يتم التحميل...

الفضائل الأخلاقية: الصدق - العدل

درب الهداية

لا بد لكل إنسانٍ تائقٍ إلى الكمال والسعادة الحقيقية أن يبحث عنهما أولاً في نفسه، فإذا وجدهما ارتاحت نفسه واطمأنت وعاشت السلام الذي تنشده وتبحث عنه على الدوام. وكمال كل نفس وقيمتها ما تختزنه من الفضائل الأخلاقية

عدد الزوار: 105

لا بد لكل إنسانٍ تائقٍ إلى الكمال والسعادة الحقيقية أن يبحث عنهما أولاً في نفسه، فإذا وجدهما ارتاحت نفسه واطمأنت وعاشت السلام الذي تنشده وتبحث عنه على الدوام. وكمال كل نفس وقيمتها ما تختزنه من الفضائل الأخلاقية والصفات الحميدة. فكلما تخلقت هذه النفس بالصفات الحميدة والأخلاق الإلهية كلما صفت وطهرت وتنوّرت، وبالتالي ارتقت في مراتب الكمال الإنساني وتدرّجت في المقامات المعنوية الرفيعة. فصفات النفس هي التي تحدد جوهر ومعدن هذه النفس، وترسم للإنسان صورة مصيره بعد أن يغادر هذا العالم وليس في جعبته سوى صورته الخلقية وما عمله من أعمالٍ في هذه الدنيا. لذا من منطلق الأهمية التي تشكّلها هذه الصفات والأخلاق لا بد للإنسان التائق إلى لقاء ربه من أن يجهد نفسه في التعرف إلى هذه الفضائل ويسعى للتخلق بها. وسنحاول في هذه الفصول أن نسلّط الضوء على بعض هذه الشمائل ونكمل ما سبق وبدأنا به عندما تحدثنا عن صفات وخصال المجاهدين الأساسية، ونذكر منها:

الصدق

الصدق هو مطابقة القول للواقع، وهو من أشرف الفضائل النفسية والمزايا الخلقية، لخصائصه الجليلة، وآثاره الهامة في حياة الفرد والمجتمع. فهو أساس الإيمان، ورمز استقامة المجتمع وصلاحه، وسبب كل نجاح ونجاة، لذلك مجّدته الشريعة الإسلامية وحرّضت عليه، قرآناً وسنة.

1ـ فضيلة الصدق:

أ- في القرآن:
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ1.

وقال عز اسمه: ﴿قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ2.

وقال عزّ وجلّ في آية أخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ3.

ب- في الروايات:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أَربع من كنَّ فيه كمل إيمانه وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوباً لم ينقصه ذلك. قال: وهو الصدق وأَداء الأمانة والحياء وحسن الخلقِ"4.

وعن عمرو بن أَبي المقدام قال: قال لي الإمام الباقر عليه السلام في أَوَّل دخْلَةٍ دخلت عليه: "تعلَّموا الصدق قبل الحديث"5.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوصيك يا عليّ في نفسك بخصال، اللَّهم أَعنه، الأولى الصِّدق ولا يخرج من فيك كذبة أَبداً" 6.

وعن أَبي جعفر ابن محمّد عليه السلام قال: "أَحسن من الصدقِ قائله وخيرٌ من الخير فاعله"7.

وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "الصدق يهدي إلى البر والبر يدعو إلى الجنة وما يزال أَحدكم يصدق حتى لا يبقى في قلبه موضع إبرة من كذب حتى يكون عند الله صادقاً"8.

جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا رسول الله ما عمل أَهل الجنة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الصِّدق. إذا صدق العبد برَّ وإذا برَّ آمن وإذا آمن دخل الجنة"9.

وعن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "قال تحرَّوا الصدق فإن رأَيتم فيه الهلكة فإن فيه النجاة"10.

وقيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أَيّ الأخلاقِ أَفضل؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "الجود والصدق"11.

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من صدق لسانه زكى عمله"12.

