يتم التحميل...

التوبة والاستغفار

مآب المذنبين

للرجاء دورٌ مهمٌ في إبقاء الحيوية المعنوية في الفرد المسلم، فالشريعة لم تقطع رجاءه على أثر ارتكابه بعض الذنوب، بل فتحت مصراعيها للمذنبين كي يعودوا، وجعلت لذلك طرقاً، منها: الشفاعة، والتوبة، والاستغفار.

عدد الزوار: 436


حكمة تشريع التوبة والاستغفار1:

للرجاء دورٌ مهمٌ في إبقاء الحيوية المعنوية في الفرد المسلم، فالشريعة لم تقطع رجاءه على أثر ارتكابه بعض الذنوب، بل فتحت مصراعيها للمذنبين كي يعودوا، وجعلت لذلك طرقاً، منها: الشفاعة، والتوبة، والاستغفار.

قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحيماً2، وقال أيضاً: ﴿وَالَّذينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى‏ ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدينَ فيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلين3.

روي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجلّه الله سبع ساعات، فإن استغفر الله لم يكتب عليه شيء، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كُتِبت عليه سيئة، وإنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له، وإنّ الكافر لينساه من ساعته"4.
لذا رغّبت الشريعة المؤمنين وحثّتهم على الاستغفار، والنصوص الواردة في ذلك مستفيضة جداً، كتاباً وسنة.

وما أكثر الأدعية المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام والمتضمّنة لأنواع الاستغفار، منها دعاء الإمام علي عليه السلام الذي علّمه كميل بن زياد، وممّا جاء فيه: "اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تُنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تُغيّر النعم، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء، اللهم اغفر لي الذنوب التي تُنزل البلاء، اللهم اغفر لي كل ذنب أذنبته"5.


حقيقة المغفرة والتوبة:

"المغفرة هي الستر، بمعنى أن يستر القادرُ القبيحَ الصادرَ ممن تحت قدرته"6.

فالمغفرة إذن هي التغطية على الذنوب والعفو عنها، وهي من أسماء الله عزّ وجلّ، الغفور، والغفّار، بمعنى الساتر لذنوب عباده، وعيوبهم، المتجاوز عن خطاياهم، وذنوبهم.

التوبة: "الرجوع من الذنب. وفى الحديث: " الندم توبة "، وكذلك التوب مثله. وقال الأخفش: التوب جمع توبة، مثل عومة وعوم. وتاب إلى الله توبة ومتاباً"7.

أمّا شرعاً، فهي الرُّجوع إلى صراط الله المستقيم بعد الانحراف عنه8.

وقد عرَّفها علماء الأخلاق بأنّها ترك المعاصي في الحال، والعزم على الابتعاد عنها في الاستقبال، وتدارك ما سبق من التقصير في حقّ الله وحقوق الآخرين.
قال الإمام الخميني بشأنها: "التوبة من المنازل المهمّة الصعبة، وهي عبارة عن الرجوع عن عالم المادة إلى روحانية النفس، بعد أن حُجبت هذه الروحانية ونور الفطرة بغشاوات ظلمانية من جرّاء الذنوب والمعاصي"9.

فحقيقة التوبة إذن، هي الرجوع الاختياري عن المعصية إلى الطاعة والعبودية لله وحده لا شريك له، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ10. وتوبة العبد إلى الله ورجعوه بتركه للمعصية - وهو توفيق إلهي محض -؛ لان الإنسان في ذاته فقير، والفقر عين ذاته، بمعنى أنّه متمحِّضٌ في الحاجة، لذا فهو محتاج إلى توفيق الله ومدده تعالى.


حكم التوبة:

إذا أقدم الإنسان على المعصية، وكان بالغاً عاقلاً عالماً بحرمة ما ارتكبه، غير مضطّر إليه، وليس مجبراً عليه، يعتبر حينئذٍ عاصياً، وتصبح التوبة واجبةً عليه.

