلك الطائفة من علماء الدين، الذين يفسّرون القرآن والأحكام ويبينوها كما هي عليه، دون الأخذ بنظر الاعتبار رضا الناس وأذواقهم.

ومع شديد الأسف أنّنا نشهد اليوم أناساً يعملون وتحت طائلة القراءات المتعددة للنصوص الدينية، لإضفاء صبغة دينية على مطامحهم وأهوائهم النفسية، ويتلاعبون بدين الله وبالقرآن الكريم، لغرض بلوغ مآربهم الدنيوية.

إلى جانب توقعه للوضع المذكور يشكو علي عليه السلام غربة القرآن في زمانه وفي آخر الزمان فيقول: "إِلَى اللَّهِ أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالاً، وَيَمُوتُونَ ضُلاّلاً، لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاوَتِهِ، وَلا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَلا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلا عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَلا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَرِ"1.

ويقول عليه السلام حول موقع القرآن ومعارف الدين بين أهل آخر الزمان: وإنّه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته، ولا أنفق منه إذا حرّف عن مواضعه، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر "فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ، فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ، لا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ، فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُمْ، لأَنَّ الضَّلالَةَ لا تُوَافِقُ الْهُدَى وَإِنِ اجْتَمَعَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ وَافْتَرَقُوا عَلَى الْجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ"2.

حريّ جداً وضروري أن يضع مجتمعنا وشعبنا في الحسبان نبوءات القرآن ونهج البلاغة هذه، حول الأجيال القادمة والأوضاع والوقائع الدينية، ويستقرؤوا الوضع الثقافي السائد في مجتمعهم ويعرضوه على هذه التنبؤات، ليشعروا بالخطر إذا ما وجدوا الوضع الديني للمجتمع لا يسير بالاتجاه المنشود ـ لا سمح الله ـ وينبروا لإصلاح الثقافة الدينية في المجتمع، على أبناء كل عصر أن يتبعوا الولي الفقيه وعلماء الدين وأعلامه، ويعملوا على الحفاظ وصيانة ثغور العقيدة وقيمهم الدينية، ويتخذوا القرآن أسوةً لهم، ليأمنوا فتن آخر الزمان، ويكونوا على حيطة وحذر، لئلا يصبحوا مصداقاً لهذه التنبؤات.

على أية حال، إنّ أمير المؤمنين يتنبأ فيقول: سيأتي من بعدي زمان ليس فيه أخفى من الحق، ولا أشهر من الباطل، وأكثر الأمور في ذلك الزمان هو الكذب والافتراء على الله ورسوله، يتشبث به الجهلاء بالعلم والمنافقون عبيد الدنيا، لبلوغ مآربهم.

تحذير علي عليه السلام للناس

ما يحظى بأهمية أكثر من هذه الخطبة ويعتبر تحذيراً جدياً للناس هو، ما يصوّر ويرسم الوضع الروحي والثقافة العامة للناس في المستقبل، وما خضع للبحث والنقاش في هذا الكتاب من آيات القرآن ومن كلام علي عليه السلام رغم أنّه خطاب موجّه للناس، لكن الحديث في الكثير منه موجّه إلى خواص المجتمع، والذين لهم التأثير على ثقافة المجتمع، في هذه الخطبة يتنبّأ عليه السلام بكل وضوح بالوضع الروحي وبالثقافة الدينية للناس في المستقبل، ويحذّرهم من الابتلاء بمثل هذه الثقافة أو الغفلة إزاءها، وبعد بيانه عليه السلام للروح الحاكمة على بعض خواص المجتمع من أنّهم ولغرض بلوغ مآربهم وأهدافهم الدنيوية، ينسبون إلى الله ورسوله أنكى الافتراءات والأكاذيب، ويفسّرون القرآن والدين بآرائهم، ويجرفون الناس نحو الضلال، يتنبّأ عليه السلام بالثقافة السائدة على عامة الناس كما يلي: إنّ حال أهل ذلك الزمان هو، إذا ما فُسّر كتاب الله وتلي حق تلاوته فهو أنجس شيء لديهم، وهو أكثر شيء رواجاً وازدهاراً عندهم إذا ما فُسّر طبقاً لأهوائهم النفسية، والقيم الدينية والإلهية هي أنكر الأشياء في نظر الناس في ذلك الزمان، أمّا القيم المناهضة للدين فهي تُعتبر من أحب الأمور.

