كلام في الجاهلية الأولى
البعثة النبوية
القرآن يسمي عهد العرب المتصل بظهور الإسلام بالجاهلية، وليس إلا إشارة منه إلى أن الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم، والمسيطر عليهم في كل شيء الباطل وسفر الرأي دون الحق،
عدد الزوار: 435
القرآن يسمي عهد العرب المتصل بظهور الإسلام بالجاهلية، وليس إلا إشارة منه إلى أن
الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم، والمسيطر عليهم في كل شيء الباطل وسفر الرأي
دون الحق، وكذلك كانوا على ما يقصه القرآن من شئونهم، قال تعالى: يظنون بالله غير
الحق ظن الجاهلية: آل عمران 154، وقال: أ فحكم الجاهلية يبغون: - المائدة 50، وقال:
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية: - الفتح 26، وقال: "و لا تبرجن
تبرج الجاهلية الأولى: - الأحزاب 33.
كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة وهي نصرانية، وفي مغربها إمبراطورية الروم
وهي نصرانية، وفي شمالها الفرس وهم مجوس، وفي غير ذلك الهند ومصر وهما وثنيتان وفي
أرضهم طوائف من اليهود، وهم أعني العرب مع ذلك وثنيون يعيش أغلبهم عيشة القبائل،
وهذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية
والنصرانية والمجوسية وهم سكارى جهالتهم، قال تعالى: وإن تطع أكثر من في الأرض
يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون: - الأنعام 116.
وقد كانت العشائر وهم البدو على ما لهم من خساسة العيش ودناءته يعيشون بالغزوات وشن
الغارات واختطاف كل ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم ولا أمانة، ولا
سلم ولا سلامة، والأمر إلى من غلب والملك لمن وضع عليه يده.
أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء والحمية الجاهلية والكبر والغرور واتباع
الظالمين وهضم حقوق المظلومين والتعادي والتنافس والقمار وشرب الخمر والزنا وأكل
الميتة والدم وحشف التمر.
وأما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الإنساني لا يملكن من أنفسهن إرادة
ولا من أعمالهن عملا ولا يملكن ميراثا ويتزوج بهن الرجال من غير تحديد بحد كما عند
اليهود وبعض الوثنية ومع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة ويدعون من أحببن إلى أنفسهن
وفشا فيهن الزنا والسفاح حتى في المحصنات المزوجات منهن، ومن عجيب بروزهن أنهن ربما
كن يأتين بالحج عاريات.
وأما الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا ويذهب الكبار
بالميراث ومن الميراث زوجة المتوفى، ويحرم الصغار ذكورا وإناثا والنساء.
غير أن المتوفى لو ترك صغيرا ورثه لكن الأقوياء يتولون أمر اليتيم ويأكلون ماله،
ولو كان اليتيم بنتا تزوجوها وأكلوا مالها ثم طلقوها وخلوا سبيلها فلا مال تقتات به
ولا راغب في نكاحها ينفق عليها والابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها
بينهم لمكان دوام الحروب والغزوات والغارات فبالطبع كان القتل شائعا بينهم.
وكان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة وأراضيهم القفر البائرة كان يسرع الجدب
والقحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق "الأنعام آية 151"، وكانوا يئدون
البنات "التكوير آية 8"، وكان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشر بالأنثى "الزخرف
آية 17".
وأما وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة وإن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت حماية
أقوى الجيران وأقربها كإيران لنواحي الشمال والروم لنواحي الغرب والحبشة لنواحي
الجنوب إلا أن قرى الأوساط كمكة ويثرب والطائف وغيرها كانت تعيش في وضع أشبه
بالجمهورية وليس بها، والعشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة
رؤسائها وشيوخها وربما تبدل الوضع بالسلطنة.
فهذا هو الهرج العجيب الذي كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون، ويظهر في كل ناحية
من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة والاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم،
وأضف إلى ذلك بلاء الأمية وفقدان التعليم والتعلم في بلادهم فضلا عن العشائر
والقبائل.
وجميع ما ذكرناه من أحوالهم وأعمالهم والعادات والرسوم الدائرة بينهم مما يستفاد من
سياق الآيات القرآنية والخطابات التي تخاطبهم بها أوضح استفادة، فتدبر في المقاصد
التي ترومها الآيات والبيانات التي تلقيها إليهم بمكة أولا ثم بعد ظهور الإسلام
وقوته بالمدينة ثانيا، وفي الأوصاف التي تصفهم بها، والأمور التي تذمها منهم
وتلومهم عليها، والنواهي المتوجهة إليهم في شدتها وضعفها، إذا تأملت كل ذلك تجد صحة
ما تلوناه عليك.
على أن التاريخ يذكر جميع ذلك ويتعرض من تفاصيلها ما لم نذكره لإجمال الآيات
الكريمة وإيجازها القول فيه.
وأوجز كلمة وأوفاها لإفادة جمل هذه المعاني ما سمى القرآن هذا العهد بعهد الجاهلية
فقد أجمل في معناها جميع هذه التفاصيل.
هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.
وأما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم والفرس والحبشة والهند وغيرهم فالقرآن
يجمل القول فيه.
أما أهل الكتاب منهم أعني اليهود والنصارى ومن يلحق بهم فقد كانت مجتمعاتهم تدار
بالأهواء الاستبدادية والتحكمات الفردية من الملوك والرؤساء والحكام والعمال فكانت
مقتسمة طبعا إلى طبقتين طبقة حاكمة فعالة لما تشاء تعبث بالنفس والعرض والمال،
وطبقة محكومة مستعبدة مستذلة لا أمن لها في مال وعرض ونفس، ولا حرية إرادة إلا ما
وافق من يفوقها، وقد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين وحملة الشرع وأتلفت
بهم، وأخذت مجامع قلوب العامة وأفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين
الناس ودنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء وأقلامهم وفي دنياهم
بالسوط والسيف.
وقد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضا على حسب قوتها في السطوة والجدة فيما بينهم نظير
الاقتسام الأول والناس على دين ملوكهم إلى طبقتي الأغنياء المترفين والضعفاء
والعجزة والعبيد، وكذا إلى رب البيت ومربوبيه من النساء والأولاد، وكذا إلى الرجال
المالكين لحرية الإرادة والعمل في جميع شئون الحياة والنساء المحرومات من جميع ذلك
التابعات للرجال محضا الخادمات لهم في ما أرادوه منهن من غير استقلال ولو يسيرا.
وجوامع هذه الحقائق التاريخية ظاهرة من قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى
كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا
أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون: "آل عمران: 64" وقد
أدرجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه إلى هرقل عظيم الروم، وقد قيل إنه
كتب بها أيضا إلى عظيم مصر وعظيم الحبشة وملك الفرس وإلى نجران.
وكذا قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: "الحجرات: 13"، وقوله في ما وصى به التزوج
بالإماء والفتيات: بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن: "النساء: 25، وقوله في
النساء: إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض: "آل عمران: 195"،
إلى غير ذلك من الآيات.
وأما غير أهل الكتاب وهم يومئذ الوثنية ومن يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم أردأ وأشأم
من وضع أهل الكتاب، والآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن خيبة سعيهم وخسران
صفقتهم في جميع شئون الحياة وضروب السعادة، قال تعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد
الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا
رحمة للعالمين قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل
آذنتكم على سواء: "الأنبياء: 109"، وقال تعالى: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به
ومن بلغ: "الأنعام: 19".
* تفسير الميزان / العلامة الطباطبائي_4_ كلام في الجاهلية.
2016-05-04