وقد أفتى الفقهاء بوجوبها، فذكر الإمام الخميني في تحرير الوسيلة: "من الواجبات التوبة من الذنب، فلو ارتكب حراماً أو ترك واجباً تجب التوبة فوراً، ومع عدم ظهورها منه وجب أمره بها، وكذا لو شُكّ في توبته، وهذا غير الأمر والنهي بالنسبة إلى سائر المعاصي، فلو شُكّ في كونه مقصِّراً، أو عُلم بعدمه، لا يجب الإنكار بالنسبة إلى تلك المعصية، لكن يجب بالنسبة إلى ترك التوبة"11.

ويعتبر الإنسان مذنباً، وتجب عليه التوبة، إذا تحقّقت أربعة شروط:

1- أن يكون المذنب قد بلغ سن التكليف الشرعي؛ لأن غير المكلّف ليس مخاطباً بالأحكام الشرعية، وإن ترتّب على بعض أفعاله حقوق قضائية، فيما يتعلّق بحماية الفرد والمجتمع.
2- أن يكون المذنب عالماً بحرمة ما ارتكبه من جرم، وما اقترفه من معصية، أي غير جاهلٍ أو مخطئ به.
3- أن يكون المذنب عاقلاً حين إقدامه على المعصية، وقد ارتكبها بكامل وعيه (أي ارتكبها مع سبق الإصرار).
4- أن لا يكون المذنب مضطّراً إلى ارتكاب المعصية والتلبّس بالجريمة ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ12.
فإذا تمّت هذه الشروط في مرتكب الجرم، وقد تلبَّس به، يصبح مذنباً من جهة شرعية، وتجب عليه المبادرة إلى التوبة.


التوبة والاستغفار في القرآن الكريم:

حثّ القرآن الكريم على التوبة في مواضع، كما في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُود13، ﴿...وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ14، ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ15، فهذه الآيات فيها حثّ على التوبة والاستغفار، مهما كَبُر الذنب أو صَغُر، ومهما كان الإنسان، عادياً أو من الأولياء الصالحين، وغيرهم. وآيات التوبة التي وردت في القرآن كثيرة وعديدة، نقتصر منها على أربع آيات؛ لأهميّتها، ووجود نكات دقيقة فيها:

الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيما16.

والجهالة المقصودة بالآية ليست هي عدم العلم بالمعصية، وإنّما طغيان الغريزة، وسيطرة الأهواء الجامحة، والحقيقة نفسها بيّنها الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة: "إلهي لم أعصِك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد، ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت، وسوّلت لي نفس، وغلبني هواي"17.

الآية الثانية: قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ18.

رُوِي عن الإمام الصادق عليه السلام: لمّا نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً...، صعد إبليس جبلاً بمكّة يقال له: ثور، فصرخ بأعلى صوته بعفاريته، فاجتمعوا إليه، فقالوا: يا سيّدنا لم دعوتنا؟ قال: نزلت هذه الآية، فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين، فقال: أنا لها بكذا وكذا، قال: لست لها، فقام آخر، فقال: مثل ذلك، فقال: لست لها، فقال الوسواس الخنّاس، أنا لها، فقال: بماذا؟ قال: "أعدهم وأمنّيهم حتى يواقعوا الخطيئة، فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار، فقال: أنت لها، فوكّله بها إلى يوم القيامة"19. وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه واله عندما نزلت الآية الشريفة، قال: "هذه هديّة لي ولأمّتي خاصّة من الرجال والنساء، ولم يُعطها أحدٌ من الأنبياء الذين كانوا قبلي، ولا غيرهم"20.

الآية الثالثة: قال الله تعالى: ﴿إِلاَ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً21.

والآية تدلّ على عظمة الرحمة الإلهية؛ فهي تصرّح بأنّ الله تعالى لن يكتفي بمغفرة ذنوب المذنبين، بل سيبدّل سيئاتهم إلى حسنات.

