يتم التحميل...

إحضار الإمام الباقر عليه السلام إلى الشّام

الإمام الباقر عليه السلام في كلام الولي

من الحوادث المهمّة في أواخر حياة الإمام وأكثرها شهرةً حادثة إحضاره إلى الشّام، الّتي كانت عاصمة الحكم الأمويّ. فلأجل معرفة موقف الإمام تجاه جهاز الخلافة،

عدد الزوار: 217

من الحوادث المهمّة في أواخر حياة الإمام وأكثرها شهرةً حادثة إحضاره إلى الشّام، الّتي كانت عاصمة الحكم الأمويّ. فلأجل معرفة موقف الإمام تجاه جهاز الخلافة، أمر الخليفة الأمويّ باعتقال الإمام الباقر - وطبق بعض الرّوايات، مع ابنه الإمام الصادق أيضًا، الّذي كان شابًّا مساعدًا وملازمًا لأبيه - ونقلهما إلى الشّام. فأُحضر الإمام إلى قصر الخليفة في الشّام. وقد أملى هشام قبل ذلك على حضّار مجلسه وحاشيته ليقوموا بالإجراءات اللازمة عند لقائهم بالإمام وجهًا لوجه. فكان من المقرّر أن يبدأ الخليفة نفسه، ومن بعدها حضّار المجلس - الّذين كانوا جميعًا من الرّجال والزّعماء - وينهالون عليه بالطّعن والشماتة. وقد أراد بهذا العمل تحقيق هدفين:

الأوّل: أن يُضْعِف بهذه التصرّفات الشديدة والمسيئة معنويّات الإمام، وليُهيئ بذلك الأرضيّة للقيام بأيّ عملٍ يراه لازمًا. والآخر أن يُدين الخصم في لقاءٍ بين أعلى قيادات الجبهتين المتعاديتين، فينتزع بهذه الوسيلة سلاح جميع أفراد جبهته من خلال نشر خبر هذه الإدانة، والّتي ستحصل بفضل الأبواق الجاهزة دومًا لخدمة الخليفة كالخطباء والعمّال والجواسيس.

يدخل الإمام، وبخلاف الرّسوم والعادات المتعارفة الّتي تقتضي أنّ كلّ من يدخل إلى المجلس يجب أن يُسلّم على الخليفة بذلك اللقب المخصوص بأمير المؤمنين، فإنّه يتوجّه إلى جميع الحاضرين، ويُخاطبهم مشيرًا بيده، وقائلًا: السلام عليكم. ويجلس دون انتظار الإذن بذلك. وبهذا التصرّف يُشعل نيران الحقد والحسد في قلب هشام، ويبدأ برنامجه. "أنتم يا أبناء عليّ، كنتم دومًا تشقّون عصا المسلمين، وبدعوتهم إلى أنفسكم كنتم تنشرون بينهم الشّقاق والنّفاق، وتدّعون الإمامة لأنفسكم بجهلكم وسفاهتكم". يتفوّه بأمثال هذه الترّهات ويسكت. ثمّ بعد ذلك، كلّ واحد من عبيده وأصحاب معلفه، ينهضون ويتفوّهون بمثل هذه الكلمات، ويتوجّهون بألسنتهم للطّعن بالإمام عليه السلام وتوبيخه.

أمّا الإمام عليه السلام، فقد كان يجلس طيلة هذا الوقت ساكتاً وهادئاً. وعندما يسكت الجميع، ينهض الإمام ويقف ويتوجّه إلى الحاضرين، وبعد الحمد والثناء على الله تعالى والسلام على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، يردّ بكلماته المختصرة والمزلزلة كيد أولئك إلى نحورهم، وكأنّه يوجّه لهم بهذه الكلمات صفعةً قاضية، ويُبيّن موقعه وأصول عائلته المفتخرة، الّتي تنطبق مع أعلى المعايير الإسلاميّة - وهي الهداية - وفي النهاية يُبيّن عاقبة طريقهم بحسب السّنن الإلهيّة التاريخيّة ويُزلزل لهم معنويّاتهم أكثر ممّا كانت متزلزلة: "أيّها النّاس! أين تذهبون؟ وأين يُراد بكم؟ بنا هدى الله أوّلكم، وبنا يختم آخركم، فإن يكن لكم ملك معجّل، فإنّ لنا ملكاً مؤجّلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنّا أهل العاقبة، يقول الله عزّ وجلّ: والعاقبة للمتقّين18"19.

