يتم التحميل...

الظروف السّياسيّة عند شهادة الإمام الباقر عليه السلام

الإمام الباقر عليه السلام في كلام الولي

توفّي الإمام الباقر عليه السلام وهو في السّابعة والخمسين من عمره، على عهد هشام بن عبد الملك، وهو من أكثر ملوك بني أميّة اقتدارًا.

عدد الزوار: 46

توفّي الإمام الباقر عليه السلام وهو في السّابعة والخمسين من عمره، على عهد هشام بن عبد الملك، وهو من أكثر ملوك بني أميّة اقتدارًا. ورغم ما كانت تُحيط بالحكومة الأموية آنذاك من مشاكل ومتاعب، فإنّ ذلك لم يصرفها عن التآمر على القلب النابض للشّيعة، أي الإمام الباقر عليه السلام، فأوعز هشام إلى عملائه أن يدُسّوا السمّ للإمام عليه السلام، وحقّق بذلك انتصاره في القضاء على أخطر أعدائه.

كان نظام بني أميّة في السنوات الأخيرة لحياة الإمام الباقر عليه السلام، وفي سنوات بدايات إمامة ولده الإمام الصادق عليه السلام، يمرّ بأحد أكثر فصوله المليئة بالأحداث والمتغيّرات. فالتحدّيات العسكريّة في الحدود الشمالية الشرقية ـ تركستان وخراسان، وفي الشمال ـ آسيا الصغرى وآذربايجان، والمغرب ـ وأفريقيا والأندلس وأوروبا، هذا من جانب، والثّورات والانتفاضات المتلاحقة في أنحاء العراق العربيّة وخراسان وشمال أفريقيا، الّتي كانت تنطلق بالأغلب بواسطة السكّان المحلّيّين السّاخطين الّذين يئنّون من الظّلم، وكانت أحيانًا بتحريك أو مساعدة القادة العسكريّين المغول الأمويّين27، من جانبٍ آخر، وكذلك الوضع الصّعب الداخليّ في كلّ الأماكن وخصوصاً في العراق - مقر الدهاقين الكبار لبني أميّة وموقع الأراضي الخصبة الّتي كانت في الأغلب من ممتلكات الخليفة أو أحد رجالاته - وكلّ الظلم والحيف الهائل لهشام وواليه المتجبّر في العراق ـ خالد بن عبد الله القسري28، وفي النهاية القحط والطاعون في مختلف المناطق، ومنها خراسان والعراق والشام، كلّ هذا جعل البلاد المترامية للمسلمين في حالةٍ عجيبة بسبب نظام بني أميّة وعلى يد أشهر الولاة. وينبغي أن نُضيف أنّ أكبر خسارة حلّت في العالم الإسلاميّ هي الخسارة المعنوية والفكريّة والروحيّة.

في الأجواء الكئيبة للدّولة الإسلاميّة، الّتي كان فيها الفقر والحرب والأمراض مثل صاعقةٍ نزلت من أصحاب السّلطة والمستبدّين الأمويين على رؤوس النّاس المساكين تحرق وتذر رمادًا، أضحت تربية غرسة الفضيلة والتقوى والأخلاق والمعنويّات في عداد المستحيلات. فالعلماء والقضاة والمحدّثون والمفسّرون الّذين كان ينبغي أن يكونوا ملجأ وملاذ النّاس المساكين والمظلومين صاروا في الأغلب سببًا لزيادة مشاكل النّاس بطريقةٍ أشدّ خطرًا من رجال السّياسة. فقد أصبح المشاهير والشخصيّات المعروفة في الفقه والكلام والحديث والتصوّف بيادق بيد جهاز الخلافة الكبير، وألاعيب بيد الأمراء والحكّام.

من المؤسف القول بأنّ دراسة أحوال هذه الشخصيّات الوجيهة وأصحاب السّمعة تجعلهم يتجسّدون، في ذهن كلّ من يُطالع، بصورة رجال يشتركون في معلف الأماني المنحطّة كالسّعي لنيل السّلطة والسّمعة والشهرة، أو جبناء ومنحطّين وطلّاب راحة، أو زهّاد مرائين وحمقى، أو متظاهرين بالعلم، مشغولين بالأبحاث الدمويّة الكلاميّة والاعتقادية.

فقد تبدّل القرآن والحديث الّذي ينبغي لكلّ منهما أن يصبح سببًا لرشد ونموّ غرسات المعرفة والخصال الحسنة، إلى أدوات بيد أصحاب السّلطة، أو للانشغال بالأمور الّتي لا فائدة منها.