الآية الرابعة: قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ22.
حذّر الله تعالى عباده من اليأس والقنوت، وبشّرهم في هذه الآية الكريمة بأنّه تعالى يغفر جميع الذنوب دون استثناء، إلا الشِرك به تعالى كما صرّح القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ23، إلا إذا تاب من الشرك وعاد إلى الإسلام. فلا مغفرة -كما صرّح القرآن- دون توبةٍ من الشِّرك، والآية المذكورة ناظرةٌ إلى المغفرة من دون التَّوبة.


آثار التوبة والاستغفار:

إنّ للاستغفار والتوبة آثاراً عظيمةً على الإنسان، تؤثّر عليه من خلال مجريات حياته، نشير فيما يأتي إلى بعضها:

1. الخير والبركة: هناك ارتباطٌ قويٌ بين الاستغفار وبين صلاح المجتمع ونزول البركات والحياة الطيبة، قال تعالى حكاية عن هود عليه السلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ24، وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ25.

وعن الإمام الرضا عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه واله: من أنعم الله عزّ وجلّ عليه نعمة فليحمد الله، ومن استبطأ الرزق فليستغفر الله، ومن حزنه أمر فليقل: لا حول ولا قوة إلا بالله"26.

2. دفع العذاب: من آثار الاستغفار الطيبة رفع العذاب عن هذه الأمة، وعن الإمام علي عليه السلام قال: "كان في الأرض أمانان من عذاب الله سبحانه، وقد رُفِع أحدهما، فدونكم الآخر فتمسّكوا به، أمّا الأمان الذي رُفِع فهو رسول الله صلى الله عليه واله، وأما الأمان الباقي فالاستغفار، قال الله عزّ من قائل: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ27"28.

3. طرد الشيطان: الاستغفار يبعد الشيطان ويحبط مؤامراته، عن الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه واله لأصحابه: ألا أخبركم بشيءٍ إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان عنكم كما تباعد المشرق عن المغرب؟ قالوا: بلى، قال: الصوم يسوّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحبّ في الله والمؤازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه"29.

4. تكفير السيئات: فإذا تاب العبد توبة نصوحاً كفَّر الله بها جميع ذنوبه وخطاياه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ30.

5. تبدّل السيئات حسنات: فإذا حَسُنت التوبة بدَّل الله سيئات صاحبها حسنات، قال الله تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً31. وهذا من أعظم البِشارة للتائبين، إذا اقترن بتوبتهم إيمان وعمل صالح.

6. طهارة القلوب: الاستغفار كما ورد في النصوص الشريفة يجلي القلوب، ويطهّرها من كل خبث ونجس، قال رسول الله صلى الله عليه واله: "إنّ للقلوب صداء كصداء النحاس، فأجلوها بالاستغفار"32، لقد عبّر رسول الله صلى الله عليه واله عن الذنوب بالصدأ، التي لا يمكن جلاؤها إلا بالاستغفار.


مراتب التوبة ودرجاتها:

ذَكَر الشهيد دستغيب أربع مراتب للتوبة33:

1- العودة من الكفر إلى الإيمان، ومن الشِرك إلى اليقين، وهكذا الرجوع من أيّ عقيدةٍ باطلةٍ إلى الحقّ.
2- العودة من المعصية - صغيرةً كانت أو كبيرة - إلى الطاعة، ومن المخالفة إلى الامتثال والموافقة.
3- العودة من القصور أو التقصير في معرفة الخالق تعالى، أو أداء وظائف العبودية بالنحو المناسب.
4- العودة من الغفلة عنه تعالى إلى ذكره، والبُعد عنه إلى التقرّب منه، والعودة من الجفاء معه تعالى إلى الوفاء، وهذه درجة خاصّة يدركها القليلون.


أركان التوبة وشرائطها:

حقيقة التوبة - كما ذكرنا - هي رجوع العبد إلى الله تعالى، وإقلاعه عن المعاصي، ولا يتحقّق ذلك إلا بمراعاة شروط التوبة والالتزام بأركانها؛ فالتوبة ما لم تقترن بندمٍ حقيقيٍ على الفعل الذي هو حاجب بين العبد وربّه، وتصميمٍ على عدم العودة إليه أصلاً، وسعيٍ لمحو كلّ آثاره الباطنية والخارجية، من خلال إفراغ ذمّته من أيّ حقّ متعلّق فيها، سواء الحقّ الإلهي أو حقّ الناس، فإنّ التوبة تبقى ناقصةً وغير مكتملةٍ، ولا يتوقّع منها أن تؤتي ثمارها الطيبة والمرجوّة، قال تعالى: ﴿إِلاَ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ34.