في هذا البيان المختصر والمليء بالمعنى ــ الّذي تضمّن التظلّم والبشارة والتهديد والإثبات والردّ ــ تحقّق التأثير والجاذبيّة إلى درجة أنّه لو أذيع ووصل إلى أسماع النّاس لكان من الممكن أن يجعل كلّ من يسمعه معتقدًا بحقّانية قائله. ولأجل الردّ على هذا الكلام، كان المطلوب وجود خطيبٍ متفوّه مقنعٍ ومنطقيّ، إلّا أنّ هذا لم يكن حال أيٍّ من مخاطَبي الإمام، ولهذا لم يعد أمامهم سوى استخدام العنف والقهر.

فيأمر هشام بإلقاء الإمام في السّجن، وهو بذلك يكون عمليًّا قد اعترف بضعف معنويّاته وعجز منطقه. وفي السّجن، يقوم الإمام ببيان الحقائق، ليؤثّر بالسّجناء الذين معه، بحيث أنّه لا يبقى أيّ واحدٍ منهم لا يعتقد من أعماق قلبه، بما قاله. فينقل مأمورو السّجن مجريات الأحداث إلى هشام. وقد كان هذا الموضوع بالنّسبة للجهاز الحاكم، الذي كان قد مضى عليه عشرات السّنين بعيدًا عن الخطاب العلويّ، لا سيّما في الشّام، غير قابلٍ للتحمّل على الإطلاق. فيأمر هشام بإخراج الإمام عليه السلام ومن معه من السّجن، ولم يكن هناك من مكانٍ أنسب لهم من المدينة المنوّرة، تلك المدينة الّتي كانوا يعيشون فيها، وبالطّبع، مع وضعهم تحت المراقبة وكلّ أنواع التشدّد المستمرّ وأكثر. وعند الضّرورة، إنزال الضّربة الأخيرة وإبادة الخصم من دون ضجيج في بيته، والتنصّل من وبال تهمة قتل الإمام عليه السلام ووضعه في رقبته. لهذا، وُضعوا بأمرٍ من هشام على مراكب سريعة - كان عليها أن تقطع كلّ الطريق من دون توقّف - ويحملونهم إلى المدينة. وكانوا قبل ذلك قد منعوا أيّ إنسان في كلّ المدن الّتي تقع على الطريق من أن يتعامل مع هذه القافلة المغضوب عليها، أو أن يبيعهم الماء والخبز20. وبقوا على هذا الحال طيلة الطّريق، ثلاثة أيّامٍ بلياليها، فنفذ ما كان لديهم من خبزٍ وماء.

ووصلوا "مدين". وأغلق أهل المدينة بحسب ما لديهم من أوامر، بوابات مدينتهم، وامتنعوا عن بيع المتاع. اشتدّ على أتباع الإمام عليه السلام الجوع والعطش، فصعد الإمام عليه السلام على مرتفع يطلّ على المدينة ونادى بأعلى صوته: "يا أهل المدينة الظّالم أهلها، أنا بقيّة الله. يقول الله: ﴿بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾21.

يقول الراوي: وكان بين أهل المدينة شيخٌ كبير، فأتاهم فقال: "يا قوم هذه والله دعوة شعيب عليه السلام. والله لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذنّ من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصّدقوني وأطيعوني.. فإنّي لكم ناصح. استجاب أهل المدينة لدعوة الشيخ فبادروا وأخرجوا إلى أبي جعفر وأصحابه الأسواق"22.

والقسم الأخير من هذه الرواية التاريخيّة - والّذي يمكنه أن يكون من جهاتٍ عدّة عرضًا للوضع السياسيّ والقمع وكذلك الاستخفاف الشامل بجميع الأذهان في ذلك الزمان، وأن يكون من جانبٍ توضيحًا لموقف الإمام الباقر عليه السلام الخاصّ من جهاز حكم بني أميّة - على هذا النّحو: عندما وصل خبر المدينة إلى هشام أمر قبل أيّ شيء بمعاقبة ذلك الرّجل المتمرّد على خيانته لأنّه تجرّأ على الإعراب عن مخالفته لخطّة زعماء نظام الخلافة وجنّب النّاس غفلةً كبرى. وقد أُخذ هذا الرّجل وقُتل بأمرٍ من الخليفة.

