يتم التحميل...

الإمام الباقر عليه السلام في كلام الولي

الإمام الباقر عليه السلام في كلام الولي

مرحلة البناء الفكريّ والتنظيميّ: المواجهة الفكريّة والثقافيّة

عدد الزوار: 40

مرحلة البناء الفكريّ والتنظيميّ: المواجهة الفكريّة والثقافيّة

إنّ مرحلة حياة الإمام الخامس، الإمام الباقر عليه السلام، هي استمرارٌ منطقيّ لحياة الإمام السجّاد عليه السلام. فها هم الشّيعة مرّة أخرى يُصبحون جماعةً ويشعرون بوجودهم وشخصيّتهم. إنّ الدعوة الشيعيّة الّتي توقّفت لعدّة سنوات على أثر حادثة كربلاء والأحداث الدموية الّتي تلتها - كواقعة الحرّة وثورة التوّابين - وبسبب بطش الأمويين، لم تكن تظهر نفسها إلّا تحت الأستار السّميكة، ها هي اليوم في العديد من الأقطار الإسلاميّة، خاصّة في العراق والحجاز وخراسان، تتجذّر وتستقطب شرائح كبيرة وحتّى أنّها في الدوائر المحدودة أضحت رابطةً فكريّة وعمليّة يُمكن التّعبير عنها بالتّشكيلات الحزبيّة. وولّت تلك الأيّام الّتي قال عنها الإمام السجّاد عليه السلام إنّ أتباعه ما كانوا يزيدون فيها على عشرين شخصًا في كلّ الحجاز1. وأضحى الإمام الباقر عليه السلام يدخل مسجد النبيّ في المدينة فيلتفّ حوله جمعٌ غفير من أهل خراسان وغيرها من أصقاع العالم الإسلامي، يسألونه عن القضايا الفقهيّة، ويفد عليه أمثال طاووس اليمانيّ، وقتادة بن دعامة، وأبو حنيفة، وآخرون من المشهورين بالمعارف الدينيّة. وبالطبع، ممّن يُعتبرون خارج التوجّه الإماميّ والشيعيّ. وقد سمعوا صدى علم الإمام الذائع وأقبلوا عليه للتعلّم أو للاحتجاج والمجادلة. وبرز شاعرٌ كالكُميت الأسديّ بذلك اللسان الفصيح والفنّ العابق، ليترك أهمّ آثاره الفنّية وهي القصائد الّتي عُرفت بالهاشميّات وأضحت تنتقل من يدٍ إلى يد ومن لسانٍ إلى لسان، لتُعرّف النّاس على حقّ آل محمّد وفضل علمهم ومقاماتهم المعنوية. من جهةٍ أخرى، فإنّ خلفاء بني مروان أحسّوا خلال هذه الفترة بنوعٍ من الطّمأنينة، وشعروا بالاستقرار بعد أن استطاع عبد الملك بن مروان ــ توفّي سنة 86 هـ ــ خلال فترة حكمه، الّتي استمرّت عشرين عامًا، أن يقمع كلّ المعارضين. وقد يعود شعور الخلفاء المروانيّين في هذا العصر بالأمن والاطمئنان إلى أنّ الخلافة وصلتهم غنيمة باردة، لا كأسلافهم الّذين كدحوا من أجلها ممّا أدّى إلى انشغالهم باللهو والملذّات الّتي تُصاحب الشّعور بالاقتدار والجاه والجلال. مهما يكن الأمر، فإنّ حساسية خلفاء بني مروان تجاه مدرسة أهل البيت قد قلّت في هذا العصر، وأصبح الإمام عليه السلام وأتباعه في مأمن تقريبًا من مطاردة الجهاز الحاكم. (قيادة الإمام الصادق عليه السلام، ص 32 - 33)

كان من الطّبيعي أن يقطع الإمام عليه السلام خطوة رحبة في ظلّ هذه الظروف على تحقيق أهداف مدرسة أهل البيت، ويدفع بالتشيّع نحو مرحلةٍ جديدة. وهذا ما يُميّز حياة الإمام الباقر عليه السلام.