لا يخفى على الواعين أنّ أعداء القرآن والقوى المستكبرة تعمل اليوم على تحكيم مثل هذه الثقافة على مجتمعنا، ففي إطار مؤامرة الغزو الثقافي يحاولون من خلال الهجوم على المقدسات الدينية، وترويج القيم المناهضة للدين، لأن يُحكموا على مجتمعنا ذلك الوضع، الذي تنبّأ به أمير المؤمنين عليه السلام، وحذّر الناس من الوقوع به.

ويستطرد عليه السلام قائلاً: لا ترى في ذلك الزمان من العارفين بكلام الله، ومن حَفَظة القرآن، الذين واجبهم الحفاظ على القيم الدينية، سوى التناسي والتقاعس في أداء الواجب، ورغم أنّ القرآن وأتباعه الصادقين وعلماء الدين في ذلك الزمان هم بين الناس، لكنّهم في الحقيقة بمعزلٍ عنهم، والناس بمنأىً عنهم أيضاً، لأنّ الناس يُقصونهم ولم يتّبعوهم، فرغم أنّهم يعيشون مع الناس لكن قلوب الناس ليست معهم، لأنّ الطريق الذي يختاره الناس هو الضلال، الذي لا يجتمع مع طريق القرآن الذي هو طريق الهداية.

في النهاية يقول عليه السلام: فاجتمع الناس على الفرقة، وافترقوا عن الجماعة، كأنّهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم، فأهل ذلك الزمان يجتمعون على الفرقة والاختلاف، وكأنّهم يتفقون على أن لا يتآلفوا مع القرآن ومفسريه الحقيقيين، ويتبعون الجهلاء المتظاهرين بالعلم، وفي نفس الوقت الذي يجعلون من أنفسهم أئمة للكتاب، ويفسّرون القرآن ويوجّهونه طبقاً لأهوائهم النفسية، ينأون بأنفسهم عن المسلمين الحقيقيين، وعلماء الدين، والمفسرين الصادقين للقرآن، ويبتعدون عنهم، ويتقدمون على القرآن بدلاً من أن يتخذوه إماماً ودليلاً وقائداً لهم في الفكر والعمل، ويتمردون على إمامته وقيادته، ويفسّرون القرآن والدين حسب آرائهم لقد حشّد أعداء الدين والقرآن اليوم كافة جهودهم، لإفراغ الشعب المسلم من هويتها الدينية، وهم يحاولون سلب استقلاله وحريته وهويته من خلال إضعاف عقائده الدينية، وفي ضوء أهمية الأوضاع وحساسيتها من الجدير جداً أن يشعر الشعب المسلم لاسيما علماء الدين بالخطر، ويكونوا واعين وأن لا يروا أنفسهم في مأمنٍ من خطر أعداء الإسلام والقرآن.

في هذه الأثناء، وكما تقدمت الإشارة أنّ الأمر المهم هو، أنّ أعداء الإسلام والكفر العالمي ولغرض بلوغ أهدافه الاستكبارية، لا يظهر عداءه بشكل سافر للإسلام والأمّة الإسلامية، في مواجهة الثقافة الدينية للناس وفي إطار الغزو الثقافي، وذلك على العكس من الهجوم العسكري، فهم وفي إطار هذا الهجوم غالباً ما يستغلون أناساً مسلمين حسب الظاهر، ويعيشون وسط المجتمع الإسلامي، وهم من ناحية يتمتعون بمكانات اجتماعيات وثقافية، ومن ناحية أخرى يمتلكون معلومات ـ وان كانت ضئيلة ـ في مجال العلوم الدينية فيصبحون عن علم أو جهل أداةً بيد الأجنبي، فيمهّدون أسباب انحراف الأُمّة من خلال تحريفهم للمعارف الدينية، وهؤلاء الناس كانوا عرضةً للذم والتوبيخ في الكثير من آيات القرآن الكريم، وأحاديث الأئمة المعصومين عليهم السلام، وجرى حثّ الناس على أن يحذروا الاستماع لكلامهم، لأنّه يؤدي إلى الضلال، وعدم بلوغ السعادة في الدنيا والآخرة.


* تجلي القرآن في نهج البلاغة - مؤلف: آية الله محمد تقي مصباح اليزدي


1- نهج البلاغة: الخطبة 17.
2- نفس المصدر: الخطبة 147.

2016-06-22