2- أهمية الصدق:

إن من ضرورات الحياة الاجتماعية ومقوّماتها الأصلية شيوع التفاهم والتآزر بين أفراد المجتمع الواحد، ليتمكّنوا من النهوض بأعباء الحياة، وتحقيق غاياتها وأهدافها، لينعموا بحياةٍ هانئة وكريمة، ملؤها المودة والسلام. وهذا لا يتحقق إلا بالتفاهم، والتعاون الوثيق وتبادل الثقة والائتمان بين الأفراد. ومن البديهي أن اللسان هو أحد أهم أدوات التفاهم والتواصل بين البشر، والترجمان العملي لأفكارهم وما يدور في خلدهم، فهو يلعب دوراً خطيراً في حياة المجتمع والأفراد. وعلى صدق اللسان وكذبه تبنى سعادة المجتمع وشقاؤه، فإن كان اللسان صادق القول، وأميناً في الشهادة والنقل، كان عاملاً مهماً في إرساء السلام في المجتمع، وزيادة أواصر التفاهم والتعاضد بين أفراده، وكان رائد خيرٍ ورسول محبة بين البشر. وأما إن كان متصفاً بالخداع والتزوير، والخيانة والكذب، غدا رائد شر، ومدعاةً للتباغض بين أفراد المجتمع، وسبباً لخرابه وفساده. لذا كان الصدق من ضرورات الحياة الاجتماعية والفردية لما له من انعكاساتٍ مباشرة على كل منها، فهو نظام عقد المجتمع السعيد والمسالم، ودليل استقامة أفراده والمؤكد على صحة وقوة إيمانهم. لذا كان التأكيد والحثّ الشديد في الآيات والروايات عليه، لأنه باختصار العمود الفقري لمجتمعٍ معافى وسليم من الأحقاد والتنازع، وإيمان خالص وصادق بالله.

3- أقسام الصدق:

للصدق صورٌ وأقسامٌ أبرزها:
الصدق في الأقوال: وهو الإخبار عن الشيء على حقيقته من غير تحريفٍ أو تزوير.
الصدق في الأفعال: وهو مطابقة القول الفعل، كالبر بالقسم والوفاء بالعهد.
الصدق في العزم: وهو التصميم على أفعال الخير، فإن قام بإنجازها كان صادق العزم.
الصدق في النية: وهو تطهير النية من شوائب الرياء وغيرها من الآفات، والإخلاص لله تعالى في القصد بحيث لا يكون الدافع ولا القصد سوى رضا الله والتقرب إليه.

العدل

العدل ضد الظلم، وهو مناعةٌ تردع صاحبها عن الظلم وتحفّزه على أداء الحقوق والواجبات. وهو سيد الفضائل وقوام المجتمع المتحضّر، والارتباط العميق والصحيح بالحق تعالى، وسبيل السعادة والسلام. وقد اهتمّ الإسلام اهتماماً شديداً بهذه الفضيلة وأمر بها في القرآن والسنّة:

1- فضيلة العدل:

أ- في القرآن:
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى13.
وقال عزّ اسمه: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ14.
وقال عزّ وجلّ أيضاً: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ15.
وقال عزّ وجلّ أيضاً: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى16.

ب- في الروايات:
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال أَمير المؤمنين عليه السلام: "اعرفوا الله بالله والرسول بالرسالة وأولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان"17.

وعنه عليه السلام أيضاً أنه قال: "إنّ الناس يستغنون إذا عدل بينهم، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها بإذن الله تعالى"18.

روي أن أبي عبد الله عليه السلام رأَى زاملة قد مالت فقال: "يا غلام اعدل على هذا الحمل فإن الله تعالى يحب العدل"19.

عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة"20.

وعن الإمام الصادقِ عليه السلام أَنه سئل عن صفة العدل من الرجل، فقال: "إذا غض طرفه عن المحارم ولسانه عن المآثم وكفه عن المظالم"21.

وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "عَدْلُ ساعةٍ خيرٌ من عبادة سبعين سنةً قِيامٍ ليلها وَصِيامٍ نهارها"22.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "العدل ميزان الله في الأَرض فمن أَخذه قاده إلى الجنة ومن تركه ساقه إلى النار"23.

وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "العدل رأس الإيمان وجماع الإحسان"24. وعنه عليه السلام أيضاً قال: "شيئان لا يوزن ثوابهما العفو والعدل"25.

