مواقف وصفات الأصحاب في كربلاء
درب الهداية
هم أصحاب سيّد الشهداء الأوفياء، الذين عزموا على الاستشهاد معه، وكانوا نموذجاً بارزاً للإيمان والشجاعة والتضحية. ولهم من الفضل في المحافظة على السلام والدِّين، ما لا تتّسع هذه الأوراق لبيانه.
عدد الزوار: 119
مقدّمة
هم أصحاب سيّد الشهداء الأوفياء، الذين عزموا على الاستشهاد معه، وكانوا نموذجاً
بارزاً للإيمان والشجاعة والتضحية. ولهم من الفضل في المحافظة على السلام والدِّين،
ما لا تتّسع هذه الأوراق لبيانه.
وقد وردت روايات وأخبار كثيرة في خصالهم وشمائلهم حتى حازوا درجة الصحبة للإمام
الحسين عليه السلام, فقد ورد عنه عليه السلام حين خطب في أصحابه ليلة عاشوراء، وقال
ضمن ما قال: "أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا
أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي"1.
وكان أن خاطبهم الإمام الصادق عليه السلام وغيره من الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين
بالقول: "بأبي أنتم وأمي"، لما لهم من منازل الشرف ودرجاته، ما ربما لم يحصل عليه
أحد من الحواريّين من قبل.
فالطاعة والتضحية والحبّ والصبر والإيثار، هذه الصفات التي أبدوها يوم عاشوراء، لم
نر مثيلاً لها من أيّ واحد من الحواريّين. وحيث إنّ عظمة العظماء تتجلّى وتظهر في
الأزمات والصعوبات، فقد ظهر من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في أصعب المواقف ما
لم يظهر من غيرهم أبداً. وفيما يلي نستعرض نبذة من أبرز مواقف وصفات بعض أصحاب
الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.
زهير بن القين، والطاعة الخالصة للإمام عليه السلام
1- اللقاء بالإمام عليه السلام:
في الطريق إلى كربلاء كان اللقاء، وكأنّهما على موعد، الإمام الحسين
عليه السلام متوجّه إلى الكوفة استجابة لطلب أهلها في مواجهته الظلم الأموي
المتسلّط على رقاب المسلمين، وزهير بن القين ومعه جماعة من أصحابه في تلك البيداء.
جمعتهما هناك الحاجة إلى الماء، لكي يكمل كلّ منهما طريقه المحدّد قبل اللقاء. ذلك
اللقاء الذي حصلَ من غير تحضير مسبق، غيَّر من اتجاه السير عند زهير بن القين، بل
أبدل نمط حياته العادي بنمط آخر بعيد عمّا كان يخطر على باله أو تهفو إليه نفسه قبل
ذلك.
لم يكن زهير في مجريات حياته العادية قريباً من الحسين عليه السلام وأهل البيت
عليهم السلام عموماً، كما تذكر المصادر التاريخية، بل كان أقرب إلى عثمان في
المودّة، ولهذا كان يكره أن يجتمع مع الإمام عليه السلام في مكان واحد، حتى في ذلك
المكان الذي التقيا فيه لم يشأ زهير إجابة الدعوة التي وجّهها إليه الإمام عليه
السلام عبر رسول خاص، ولولا تشجيع زوجته لما أجاب الدعوة ولبَّى.
2- بداية التحوّل:
ما الذي حصل عندما اجتمع مع الإمام عليه السلام حتى صار مريداً ومحبّاً
ووليّاً وناصراً، بشكل أثار الاستغراب ممّن كانوا في صحبته، إذ كيف يتحوّل إنسان
بمثل هذه السرعة ويبدّل موقفه؟ لكنّه سرعان ما أجاب عن تساؤلاتهم واستغرابهم بقوله:
"غزونا بلنجر، ففتحنا وأصبنا الغنائم وفرحنا بذلك، ولمّا رأى سلمان الفارسي ما نحن
فيه من السرور، قال: "إذا أدركتم سيد شباب آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فكونوا
أشدّ فرحاً بقتالكم معه بما أصبتم من الغنائم"2. ثمّ استودع أصحابه
وزوجته، فقالت له: "خار الله لك، وأسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جدّ الحسين عليه
السلام". وممّا لا شكّ فيه أنّ سلمان رضي الله عنه لا ينطق عبثاً أو لغواً، بل هذا
ممّا تلقّاه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وزهير
يعرف ذلك جيّداً للمكانة القريبة التي كانت لسلمان عند النبيّ صلى الله عليه وآله
وسلم وهو المقول فيه: "سلمان منَّا أهل البيت"3. وبذلك أدرك زهير رضي
الله عنه أنّ الحقّ مع الحسين عليه السلام فلا يعدوه، ولا يمكن للإمام عليه السلام
إلَّا أن يكون مع الحقّ كما كان أبوه عليه السلام كذلك، كيف لا، وهو ربيب النبوّة
وسبط النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؟
3- نصرة دين الحقّ:
لم يكن عند زهير شكّ بأنّ الذين هم في الموقع المقابل للإمام الحسين
عليه السلام هم أهل الضلال والباطل والنفاق، وهو الذي يعلم من هو يزيد وابن من،
ويعلم ما هي الصفات القبيحة واللئيمة المجتمعة في ذلك الشخص، الذي يحمل حقد آبائه
وأجداده، الذين أنزلهم السلام وأسقطهم عن زعامتهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
لقد أدرك زهير أن المسألة المتنازع عليها لم تعد مسألة من يحكم أو لا يحكم، بل
المسألة أصبحت متعلّقة ببقاء نفس السلام كدين والمسلمين كأمّة موحَّدة، ولم تعد
الأمور قابلة لأن يقف الانسان عند الآراء الشخصيّة والمواقف المتشنّجة. قد يتمكّن
من خلال التفكير الهادىء والعقلانية الواضحة أن يرى الفارق بين المسألة المبدئية
والمسألة الشخصيّة، ويقدّم ما هو الأهم والأخطر في نظره، ولهذا سرعان ما فكَّر
واتَّخذ القرار ليكون الى جانب الامام الحسين عليه السلام رفيقاً له في الدرب
والشهادة.