لقد قيل الكثير بشأن الإمام الباقر عليه الصلاة والسلام، غاية الأمر أنّني سأكتفي بنقطتين من حياته. إحداهما، عبارة عن مواجهته لتحريف المعارف الإسلاميّة والأحكام، هذا الشّيء الّذي حدث في عصر الإمام الباقر عليه السلام بصورةٍ أوسع وأكثر تفصيلًا من أيّ زمانٍ آخر، فماذا تعني مواجهة التحريف؟ المقصود من مواجهة التحريف هو أنّ دين الإسلام المقدّس، بالمعارف والأحكام التي لديه، وبآيات القرآن الّتي حدّدت للمجتمع الإسلامي، بل لكلّ عالم الإنسان والبشريّة، خصائص وشروط، بحيث لو عرفها النّاس وتمسّكوا بها لما أمكنهم تحمّل بعض الأشياء الموجودة في مجتمعٍ معروف بالمجتمع الإسلاميّ. فلا يُمكنهم تحمّل حكومة الظالمين مثلًا، أو حكومة الفسّاق والفجّار، أو حكومة الجاهلين. كما لا يُمكنهم حتمًا تحمّل التمييز والتقسيم غير العادل للثّروة في المجتمع، والكثير من هذه المفاسد الموجودة في المجتمعات الإسلاميّة والتي لا يُمكن أن تنسجم مع الأحكام الإسلاميّة والنّظام الإسلامي.

بعض السلاطين والحكّام الّذين أمسكوا بزمام السّلطة تحت عنوان خلافة النبيّ - كبني أميّة وآل مروان - هؤلاء لم يكونوا لائقين بأيّ شكل لكي يحكموا المجتمع الإسلاميّ، ولقد أوجدوا في عهد حكومتهم كلّ أنواع الفسق والظلم والفساد والتمييز والجهل، وباختصار الانحرافات المختلفة. فلو كان من المقرّر تبيان الأحكام الإسلاميّة والآيات القرآنية كما هي للنّاس، لما كان ممكنًا لهؤلاء أن يستمرّوا في الحكم والإمساك بالسّلطة، لهذا قاموا بعمليّة التّحريف، وقد فعلوا ذلك من عدّة طرق. أحدها، هو أن يخدعوا بعض الفقهاء والحكماء والمحدّثين والقرّاء والوجهاء وأمثالهم ويجعلونهم إلى جانبهم، يعطونهم المال أو يُخوّفونهم. فحملوا البعض طمعًا أو خوفًا لترويج ما يحلو لهم بين النّاس. لهذا، لو نظرتم إلى تاريخ القرنين الأوّلين للإسلام، لرأيتم مشهدًا عجيبًا، لرأيتم من الشخصيّات المعروفة بالقداسة والتقوى والعلم الكثير ممّن صاروا في خدمة الحكّام وأمراء الجور، ممّن كانوا يفتون النّاس بأحكام عجيبة وغريبة تحت عنوان الإسلام. انظروا الآن من باب النموذج، أيّ حكمٍ هذا الّذي ينطق به عالمٌ بهذا الشكل، حيث يعتبر أنّ أولي الأمر، الّذين أمرنا الله تعالى والقرآن بطاعتهم، هم أيّ شخص يتسلّط على النّاس بأيّ وسيلة، حتّى ولو كان ذلك بالمكر والحيلة والسّيف والقهر والقتل، فإنّه يستطيع أن يحكم النّاس. لقد أصبح هذا هو معنى "أولي الأمر".

إنّ هذا الفهم بعيدٌ عن العقل، وغير صحيح، بحيث لو لم يتمّ ربطه بالإسلام وبأصلٍ اعتقاديّ وإيمانيّ عند النّاس لما قبِل به أحد. لكنّ هؤلاء جاؤوا وربطوه بالإسلام وذكروا الكثير من هذه الأمور التي نجد منها الكثير في تاريخ القرنين الأوّلين للإسلام. ولقد كان هؤلاء الحكّام يصحبون هذه الشخصيّات اللامعة أينما ذهبوا في مكّة والمدينة ويعرضونهم على النّاس في الاجتماعات العامّة ويجعلونهم وسيلة لتأييدهم... لقد كان هذا من طرق تحريف الدين. لقد كان أمثال هؤلاء المتظاهرين بالعلم والفقاهة والقداسة والزّهد في خدمة الحكّام الّذين كانوا يُقدّمون كلّ ما يحلو لهم أن يعتقد به النّاس تحت عنوان الدين. وبعض هذه الأمور ما زالت موجودة في الكتب اليوم، وللأسف إنّ الكثير من المسلمين ما زالوا يعتقدون بهذه الأشياء.