جاء في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لقائل قال بحضرته أستغفر الله: "ثكلتك أمّك، أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيين، وهو اسم واقع على ستّة معان:

أوّلها: الندم على مضى.
والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم؛ حتى تلقى الله أملس ليس عليك تَبِعة.
والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضةٍ عليك ضيعتها، فتؤدّي حقّها.
والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت، فتذيبه بالأحزان، حتى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينها لحم جديد.
والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة، كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك نقول: أستغفر الله"35.


ومما تقدّم في كلام الإمام علي عليه السلام، نستنتج أنّ للتوبة ركنين وأربعة شروط.

1. الركن الأول: الندم على الذنب.
2. الركن الثاني: العزم على ترك الذنب وعدم العود إليه، ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الندم على الشرّ، يدعو إلى تركه"36.

وأمّا الشروط، فهي على قسمين:

- شروط القبول:
1. تأدية حقوق المخلوقين بإرجاعها إلى أهلها: عن أمير المؤمنين عليه السلام: "أيّها الناس، إنّ الذنوب ثلاثة: فذنب مغفور، وذنب غير مغفور، وذنب نرجو لصاحبه، ونخاف عليه. قيل: يا أمير المؤمنين عليه السلام فبيّنها لنا، قال: نعم.
أمّا الذنب المغفور، فعبد عاقبه الله على ذنبه في الدنيا، فالله أحلم وأكرم من أن يعاقب عبده مرتين. وأمّا الذنب الذي لا يُغفر، فمظالم العبا بعضهم لبعض، إنّ الله تبارك وتعالى إذا برز لخلقه أقسم قسماً على نفسه، فقال: وعزّتي وجلالي، لا يجوزني ظلم ظالم، ولو كفّ بكف، ولو مسحة بكفّ، ولو نطحة ما بين القرناء إلى الحمّاء، فيقتصّ للعباد بعضهم من بعض، حتى لا تبقى لأحدٍ على أحدٍ مظلمة، ثم يبعثهم للحساب.
وأمّا الذنب الثالث، فذنب ستره الله على خلقه، ورزقه التوبة منه، فأصبح خائفاً من ذنبه راجياً لربّه، فنحن له كما هو لنفسه، نرجو له الرحمة، ونخاف عليه العذاب"37.


2. تأدية حقوق الخالق سبحانه وتعالى: يجب على التائب تدارك ما فوّته من حقوق الله تعالى، وأن يعود فيتداركها كلّها حسب ما قرّرت الشريعة الإسلامية، فيقضي الصلاة، ويقضي الصوم، ويكفّر عما فاته أيضاً، إلى غير ذلك من الأمور المتعلّقة بحقوق الله تعالى.

- شروط الكمال:
1. إذابة اللحم الذي نبت على الحرام (كأكل الربا).
2. إذاقة الجسم ألم الطاعة.


التوبة النصوح:

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً38.

في الآية حثّ على التوبة النصوح، والتوبة النصوح أعلى درجات التوبة أو التائبين، بعد الدرجات الأولى للتوبة، من ترك الذنوب مدّة، أو ترك الكبائر فقط.

المعنى: "النصح لغةً، بمعنى الإخلاص، نحو نصحت له الودّ، أي أخلصته"39، فالتوبة النصوح هي التي تصرف صاحبها عن المعصية، وتخلِّصه من الرجوع إلى الذنب، وذلك بتحري جميع الطرق التربوية التي تصدّه عن المعصية.

