طريق الارتباط بالله
درب الهداية
إذا كان الارتباط بالله سبحانه وتعالى والتوجه إليه هو هدف التشريعات السماوية وإرسال الأنبياء، والهدف الأساسي من خلق الإنسان، وإذا كانت الفطرة الإنسانية خُلقت بالأصل باحثةً عنه وطالبة له، وإذا كانت آيات الحق التكوينية وأحكامه الشرعية
عدد الزوار: 448
ما هو السبيل إلى معرفة الله والإيمان به؟
إذا كان الارتباط بالله سبحانه وتعالى والتوجه إليه هو هدف التشريعات السماوية
وإرسال الأنبياء، والهدف الأساسي من خلق الإنسان، وإذا كانت الفطرة الإنسانية خُلقت
بالأصل باحثةً عنه وطالبة له، وإذا كانت آيات الحق التكوينية وأحكامه الشرعية تهدف
بدورها إلى تحقيق هذه الرابطة بين الخالق والمخلوق، فما هو السبيل إلى ذلك؟ وما هو
الطريق الذي ينبغي لنا اتّباعه ليغدو قربنا من الله تعالى أمراً ممكناً وقابلاً
للتحقق؟
هذا السؤال جوهري وأساسي، ومن دون الإجابة عنه سيبقى الإنسان حائراً وتائهاً في هذه
الحياة. فمن غير الممكن أن يهاجر الإنسان إلى ربه وهو لا يعرف السبيل إلى ذلك. لذا
على الإنسان المخلص والصادق في طلبه أن يتعرف إلى الطريق الذي يوصل إلى الحق. والله
سبحانه وتعالى قد بيّن ذلك ولم يجعله خافياً: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾1، ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ
هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ﴾2.
معرفة النفس
لكي نجيب عن هذا السؤال علينا أن نبدأ من الطريق السهل والذي لن يكلفنا عناء البحث
كثيراً. علينا أن نبدأ من أنفسنا التي سوّاها الحق ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَ﴾3،
لأن الجاهل بنفسه بالآخرين أجهل، والعارف بها قد أُعطيَ فرصةً قلَّ نظيرها لاكتشاف
الكثير مما قد خفي عنه.
إذا رجع الإنسان قليلاً إلى هذه النفس، وأعطى لفكره وقتاً للتأمل في أعماقه،
ومحاسبة كل حياته ونشاطاته، فسوف يقف على حقيقةٍ مهمةٍ جداً تعتبر عند أهلها أساس
كل خيرٍ وراحة في هذه الحياة. سوف يدرك أنه طالبٌ لأشياء يحتاجها ويرى فيها لذةً
لنفسه أو راحةً أو منفعة. ثم إذا حاول أن يفهم سر كل حركةٍ يؤديها أو مشروعٍ يقوم
به فسوف يجد أن احتياجه وفقره هو الذي يدفعه للقيام به. فالإنسان قد فطر على أساس
الطلب والحاجة، ووجوده فقيرٌ لا ينفكّ عن السعي للغنى والطلب للقدرة. وقد عبّر
القرآن الكريم عن هذه الحالة بأروع صورة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ
الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾4، ﴿فَسَقَى
لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ
مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾5.
حقيقة الإنسان
من المؤكد أن الفقر المقصود هنا في
الآية ليس الفقر المادي، لأن بعض الناس بطبيعة الحال أغنياءٌ على المستوى المادي.
بل المراد منه شيءٌ آخر يمسّ جوهر الإنسانية وحقيقتها. فهذه الآيات الآنفة الذكر
تشير إلى أن الضعف والاحتياج هما حقيقة الإنسان ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ
عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفً﴾6.