كانت هذه أحد طرق التّحريف، حيث إنّ الحكّام أنفسهم عندما كانوا يجلسون على مسند السّلطة، وكانوا يشعرون بأنّه يجب على النّاس أن يقبلوا بكلّ ما يقولونه، فأيّ كلمةٍ أو فكرةٍ أو مبنىً كانوا يعرضونه تحت عنوان الإسلام، كانوا يُحوّلونه إلى ثقافةٍ رائجةٍ وينشرونه على مستوى العالم الإسلامي، ليُنشر ويتكرّر ويُنقل من لسانٍ إلى لسان حتّى يُشكّل الذهنية العامّة. مثلما كان بعض زعماء جهاز عبد الملك، كالحجّاج وأمثاله يعتقدون، أو هكذا يظهرون، بأنّ الخلافة أرفع من النبوّة، فهؤلاء لم يكونوا قانعين بأن يكون عبد الملك بن مروان وأولاده وأولئك الفسقة والفجرة خلفاء للنبيّ - حيث إنّ هذه العمامة كانت أوسع بكثير من رؤوسهم، وذاك اللباس لم يكن ملائماً لقاماتهم - وأن يكونوا غاصبين لهذا العنوان، لكنّهم لم يكتفوا بذلك بل أرادوا أن يدّعوا أنّ الخلافة أفضل من النبوّة... لقد وقعت تلك التحريفات في الدين، وقد كان العامل الأساس لاستمرار سلطة بني أميّة وبني العبّاس والمانع الأساس لحكومة الإسلام الحقّة هو تلك الثقافة الخاطئة الّتي سيطرت على أذهان النّاس.

ها هنا يريد الأئمّة عليهم السلام أن يُقيموا الحكومة الإسلاميّة الصحيحة وأن يُثبّتوا النّظام العلويّ، فماذا يفعلون؟ إنّ أوّل خطوة هي تبديل الذهنيّة العامّة للنّاس، وأن ينتزعوا تلك الثّقافة الّتي يُصطلح عليها بأنّها إسلامية ضدّ الإسلام والّتي كانت قد رسخت في أذهان النّاس، ويضعوا مكانها ثقافةً صحيحةً وقرآنًا حقيقيًّا وتوحيدًا واقعيًّا، هذه هي المواجهة الثقافيّة. فالمواجهة الثقافيّة لا تعني فقط الجلوس وبيان بعض الأشياء من أحكام الإسلام، من دون توجّهٍ ومن دون مسارٍ ثوريّ وجهاديّ، فهذه ليست مواجهة، بل المواجهة الثقافيّة تعني السّعي لتبديل الذهنيّة العامّة والثّقافة الحاكمة على عقول النّاس، من أجل أن يتمّ تعبيد الطّريق باتّجاه الحكومة الإلهيّة، وقطع الطّريق على حكومة الطّاغوت والشّيطان. لقد بدأ الإمام الباقر عليه السلام هذا العمل. هذا هو باقر علم الأوّلين، فهو باقر وفاتح الحقائق القرآنية، فهو من يبقر ويشقّ طرائق الحقائق القرآنية والعلوم الإسلاميّة. وكان يُبيّن القرآن للنّاس. لهذا، كان كلّ من يحتكّ بنفس الإمام الباقر عليه الصلاة والسلام، ولم يكن تابعًا ولا خاضعًا ولا مشاركًا لمعلفهم، كان حتمًا يُبدّل رأيه بشأن وضع حاكميّة الزمان. لهذا، نجد أنّ الكثير من النّاس ممّن هم من الطّبقة الوسطى، في زمن الإمام الباقر عليه السلام، كانوا يُقبلون على مدرسة أهل البيت ومذهب الإمامة، وما هو رائجٌ في عرف اليوم تحت عنوان التشيّع. التشيّع هو هذا، أي اتّباع مدرسة أهل البيت من أجل إقامة السّيادة الحقيقيّة للإسلام، والإعلاء الحقيقيّ لكلمة القرآن، وتوضيح وتثبيت المعارف القرآنية بين النّاس. وكلّ من كان الإمام الباقر عليه السلام يتّصل به ويُبيّن له المسائل كان يُبدّل تفكيره. لقد كان هذا هو العمل الأوّل للإمام الباقر عليه السلام الّذي يُعدّ عملًا مهمًّا جدًّا وأساسًا وهو أهمّ ما قام به عليه السلام.

* كتاب إنسان بعمر 250 سنة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- شرح نهج البلاغة، ج 4، ص 104، العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 46، ص 143.

2016-04-09