ومعناها شرعاً: هي التوبة التي لا يعود فيها التائب إلى الذنب الذي تاب عنه، على ما ورد عن الصادق عليه السلام، حيث سَئِل عليه السلام عن معنى قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً، فقال: "يتوب العبد من الذنب، ثم لا يعود فيه"40.

وإذا رجعنا إلى روايات أهل البيت عليهم السلام نجد التوبة النصوح قد فُسّرت بثلاثة تفاسير:

1. أن يتوب العبد من الذنب، ولا يعود إليه أصلاً، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً، قال عليه السلام: "هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً"41.

2. أن يكون باطن التائب كظاهره، عن الإمام الصادق عليه السلام: "التوبة النصوح أن يكون باطن الرجل كظاهره وأفضل"42.

3. أن النصوح ما كانت خالصةً لوجه الله سبحانه، من قولهم: عسلٌ نصوح، إذا كان خالصاً من الشمع، بأن يندم على الذنوب لقبحها، وكونها خلاف رضا الله تعالى، لا لخوف النار مثلاً.

4. منها: أنّ المراد توبة تنصح الناس، أي تدعوهم إلى أن يأتوا بمثلها؛ لظهور آثارها الجميلة في صاحبها، أو ينصح صاحبها فيقلع عن الذنوب، ثمّ لا يعود إليها أبداً.
فالتوبة النصوح إذن، هي إنابة صادقة تنصح القلب، وتخلِّصه من رواسب المعاصي، وتظلّ تنصح صاحبها؛ لئلا يعود إلى الذنب مرة أخرى، ويواظب على الطاعات، ويجتنب المحرمات مراقباً نفسه في كل الحالات.

رُوِي عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه خطب يوماً بالمسلمين، فقال: "أيها الناس، توبوا إلى الله توبةً نصوحاً قبل أن تموتوا، بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا..."43.

وعن أبي بصير قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال: هو الذنب (أي التوبة من الذنوب) الذي لا يعود فيه أبداً، قلت وأيّنا لم يعد؟ فقال: يا أبا محمد،" إن الله يحبُّ من عباده المفتتن التوّاب"44.

ولهذا، فإنّ التوبة النصوح منهج تربوي متكامل، يبدأ بالتخطيط للتوبة إلى إعلانها، إلى تطبيق الخطط العملية للتوبة، وصولاً إلى المراقبة الذاتية، فالمحاسبة اليومية.


المفاهيم الرئيسة

1. الحكمة من تشريع التوبة والاستغفار، فتح باب الرجوع إلى الله أمام العصاة المقرّين بخطئهم، وهو من أعظم أبواب الرحمة الإلهية والتجلي العملي لاسم الرحمن.

2. المغفرة هي التغطية على الذنوب والعفو عنها، والغفور من أسماء الله الحسنى، أمّا التوبة، فتعني الإنابة والرجوع الاختياري عن المعصية إلى الطاعة والعبودية لله.

3. التوبة من الذنب من الواجبات الإلهية، وإذا ارتكب إنسان ما حراماً أو ترك واجباً وجب عليه التوبة فوراً، ومع عدم ظهورها منه وجب أمره بها.

4. للتوبة والاستغفار آثار إيجابية عظيمة، فهي تجلب الخير والرحمة الإلهية، وتدفع العذاب والنقمة، وتطرد الشيطان وأعوانه، وتبدّل السيئات حسنات، وتطهّر القلوب.

5. للتوبة أركان وشروط تجب مراعاتها والالتزام بها حتى تصبح توبة العبد مقبولة، وأفضل أنواع التوبة هي التوبة النصوح، وهي التي لا يعود العبد بعدها إلى الذنب.


للمطالعة

الإنسان بفطرته يحب الكمال


لا يخفى على كل ذي وجدان أن الإنسان، بحسب فطرته الأصيلة وجبلّته الذاتية، يعشق الكمال التام المطلق، ويتوجّه قلبه شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر الناس عليها وبهذا الحب للكمال، تتوفّر إرادة المُلك والملكوت، وتتحقّق أسباب وصول عشّاق الجمال المطلق إلى معشوقهم.

