يتم التحميل...

المدلول ونوع الدليل

إضاءات قرآنية

ان كل دعوى تحتاج إلى دليل، وان الدليل يحتاج إلى دليل، حتى ينتهي إلى أصل عام واضح بذاته، لا يختلف فيه اثنان، ونتكلم في هذه الفقرة عن نوع الدليل:

عدد الزوار: 222

قال تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111].

ان كل دعوى تحتاج إلى دليل، وان الدليل يحتاج إلى دليل، حتى ينتهي إلى أصل عام واضح بذاته، لا يختلف فيه اثنان، ونتكلم في هذه الفقرة عن نوع الدليل:

وهو يختلف باختلاف طبيعة الشيء المتنازع عليه، فإذا أردنا - مثلا - أن نعرف المواد التي يحتوي عليها جرم من الأجرام الطبيعية اعتمدنا التجربة والمختبر، وإذا أردنا أن نثبت وجود مدبر حكيم وراء الكون رجعنا إلى العقل، أو معرفة حكم من أحكام الشريعة الاسلامية استندنا إلى الكتاب والسنة، أو معرفة اللغة ومداليل الألفاظ تحتم الرجوع إلى العرف واصطلاح العرب الأوائل، وإذا كان هناك مسألة قانونية رجعنا إلى القانون، أو تاريخية رجعنا إلى علماء الآثار والرواة الثقات.. وهكذا تختلف نوعية الدليل باختلاف طبيعة الحادثة التي يراد إثباتها، وليس لأحد كائنا من كان أن يقترح من عندياته نوع الدليل، أو يطلب المزيد من الإثبات بعد أن استكمل الاستدلال جميع العناصر الموجبة لليقين والإقناع.

وعلى هذا، فإذا قام الدليل الكافي الوافي الذي استدعته طبيعة المدلول، ثم اقترح مقترح دليلا سواه، أو المزيد من الاستدلال فهو مكابر لجوج يضرب بطلبه واقتراحه عرض الحائط.. وقد تحدى محمد ( صلى الله عليه واله ) بالقرآن المشككين والمعاندين وثبت عجزهم وخذلانهم، وتمت الحجة عليهم، فإذا طلبوا الزوائد بعد العجز الفاضح كان طلبهم هذا من باب العناد واللجاج، إذ لو كان غرضهم الحق بما هو حق لاقتنعوا به، وأذعنوا له بعد أن ظهر بأكمل صوره وأجلاها.

﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة: 119]. هذا تحديد لوظيفة النبي ومهمته، وانه معلم، لا مسيطر، ومبين للحق، لا مكره عليه، فالآية تجري مجرى قوله تعالى: ﴿وقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف 29 ]. وفي الآية تسلية للنبي ( صلى الله عليه واله ) لئلا يضيق صدره بكفر من كفر، وعناد من عاند.

﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120].

قال صاحب مجمع البيان: « سأل اليهود والنصارى محمدا ( صلى الله عليه واله ) ان يهادنهم، وأظهروا له انه إذا هادنهم وأمهلهم اتبعوه وآمنوا به فآيسه اللَّه منهم ومن موافقتهم. وهذا يدل على انه لا يصح إرضاء اليهود والنصارى بحال من الأحوال، لأنه تعالى علق رضاهم بأن يصير يهوديا أو نصرانيا، وإذا استحال ذلك استحال إرضاؤهم ».

والحقيقة ان أكثر أهل الأديان والأحزاب على هذه النزعة، ولا خصوصية لليهود والنصارى في ذلك، بل ان بعض الناس لا يرضى عنك الا إذا جعلت من نفسك عبدا له، وقد استنكر القرآن الكريم هذه النزعة البغيضة، ودعا إلى التعايش الديني مع جميع أهل الأديان، وقدس جميع الرسل والأنبياء، وذكرهم بكل خير، وأوجب على أتباعه الاعتراف بهم والايمان بنبوتهم، وهذا من أقوى البواعث للتآخي بين أهل الملل والنحل، وتعاون بعضهم مع بعض.

وعلى أية حال، فان اللَّه خص اليهود والنصارى بالذكر، كي ييأس النبي ويقنط من متابعتهم له، كما قال صاحب المجمع.


المؤلف: محمد جواد مغنية، الكتاب أو المصدر: تفسير الكاشف، الجزء والصفحة: ج1، ص190 191.

2015-12-20