ومع كلّ ذلك، يتجنّب الإمام أيّ مواجهة حادّة ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم. فلا يعمد إلى سيف، ولا يسمح للأيدي المتسرّعة أن تمتدّ إلى السلاح وتشهره، ويحملها على المزيد من حدّة النّظر ومعرفة الموقف المناسب ويمتنع عن شهر سيف اللسان كذلك، ما لم يتطلّب عمله التغييريّ الأساس الجذريّ ذلك. كما أنّه لا يُرخّص لأخيه زيد، الّذي بلغ به الغضب مبلغه وثارت عواطفه أيّما ثورة، أن يخرج (يثور)، بل أن يُركّز نشاطه العام على التّوجيه الثّقافيّ والفكريّ. وهو بناء أساس أيديولوجيّ في إطار مراعاة التقية السّياسيّة.

ولكن هذا الأسلوب لم يكن يمنع الإمام عليه السلام، كما أشرنا، من توضيح "حركة الإمامة" لأتباعه الخلّص، وإذكاء أمل الشّيعة الكبير، وهو إقامة النّظام السياسيّ بمعناه العلويّ الصّحيح في قلوب هؤلاء، بل يعمد أحيانًا إلى إثارة عواطفهم بالقدر المطلوب على هذا الطّريق.

التّلويح بمستقبلٍ مشرق هو أحد السبل الّتي مارسها الإمام الباقر عليه السلام مع أتباعه. وهو يشير أيضًا إلى تقويم الإمام عليه السلام للمرحلة الّتي يعيشها من الحركة. يقول الحكم بن عيينة: بينما أنا مع أبي جعفر عليه السلام والبيت غاص بأهله إذ أقبل شيخٌ يتوكّأ على عنزة (عكازة) له، حتّى وقف على باب البيت، فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته. ثمّ سكت، فقال أبو جعفر: "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته". ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت عليهم السلام وقال: السلام عليكم، ثمّ سكت حتّى أجابه القوم جميعًا، وردّوا عليه السلام. ثم أقبل بوجهه على الإمام عليه السلام وقال: يا ابن رسول الله ادنني منك جعلني الله فداك. فوالله إنّي لأحبّكم وأحبّ من يُحبّكم، ووالله ما أُحبّكم وأُحبّ من يُحبّكم لطمعٍ في دنيا، وإنّي لأُبغض عدوّكم وأبرأ منه، ووالله ما أُبغضه وأبرأ منه لوترٍ كان بيني وبينه. والله إنّي لأُحلّ حلالكم وأُحرّم حرامكم، وأنتظر أمركم، فهل ترجو لي، جعلني الله فداك؟ فقال الإمام عليه السلام : "إليّ إليّ" حتّى أقعده إلى جنبه، ثم قال: "أيها الشيخ! إنّ أبي عليّ بن الحسين عليه السلام، أتاه رجل فسأله عن مثل الّذي سألتني عنه فقال له أبي عليه السلام : إن تمُت وأنت في هذا الحال من الانتظار، ترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عليّ والحسن والحسين وعلى عليّ بن الحسين، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقرّ عينك، وتستقبل بالروح والرّيحان مع الكرام الكاتبين... وإن تعش ترى ما يقرّ الله به عينك، وتكون معنا في السنام الأعلى". قال الشيخ وهو مندهش من عظمة البشرى: كيف يا أبا جعفر؟ فأعاد عليه الكلام، فقال الشيخ: الله أكبر يا أبا جعفر، إن أنا متّ أرد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عليّ والحسن والحسين وعلي بن الحسين وتقرّ عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي وأُستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسي ههنا. وإن أعش أرى ما يقرُّ الله به عيني، فأكون معكم في السنام الأعلى؟ ثم أقبل الشيخ ينتحب حتّى لصق بالأرض. وأقبل أهل البيت ينتحبون لما يرون من حال الشيخ. ثم رفع الشيخ رأسه وطلب من الإمام عليه السلام أن يناوله يده فقبّلها ووضعها على عينه وخدّه، ثم ضمّها إلى صدره وقام فودّع وخرج والإمام عليه السلام ينظر إليه ويقول: "من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا"23.