غير أن كل امرئ يرى الكمال في شيء ما، حسب حاله ومقامه، فيتوجّه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، فقلوبهم متوجّهة إليها. وأهل اللّه يرون الكمال في جمال الحق، والجمال في كماله سبحانه يقولون "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ". ويقولون: "لي مَعَ اللَّهِ حال" وفيهم حب وصاله وعشق جماله. وأهل الدنيا عندما رأوا أن الكمال في لذائذها، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتجهوا فطرياً نحوها. ولكن على الرغم من كل ذلك، فإنه لمّا كانَ التوجه الفطري والعشق الذاتي قد تعلقا بالكمال المطلق، كان ما عدا ذلك من التعلّقات عرضياً ومن باب الخطأ في التطبيق.

إن الإنسان مهما كثر مُلكه وملكوته، ومهما نال من الكمالات النفسية أو الكنوز الدنيوية أو الجاه والسلطان، ازداد اشتياقه شدّه، ونار عشقه التهاباً. فصاحب الشهوة، كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلّق قلبه بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. وكذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الأقطار، تتوجّه بنظرة طامعة إلى آخر، بل لو أنها سيطرت على الكرة الأرضية برمتها، لرغبت في التحليق نحو الكرات الأخرى للاستيلاء عليها. إلاّ أن هذه النفس المسكينة لا تدري بأن الفطرة إنّما تتطلع إلى شيءٍ آخر. إن العشق الفطري الجبلّي يتجه إلى المحبوب المطلق، إن جميع الحركات الجوهرية والطبيعية والإرادية، وجميع التوجّهات القلبية والميول النفسية تتوجّه نحو جمال الجميل الأعلى على الإِطلاق، ولكنهم لا يعلمون، فينحرفون بهذا الحب والعشق والاشتياق ـ التي هي براق المعراج وأجنحة الوصول إلى وجهة هي خلاف وجهتها، فيحرّروها ويقيدوها بلا فائدة45.

* مآب المذنبين، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1 - راجع: الموسوعة الفقهية الميسرة، ص24-29(بتصرف).
2 - النساء، 64.
3 - آل عمران، 135-136.
4 - أصول الكافي، ج2، ص437.
5- مفاتيح الجنان، ص92.
6 - القاموس الفقهي، ص 275-276.
7- الصحاح، ج1، ص91-92.
8 - المكاسب، ص335.
9- الأربعون حديثاً، ص257.
10 -النور:21
11 - تحرير الوسيلة، ج 1، مسألة 5، ص470.
12 - البقرة، 173.
13 - هود، 90.
14- النور، 31.
15- المائدة، 74.
16- النساء، 17.
17 - الصحيفة السجادية، دعاءه في سحر كل ليلة من شهر رمضان.
18 - آل عمران، 135.
19 - بحار الأنوار، ج60،ص197.
20- بحار الأنوار، ج88، ص131.
21- الفرقان، 70.
22- الزمر، 35.
23 - النساء، 48 و116.
24 - هود، 52.
25 - الأعراف، 96.
26 - بحار الأنوار،ج75، ص201.
27 - الأنفال: 33.
28- بحار الأنوار، ج90، ص284.
29 - أصول الكافي، ج4، ص62.
30 - التحريم، 8.
31 - الفرقان، 70.
32 - وسائل الشيعة، ج7، ص176.
33 - الذنوب الكبيرة، ص410.
34-البقرة:160
35- نهج البلاغة، الكلمات القصار، رقم417
36- وسائل الشيعة، ج،16ص67
37- أصول الكافي، ج،2ص443
38- التحريم:8
39- مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني (نصح).
40 - أصول الكافي، ج2، ص432.
41- وسائل الشيعة، ج،2ص72
42- وسائل الشيعة، ص77
43 - إرشاد القلوب، ج1، ص45.
44-أصول الكافي، ج2، ص432.
45-الأربعون حديثاً، الحديث السادس، فصل: الإنسان بفطرته يحب الكمال التّام المطلق.

2015-11-06