فلو فكّر الإنسان ساعةً واحدة في نفسه وفي موجودات هذا العالم كله فسوف يكتشف أن أي
موجودٍ ليس لديه شيءٌ من نفسه، وأن كل ما حصل عليه الإنسان ووصله هو ألطافٌ ومواهب
مستعارة وهي ليست منه، سواء قبل أن يأتي إلى هذه الحياة أم خلال حياته فيها، أم حتى
بعد الممات. وإذا تأمل الإنسان في كيفية خلقه منذ أن كان طفلاً إلى أن تحين لحظة
وفاته وفكّر قليلاً في كل مرحلة وما أُعطي فيها من نِعمٍ وقوىً متنوعة من الفكر
والعقل والخيال والقلب والأعضاء والجوارح المختلفة وغيرها من النعم والألطاف، لدهش
وتحيّر لأنه في لحظةٍ من اللحظات لم يكن شيئاً مذكوراً ﴿هَلْ أَتَى عَلَى
الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورً﴾7
ثم أتى من
أفاض عليه الحياة والروح ووهبه من ألوان النعم التي تبهر العقول وسخّر له كل هذا
الوجود. فالإنسان إذاً في الأصل لا يملك شيئاً، فمن تراه يكون المالك الحقيقي
والرازق والمعطي!؟ ﴿وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾8، ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم
مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ
الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾9.
فالأمور كلها بيد الله وليس للإنسان من حولٍ وقوة إلا به، وهذا عين الضعف والعجز:
﴿يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ
لِلَّهِ﴾10، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾11،
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ
قُوَّةً﴾12.
سبيل الله بالتفكر والطاعة
من هنا كان الارتباط بالحق تعالى مطلب كل إنسان لأنه لن يجد أغنى منه ولا أكمل ولا
أقدر، ومطلب الحق أيضاً لأنه يريد الخير لعباده والنفع لهم، وهو يعلم أن ما يبحث
عنه الإنسان موجود عنده فقط، وليس سواه تعالى من يستطيع تأمين احتياجات الإنسان وحل
مشاكله. لذا يقول الإمام الخميني قدس سره: "إن ما يطمئن الجميع ويخمد نيران النفس
المتمردة ويحدّ من إلحاحها واستزادتها في الطلب، إنما هو الوصول إليه تعالى، والذكر
الحقيقي له جل وعلا"13.
فالطريق الوحيد لخروج الإنسان من عجزه وضعفه هو بالتوجّه الى الغني الذي لا يفتقر،
والكمال الذي لا نقص فيه على الإطلاق، وطلب العون والمدد منه. وهذا الالتجاء لا
يتحقّق إلا بالطاعة والتفكر، لأن حضور الحق في حياتنا وتوجّهنا إليه ينبغي أن يتحقق
على المستويين:
الفكري: من خلال التفكّر في آياته. لأنه
بالتفكّر ينبّه الإنسان عقله وقلبه ويحملهما إلى حيث يدنوان أكثر فأكثر من الباري
عز وجل، من خلال التفكر في صفاته وأفعاله، وفي روائع صنعه وإتقانه: ﴿الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ
فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾14، ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ﴾15. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "أفضل العبادة إدمان التفكر
في الله وفي قدرته"16، وعن رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "فِكْرُ ساعةٍ
خيرٌ من عبادة سنة"17.
العملي: من خلال الطاعة والتقوى. فالطاعة بما
تعنيه من الالتزام والانقياد لأحكام الله تعالى، والتقوى بما تعنيه من وقاية النفس
من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه، هما البرنامج العملي الذي ينبغي العمل
به واتّباعه للقاء الحق والتقرّب إليه. لأن الإنسان عندما يرى كمالاً ما في موجودٍ
فسوف يتوجه إليه، وسيترجم توجهه هذا بالخضوع والطاعة له، والابتعاد عن كل ما يخالف
إرادته، لأنه يأمل بذلك أن ينعم عليه بما يسدّ به عوزه ويرفع عنه نقصه. وهذا هو
السبيل الأوضح والطريق الأوحد لنيل السعادة الأخروية والكمال الإنساني. فمقتضى
الفقر والعجز هو طاعة الغني والكامل والمقتدر، ولهذا السبب أمر الله الناس بطاعته:
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ *وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُون
َ* أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ﴾18، حتى جعل عبادته تعالى هدف الخلقة والإيجاد
فقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾19، وقال عز اسمه:
﴿وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ
فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾20.