حتّى أنّه أحيانًا كان يتعدّى ذلك ويُحدّد سنة النّصر ويجعل الأمل الشيعي القديم أمراً واقعاً، عن أبي حمزة الثّمالي قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: "إنّ الله كان قد وقّت هذا الأمر في السبعين، فلمّا قُتل الحسين عليه السلام اشتدّ غضب الله تعالى على أهل الأرض فأخّره إلى الأربعين ومائة سنة فحدّثناكم فأذعتم الحديث، وكشفتم القناع قناع السّر فأخرّه الله ولم يجعل له بعد ذلك وقتًا عند الله، ﴿يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾24. قال أبو حمزة: قد قلت لأبي عبد الله عليه السلام ذلك فقال: "قد كان ذلك"25.

مثل هذه التصريحات، تُزكّي روح الأمل في قلوبٍ تعيش جوّ الاضطهاد والكبت، فتكسبها زخمًا ودفعًا نحو الهدف المنشود المتمثّل في إقامة النّظام الإسلاميّ العادل.

تسعة عشر عامًا من قيادة الإمام الباقر عليه السلام تواصلت على هذا الخط المستقيم المتماسك الواضح. تسعة عشر عامًا من التعليم الأيديولوجي، والبناء، والتكتيك النضاليّ، والتّنظيم، وصيانة وجهة الحركة، والتقيّة وإذكاء روح الأمل. تسعة عشر عامًا من مسيرٍ شائكٍ ووعرٍ، يتطلّب كثيرًا من الجدّ والجهد في الطّرقات الشّديدة الوعورة. وفي النّهاية، عندما أشرف هذا العمر القصير والمليء بالعطاء على الانتهاء، وعندما ظنّ أعداء النّهضة العلويّة الألدّاء أنّهم يستطيعون أن يتنفّسوا الصّعداء برحيل محرّك هذه النّهضة وسوف يخلو بالهم من التحرّكات الدّعائيّة النّضاليّة للشّيعة، وسوف يتفرّغون لمشاكلهم وأزماتهم التي لا تنتهي داخل البلاد وعلى الحدود، أنزل الرّماد الحامي والمشتعل لهذه الشّعلة آخر صعقةٍ مهلكةٍ له على بنيان النّظام الأمويّ. فقد قضى عمرًا بفضح وتبيين الحقائق، وها هو يتابع بعد موته ما كان يقوم به. بحياته كان يبثّ الوعي، وبموته أيضًا استمرّ في مسعاه هذا. لقد كان يُرسل لأتباعه وللجماهير الغافلة التي كانت عطشى للمعرفة والفهم والتفكّر درسًا جديدًا ورسالةً جديدة. وقد كانت هذه الرّسالة هادئةً وعميقةً مثل الخطّة العامّة لحياته. نفع الأصدقاء والمحتاجين، لكنّه سلب النّوم من عيون الأعداء. كان هذا نموذجًا من تقيّة الإمام الباقرعليه السلام ومظهرًا للوضع العام لنهجه وسلوكه في تلك المرحلة الزمنيّة الخاصّة.