2- أهمية العدل:

النفوس السليمة فُطرت على حب العدل وبغض الظلم. وقد أجمع البشر على مرّ التاريخ ورغم اختلاف الشرائع والمبادئ على تمجيد العدل وتقديسه والتغني بفضائله ومآثره والتفاني في سبيله. وكيف لا وهو رأس الإيمان، ومن صفات أولي الأمر، وباب البركات ودوام النّعم، وميزان الله في أرضه الذي من تمسّك به قاده إلى جنة الرضوان والنعيم؟ وهو سر حياة المجتمعات، ورمز فضائلها، وقوام مجدها، وضمان أمنها ورقيّها ورخائها. وما دالت الدول الكبرى وتلاشت الحضارات العظمى إلا بضياع العدل والاستهانة بمبدئه الأصيل ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ26. وقد كان أهل البيت عليهم السلام المثل الأعلى للعدل، وكانت أقوالهم وأفعالهم دروساً خالدة تنير للإنسانية مناهج العدل والحق والرشاد. وها هو سيّدهم أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: "والله لئن أبيت على حَسَكِ السَّعْدان27 مُسَهَّداً28، أو أُجَرَّ في الأغلال مُصَفَّداً، أحبّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيءٍ من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفسٍ يُسرِعُ إلى البِلَى قُفولُها، ويطول في الثرى حُلولُها؟"29.

3- أنواع العدل:

للعدل أشكالٌ وصورٌ متعددة، منها ما هو مرتبطٌ بالله عزّ وجلّ، ومنها ما هو مرتبطٌ بالمجتمع، ومنها ما هو مرتبطٌ بالولاية والحكم.

أ ـ عدل الإنسان مع الله عز وجل:
الذي خلق الإنسان وسوّاه وأفاض عليه من أنواع النعم والكرامات ما يعجز اللسان عن إحصائه ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَ30. ومقتضى العدل والإنصاف أن يؤدي الإنسان ما عليه من واجبات وحقوق تجاه الإله المنعم والتي تتلخص بالإيمان به، وتوحيده، والإخلاص له، والتصديق برسله وحججه على خلقه، وعبادته، وطاعته، وترك معصيته.

ب- عدل الإنسان مع المجتمع: من خلال رعاية حقوق أفراده وكفّ الأذى عنهم والإساءة إليهم، والتعاطي معهم بكرم الأخلاق، وحسن مداراتهم وحب الخير لهم، والعطف على بؤسائهم ومعوزيهم ونحو ذلك من محقّقات العدل الاجتماعي. وقد لخّص الله تعالى هذا النوع من العدل بقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون31.

ج- عدل الحكام: بما أن الحكام هم ساسة الرعية وولاة أمر الأمة فهم أجدر الناس بالعدل، وأولاهم بالتحلي به، فبعدلهم يستتّب الأمن، وتشيع المساواة، ويسود الرخاء والسلام، وبجورهم تنتكس كل الفضائل، وتغدو الأمة في قلق وحيرة وضنك وشقاء: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ32.

* درب الهداية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- الزمر، 33 - 34.
2- المائدة، 119.
3- التوبة، 119.
4- الكافي، ج2، ص99.
5- وسائل الشيعة، ج12،ص 163.
6- م.ن.
7- م.ن، ج16،ص292.
8- م.ن، ج8،ص455.
9- مستدرك الوسائل، ج8، ص457.
10- م.ن.
11- م.ن، ص458.
12- الكافي، ج2،ص 104.
13- المائدة، 8.
14- النساء، 58.
15- النحل، 90.
16- الأنعام، 152.
17- الكافي، ج1،ص85.
18- م.ن، ج3،ص568.
19- من لا يحضره الفقيه، ج2،ص292.
20- مستدرك الوسائل، ج11،ص317.
21- مستدرك الوسائل، ج11، ص317.
22- م. ن.
23- م. ن.
24- م.ن، ص319.
25- م.ن، ص320.
26- النمل، 52.
27- السعدان، نبات له حسك، أي له شوك حادّ وقاس.
28- المسهّد، الممنوع من النوم.
29- نهج البلاغة، خطبة 224.
30- إبراهيم، 34.
31- النحل، 90.
32- الزخرف، 65.

2013-12-25