في هذه الأجواء السّامّة والخانقة والمظلمة وفي ذلك الزّمن المحفوف بالبلاء والمصاعب، حمل الإمام الصادق عليه السلام ثقل الأمانة الإلهيّة على عاتقه. وحقًّا، كم كان ضروريًّا وحيويًّا أن نتعرّف على الإمامة بذلك المفهوم الرّاقي الموجود في الثقافة الشيعيّة. وبالنسبة للأمّة الذليلة والخانعة والمخدوعة والجاهلة في ذلك الزمان المظلم والمليء بالمصائب، رأينا سابقًا أنّ الإمامة منبعٌ لتيّارين حياتيّين: الفكر الإسلاميّ الصحيح، والنّظام التوحيديّ العادل، والإمام مكلّفٌ بهاتين الوظيفتين: الأولى، تبيين الدّين وتطبيقه وتفسيره ـ وبما يتضمّن مواجهة التحريفات، والاختلاقات الجاهلة والمغرضة - ومن ثمّ التخطيط وإيجاد الأرضيّة لنظام التوحيد العادل والحقّانيّ، وفي حال وجود مثل هذا النّظام، منحه الدوام والاستمراريّة. والآن في مثل هذه الأوضاع والأحوال السيّئة، يتحمّل الإمام الصادق عليه السلام ثقل هذه الأمانة، ويصبح مسؤولًا عن هذين التّكليفين. ففي آنٍ واحد، تصبح هاتان الوظيفتان أمام ناظريه، فماذا يقدّم منهما؟ صحيحٌ أنّ العمل السياسيّ له مصاعبه الكثيرة، ولا يوجد شيءٌ يُمكن لهشام الأمويّ مع كلّ مشاغله ومتاعبه أن يغفره، أو لا ينتقم منه بشدّة، ولكنّ العمل الفكريّ ــ أي مواجهة التحريف ــ في الحقيقة عبارة عن اقتلاع وريد الجهاز الحاكم، جهازٌ لا قدرة له على البقاء إلّا بالاعتماد على الدين الانحرافيّ29.

لهذا، فإنّهم أيضًا لن يغفروا هذا العمل أو يمرّوا عليه مرور الكرام، هشامٌ، ولا غيره من علماء العصر، العلماء الّذين يسعون لترويج المجتمع المنحطّ والمنحرف، يتحرّكون بفعاليّة من أجل ذلك.

ومن جانبٍ آخر، فقد تهيّأت الظّروف من أجل نشر وتعميم الفكر الثّوريّ الشّيعيّ. فقد كان هناك حربٌ وفقرٌ واستبداد، عوامل ثلاثة مهيّئة ومعدّة للثورة، وتهيّأت الأرضيّة من قبل الإمام السابق، والّذي جعل أجواء المناطق القريبة وحتى البعيدة مهيّأة إلى حدٍّ ما.

إنّ الاستراتيجية العامّة للإمامة هي إيجاد الثّورة التوحيديّة والعلويّة، ففي أجواءٍ سيكون فيها جماعة مطلوبة من النّاس تعرف أيديولوجيّة الإمامة وتؤمن بها وتتشوّق انتظارًا لتحقّقها، وجماعة أخرى مطلوبة ينبغي أن تنضم إلى تلك التشكيلات المناضلة والعازمة. فاللازم المنطقي لهذا التحرّك العام والنهج الكلّي هو دعوة شاملة في كلّ العالم الإسلامي من أجل تهيئة الأجواء لإشاعة الفكر الشيعي في كلّ الأقطار، ودعوة أخرى من أجل إعداد الأفراد المستعدّين وأعضاء "التشكيلات الشيعيّة السرّية" المضحّين. إنّ صعوبة عمل دعوة الإمامة الحقّة كامنٌ في هذه النقطة. فهناك دعوة مسلكية كاملة تريد أن تبعد كلّ أنواع التسلّط والاعتداء على حقّ النّاس بالحريّة ورعاية الأصول والموازين الإسلاميّة الأساس، وهي مضطرّة للاعتماد على مشاعر وفهم النّاس وأن تنمو وتتقدّم في مجال إدراك مشاعرهم وحاجاتهم الأساس. وعلى العكس كان هناك أنواع من النّضال تتشبّث بالشّعارات المسلكيّة والدينيّة لبدء عملها، ولكنّها في التطبيق وعلى الأرض تتوسّل بكلّ أنواع السعي للسلطة ككلّ المتسلّطين الّذين يغضّون الطرف عن الأصول الأخلاقيّة والاجتماعيّة ولا يعبؤون بمثل هذه الصعوبات، وهذا هو سرّ إطالة أمد تيّار نهضة الإمامة، وأيضاً سرّ تقدّم النهضات الموازية لنهضة الإمامة - كبني العبّاس - والفشل النسبيّ لهذه النهضة. وهذا الطلب سوف نعرضه في المستقبل وبمزيد من الشرح بالاعتماد على الوثائق التاريخيّة.