طاعة الله بالعلم والتعلم
طاعة الله عز وجل لا تتحقق إلا
بمعرفة أوامره ونواهيه ومن ثم العمل على تطبيقها. فعن الإمام الصادق عليه السلام
قال: "وجدت عِلْمَ النّاس كلَّهُ في أربَعٍ: أولها أن تعرف ربّك، والثّاني أن تعرف
ما صنع بك، والثّالث أن تعرف ما أراد منك، والرّابع أن تعرف ما يخرِجُكَ من
دينك"21.
فمن يُرد طاعة الله عليه أولاً أن يعرف ما يريده منه. ومعرفة ما يريده تتحقق
بالرجوع إلى أحكامه وقوانينه، وأوامره ونواهيه المتمثّلة بشريعته، فيلتزم بها ويقوم
بتطبيقها حتى تسري هذه الشريعة في كل تفاصيل حياته، فتصبح حياته عامرةً بطاعات الله
وقرباته، فلا يغفل عنها طرفة عينٍ أبداً، فيستحق عندها أن يكون من "المتقين"، وهم
قومٌ اشتدت طاعتهم لله وحذرهم من مخالفة أوامره إلى الحد الذي باتت حياتهم كلها
عبادة، فغدوا محبوبين عند الحق، ومن أوليائه المقرّبين: ﴿بَلَى مَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾22، ﴿إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ
إِلاَّ الْمُتَّقُونَ﴾23. وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"إعمل بفرائض
الله تكن أتقى الناس"24. وفي الحديث القدسي قال الله تبارك وتعالى:
"ما تحبب إليّ
عبدي بأحب مما افترضت عليه"25.
ومن هنا أيضاً تبرز أهمية طلب العلم كوسيلةٍ مهمة لمعرفة أحكام الله، وفرصةٍ شريفة
للتفكّر في آياته أيضاً. فالإسلام يمثّل مجموعةً كبيرةً من التعاليم التي تفسّر لنا
هذا الوجود وظواهره، وتجيب عن الأسئلة المصيرية التي تقلق الإنسان وتتعلّق بمصيره،
ويتضمّن أيضاً مجموعةً كبيرة من الأحكام الشرعية التي تدلّه على كيفية العمل
والتصرف في كل شأنٍ من شؤون حياته سواء مع الحق أم مع الخلق. لذا كان طلب العلم
واجباً على كل مسلم ومسلمة كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "طلب
العلم فريضة على كل مسلم. ألا إن الله يحبّ بغاة العلم"26، لأنه لا يمكن أن تصحّ
عبادةٌ وطاعة من دون معرفة، والمعرفة لا تتحقّق إلا بطلب العلم. عن الإمام الكاظم
عليه السلام قال: "نُصِبَ الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم
والعلم بالتعلم"27. فطلب العلم هو السبيل الوحيد للتعرف إلى أحكام الحق الشرعية،
ومقدمةٌ لتحصيل الواجبات وترك المحرمات، وفي نفس الوقت بابٌ مهمٌّ جداً للتفكر في
آياته الآفاقية والأنفسية. وهذه المعرفة هي المدخلية الصالحة التي تخوّل الإنسان
الدخول في سلك المطيعين والعابدين والمتفكرين، وبالتالي الارتباط الحقيقي بالله
سبحانه وتعالى.
* درب الهداية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- طه، 50.
2- التوبة، 115.
3- الشمس، 7.
4- فاطر، 15.
5- القصص، 24.
6- النساء، 28.
7- الدهر، 1.
8- المائدة، 17.
9- يونس، 31.
10- آل عمران، 154.
11- الذاريات، 58.
12- فصّلت، 15 .
13- وصايا عرفانية، ص 21.
14- آل عمران، 191.
15- الجاثية، 13.
16- الكافي، ج2، ص 55.
17- مستدك الوسائل، ج2، ص 105.
18- الشعراء، 131 الى 133.
19- الذاريات، 56.
20- هود، 123.
21- أصول الكافي، ج1،ص50.
22-آل عمران، 76.
23-الأنفال، 34.
24- أصول الكافي، ج2، ص 109، ح4.
25- م.ن، ح5.
26- م.ن، ج 1، ص 30.
27- م.ن، ص 17.