أولئك الذين دوّنوا فيما بعد تاريخ حياة الإمام، مرّوا غافلين أو متغافلين على هذا الإجراء العظيم الذي أُدرج في حديثٍ مختصر. أيمكن القول أنّهم لم يروه؟ هكذا نقصّر. وظاهر القضيّة هو أنّ الإمام قد أمر ابنه الإمام جعفر بن محمّد أن ينفق قسمًا من مدخوله - 800 درهم-من أجل العزاء والنّياح عليه لمدّة عشر سنوات. مكان العزاء هو صحراء منى، وزمانه موسم الحجّ، هكذا ولا شيء آخر. إنّ موسم الحجّ هو ميعاد الإخوة المتباعدين وغير المتعارفين. فآلاف الأشخاص يعيشون تجربة إمكانيّة الاجتماع وتحقّقه في ذلك الزّمان والمكان، وأصحاب القلوب المتقاربة والألسن المتباعدة يدعون ربّهم في هذا المكان بلسانٍ واحدٍ ويشاهدون معجزة اجتماع الملل والشّعوب تحت رايةٍ واحدة. وإذا كان من رسالةٍ ينبغي أن تصل إلى جميع أرجاء عالم الإسلام فلا يوجد من فرصةٍ أنسب من هذه الفرصة. هناك حيث تُنجز أعمال الحجّ، في عدّة أيّامٍ متوالية وفي نقاطٍ محدّدة فأيّة أيّامٍ ستكون أنسب من هذه الأيّام؟! وأيّة أماكن ستكون أنسب من تلك الأمكنة؟! مكّة مدينةٌ والنّاس منتشرون في مدينةٍ واحدة ومشغولون. بالإضافة إلى ذلك، فالجميع فيها مشغولون بأعمال الحجّ، الطّواف، السّعي، الصّلاة و... والمشعر محلّ التوقّف الليليّ فرصته قليلة ولا يوجد فيه إمكانيّة، فلا يوجد أكثر من هذه المحطّة على طريق مِنى. عرفات موقفٌ وإن كان في النّهار، ولكنّه قصير المدّة: فقط يومٌ واحد يبدأ بصباحٍ متعب، من الحركة وينتهي بعصرٍ يُستعدّ فيه للانطلاق. فمِنى هي الأنسب من بين الجميع: فالحجّاج يُخيّمون هناك لثلاثة ليالٍ بعد رجوعهم من سفر عرفات، وتسنح الفرصة أكثر من أيّ مكانٍ آخر لأجل التعارف والتحاور وبثّ الشجون. فمن هو الذي يتحمّل متاعب الذّهاب والرجوع من مكّة؟! فالبقاء وزيارة كلّ تجمّعٍ ومحفلٍ ومجمع يحقق الزمان والمكان المناسبين. فكلّ واحدٍ سوف يمرّ بشكلٍ طبيعيّ على مجلس العزاء الذي يُقام لثلاثة أيّامٍ من كلّ سنة في هذه البادية. وشيئًا فشيئًا سيتعرّف النّاس الوافدون من مختلف الآفاق عليه. وسوف يُقيم أهل المدينة لسنواتٍ عديدة في هذا المكان وفي هذه الأيّام تجمّعًا، وأهل المدينة هم من مركز الإسلام ومقرّ الصّحابة والفقهاء والمحدّثين الكبار، ولمن هذا المجلس، إنّه لأحد وجوه عالم الإسلام، إنّه لمحمّد بن عليّ بن الحسين، رجلٌ عظيمٌ من سلالة النبيّ، زعيم الفقهاء والمحدّثين، أستاذ جميع المشهورين في الفقه والحديث، فلماذا يأتون إلى هذا المكان من بين جميع الأماكن ويقولون فيه ما يقولون؟! وفي الأساس لماذا يُقال هذا؟ ألم يكن موته طبيعيًّا فمن الذي قتله أو دسّ له السّم؟ ولماذا؟ وما الذي فعله؟ وما الذي قاله؟ هل كان يدّعي شيئًا؟ أو كانت له دعوة؟ هل كان يُشكّل خطرًا على الخليفة؟ وهل؟ وهل؟.. أسئلةٌ كثيرة وإبهاماتٌ أكثر، ووراؤها عشرات الأسئلة والتّساؤلات، وعندها سيأتي سيلٌ من الأجوبة من أصحاب العزاء وأيضًا من أهل الاطّلاع المنتشرين هنا وهناك بين الجموع المحتشدة، أولئك الذين أسرعوا من المدينة أو الكوفة إلى هذا المكان، وفي الأساس إنّما جاؤوا لكي يُجيبوا عن هذه الأسئلة. لقد جاؤوا ليبيّنوا للنّاس، الوافدين من أرجاء عالم الإسلام إلى هذا المكان، القضايا في هذه الفرصة الفريدة وفي هذا المكان. وبالطّبع، أيضًا، ليلتقوا بالإخوة والموالين من أجل أن يخبروهم ويأخذوا المطالب والأوامر منهم. كانت أعظم شبكة إعلامية تبليغية بين آلاف القنوات الإعلامية في ذلك العصر. وهذه هي الخطّة النّاجحة للإمام الباقر عليه السلام - خطّة جهاده بعد الموت - وهذا هو الوجود الذي تتفجّر منه البركات الذي جعل حياته ومماته لله وفي سبيل الله. "وجعله مباركًا أينما كان، وسلامٌ عليه يوم وُلد ويوم يموت ويوم يُبعث حيّا"26. (قيادة الإمام الصادق عليه السلام، ص33 - 54)