إنّ الأوضاع والأحوال المساعدة والأرضيّات الّتي أمّنها الإمام السابق في عمله، كانت تؤدّي إلى أن يظهر الإمام الصادق عليه السلام كتجلٍّ للأمل الصادق الّذي عاشه الشّيعة لسنوات وهم بانتظاره، وذلك بالالتفات إلى الطريق الطويل والمليء بالمشقّات لنهضة التشيّع، وهو نفس القائم (الإمام الصادق عليه السلام )الّذي سوف يوصل كلّ الجهاد المرير لأسلافه إلى ثمرته وسوف يقيم الثورة الشيعيّة على مستوى العالم الإسلاميّ المترامي. فالإشارات، وأحيانًا التصريحات المباشرة للإمام الباقر عليه السلام، كانت مؤثّرة أيضًا في ترعرع ونموّ غرسة الأمل هذه.

يقول جابر بن يزيد: سأل رجلٌ الإمام الباقر عليه السلام عن القائم الّذي يكون من بعده، فوضع الإمام يده على كتف أبي عبد الله وقال: "إنّ هذا هو قائم آل محمّد"30. (قيادة الإمام الصادق عليه السلام، ص54-61)

* كتاب إنسان بعمر 250 سنة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


27- وقد نسب المؤرّخ جميع هؤلاء ودون استثناء إلى الخوارج، وهذا بذاته مؤشّرٌ على أنّ جهاز الخلافة كان هو المقصود بهذه الثورات والنهضات الّتي كان أغلبها أو بعضها على الأقل محقًّا.(الكاتب)
28- اتّهم خالد بن عبد الله القسري أنّ دخله السنوي بلغ 13 مليوناً وكتب هشام بن عبد الملك إليه: لا يبيعنّ أحدٌ غلّته حتى تُباع غلّة أمير المؤمنين! وقد قال خالد هذا (والذي لم يكن على صبغة واحدة مع الخليفة) في خطبة له: يظنّ النّاس أنّني أرفع الأسعار. ألا لعنة الله على كلّ من يرفع الأسعار.(وكان يريد أن يقول أن هذا من عمل الخليفة). كان لهشام امرأة لباسها من الذهب وقد عُلّقت فيه الجواهر النفيسة وكان ثقيلاً إلى درجة أنّها لم تقدر على المسير به. ولم يتمكّن أحدٌ من تحديد قيمته. وكان له سجّادةٌ بطول مئة ذراع وعرض خمسين ذراعاً حيكت من الحرير والذهب.(ابن الأثير، ج5، ص220 و بين الخفاء والخلفاء، ص 28 و56) (الكاتب).
29- هذه النقطة جديرة بالتأمّل والتدقيق الكثير وهي أنّه بالرّغم من كل هذه الانحرافات الّتي هيمنت على سلوك المجتمع ووجوده من ناحية الفكر الإسلامي الصحيح، فإنّ الاعتقادات الدينيّة في ذهن العامّة وحتّى الكثير من الزعماء كان له دورٌ حسّاس في عملهم وحياتهم. وعن طريق هذا الاعتقاد العام ــ والذي كان للأسف اعتقاداً بمنسوجات تُسمّى إسلاماً لا الإسلام الصحيح ــ تمكّن نظام الخلافة من الإبقاء على حياته. ونموذجٌ من هذا التمسّك بالاعتقادات الدينيّة يمكن مشاهدته في أداء هؤلاء الزعماء والوجهاء في قضيّة البيعة. ما أكثر النّاس الذين كانوا يطيعون الخليفة احتراماً للعهد وحرمة نقده ــ وخاصّةً عهد البيعة ــ وبالرغم من كل المعاصي والجرائم الّتي كانوا يرونها منه. وما أكثر الموارد الّتي أظهرت الوصية والبيعة بدورها القاطع إمكان بقاء نظام الخلافة وأعطت المناعة لهذا النّظام مقابل أيّ سعيٍ. (الكاتب)
30- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 47، ص 131.

2016-04-09