* كتاب إنسان بعمر 250 سنة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


18- قوله "أيّها النّاس" موجّه الخطاب إلى مجموعة أصحاب الرتب العالية في الحكومة الذين اجتمعوا في مجلس بمثل هذه الحساسية والهيبة، حول الخليفة وأرادوا الدفاع عنه، وفي الواقع هو نفي لكل القيم التي كانت تفصل، في ذلك المجتمع الطاغوتي، هؤلاء المستكبرين عن عامّة النّاس وتميّزهم عنهم. وأرادوا بذلك أن يُميّزوا أنفسهم عنهم. إنّها مواجهة أصولية وعميقة في قالب خطابٍ بسيط (الكاتب).
19- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص471.
20- وطبق بعض الروايات فقد أُشيع بين أهل المدن الواقعة على الطريق أنّ محمد بن علي وجعفر بن محمّد أصبحا نصرانيين وارتدّا عن الإسلام، العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج46، ص 306. وشبيهٌ بهذه الواقعة حدث في حركة تحرير الهند وفي عقود منتصف التاسع عشر: (فمولانا) الذي كان من علماء الدين المعروفين والمعتبرين في الهند وأول قادة المقاومة لمسلمي الهند - وهم من روّاد حركة تحرير شبه القارّة - قد ذُكر من جانب مجموعة من العلماء المعارضين للجهاد كشخص وهّابي. ولم يكن من حاجةٍ لأي تبريرٍ أو مناسبة من أجل إشاعة هذه التّهمة، فكان يكفي لأجل إسقاط مثل هذه الوجوه المحبوبة والمعروفة والمجاهدة من أعين عامّة النّاس الجاهلين والغافلين حتى يُتّهم أيّ شخصٍ بالوهّابيّة. لم يكن عوام النّاس يعلمون ولم يكونوا قادرين أن يعلموا ما هي الوهّابيّة، وما هو منشؤها، وماذا تقول، وماذا تريد أن تفعل، وهل أنّه من الممكن أن يكون العلماء المنزّهون الذين قضوا حياتهم في النّضال ضدّ الاستعمار الإنكليزي وهّابيين - أي أداة بيد الإنكليز؟ الشيء الوحيد الذي كانوا يعلمونه، هو أنّ الوهّابية هي عبارة عن مذهب خاطئ وانحرافيّ، وها هم يسمعون أنّ هؤلاء العلماء المناضلين وهّابيّون ويكفي مثل هذا. (راجع كتاب المسلمون في حركة تحرير الهند، "طباعة آسيا"). وأنا عندما أطبّق قصّة إحضار الإمام الباقر والإمام الصادق عليه السلام إلى الشام واتّهماهما بالتنصّر على المئة سنة ونيّف في الهند في العصر الحديث ثمّ ألقي نظرةً على الأوضاع والأحوال الجارية في زماننا ومكاننا أسترجع في ذاكرتي هذا المصرع للبيت الشعري العربي بكلّ حيرة مؤسفة، "النّاس كالنّاس والأيام واحدة". (الكاتب)
21- سورة هود، الآية 86.
22- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص472.
23- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 46، ص 361-362.
24- سورة الرعد، الآية 39.
25- بحار الأنوار، ج42، ص223.
26- هذا الدعاء مقتبس من الآيات القرآنية الواردة في حق نبي الله عيسى عليه السلام،(سورة مريم، الآيات 31 - 33)

2016-04-09