4- الموقف المشرّف:
إنّ ذلك الموقف المشرّف من زهير لجدير بالمسلمين أن يقرؤوه بوضوح،
ويتأمّلوا فيه برويَّة وتبصّر، لأنّه موقف الإنسان الذي لا يترك القضايا الصغيرة
تأكل في نفسه، بل تُحرِّكه المواقف الكبيرة، ولا يُمكّن آراءه الخاصّة في بعض
المسائل والقضايا من أن تسيطر على قلبه وعقله لتمنعه من الوقوف إلى جانب الحقّ
وأهله، وهو يعلم تمام العلم من هو الإمام الحسين عليه السلام وماذا يُمثّل عند الله
وفي السلام, فكيف يترك تلك الفرصة في أن يكون إلى جانبه دفاعاً عن الدِّين وعن
الأمّة التي يتحكَّم فيها الدعيّ ابن الدعيّ يزيد بن معاوية؟! ولم يكن هذا الموقف
هو الوحيد من زهير، بل عمل يوم المعركة على إرشاد وهداية أولئك الضآلين الخارجين
لقتال الإمام عليه السلام, لعلَّ كلامه وموعظته يؤثّران فيهم ويردعانهم عن غيّهم
وضلالتهم، ويعيدانهم إلى جادّة الحقّ والصواب، فوقف أمام ذلك الجيش رافعاً صوته: "إنّ
الله قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لينظر ما نحن
وأنتم عاملون، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد, فإنّكم لا
تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كلّه إلّا ليسمّلان أعينكم ويقطعان أيديكم
وأرجلكم ويمثّلان بكم ويرفعانكم على جذوع النخل"4، فما كان من أولئك
الذين أعمى النفاق قلوبهم إلَّا أن سبُّوه وشتموه وامتدحوا عبيد الله بن زياد، إلّا
أنّه أجابهم: "عباد الله، إنّ ولد فاطمة رضوان الله عليها أحقّ بالودّ والنصر من
ابن سميّة، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين
ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري إنّ يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين. فرماه
شمر بن ذي الجوشن بسهم، وقال: اسكت، أسكت الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك. فقال له
زهير: يا ابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك أخاطب، إنّما أنت بهيمة، والله ما أظنّك
تُحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم. فقال له شمر:
إنّ الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.
قال: أفبالموت تخوّفني؟! فواللهِ، لَلموت معه أحبّ إليّ من الخلد معكم. ثمّ أقبل
على الناس رافعاً صوته، فقال: عباد الله، لا يغرّنّكم من دينكم هذا الجلف الجافي
وأشباهه, فوالله لا تنال شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم قوماً هراقوا دماء
ذريّته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم، وذبّ عن حريمهم"5.
5- الطاعة والانقياد حتى الشهادة:
إلَّا أنّ الإمام عليه السلام عندما رأى من أجوبة القوم لزهير ـ وهو
يدعوهم إلى الهدى ـ أنّها لن تردّهم عن الردى، أرسل بطلبه للعودة إلى المعسكر، وقال
عليه السلام مع من بعثه لإعادته: "إنّ أبا عبد الله يقول لك: أقبل، فلعمري لئن كان
مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح
والإبلاغ"6. وبذلك ذاب زهير بن القين في حبّ الحسين عليه السلام بعد أن
أزال من أمام ناظريه الغشاوة التي كانت تقف بينه وبين كونه مع الحقّ وأهله، مع أهل
البيت عليهم السلام . ونرى هذا واضحاً عندما استأذن الإمام عليه السلام لقتال القوم،
فأجابه الإمام عليه السلام حينها جواب من يريد تثبيت توجّهه وقراره، فقال له: "وأنا
ألقاهما على إثرك". فقاتل حتى سقط شهيداً مضرّجاً بدمه، فوقف الإمام عليه السلام
عند جسده، وقال: "لا يبعدنّك الله يا زهير، ولعن الله قاتلك لعن الذين مُسخوا قردة
وخنازير"7.
وهكذا علّمنا زهير بشهادته أنّ الإنسان قادر في اللحظات التي تحتاج إلى اتخاذ
القرار الجريء، أن يكون مع الحق بأن لا يجعل للشبهات طريقاً إلى قلبه وعقله،
لتمنعه من أن يكون مع الحقّ وأهله، فرحم الله زهيراً، وجزاه خير جزاء المحسنين.
حبيب بن مظاهر والحبّ الخالص للإمام عليه السلام
1- الشيخ الجندي:
حبيب بن مظاهر، من وجوه أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ومحبّيه
ومريديه. تفانى في خدمة أهل البيت عليهم السلام, ووقف المواقف الرساليّة التي تُخبر
عن كونه ثابت الجنان، رابط الجأش، قويّاً في دينه وعقيدته. لم يمنعه كِبَرُ السنّ
من أن يكون جنديّاً من جنود كربلاء، وشهيداً من شهدائها الكبار. تميَّز بصفاء
الإيمان، وشدَّة الحبّ والولاء لأهل البيت عليهم السلام, ووضوح الرؤية التي تجلَّت
في مواقفه الكربلائية المتعدّدة النابعة من وعيه وفهمه وإخلاصه، سعياً لتحصيل رضوان
الله من الباب الذي يُحبّ الله دخول المؤمن إليه منه، وهو "باب الشهادة الحمراء"
التي تحتاج إلى التسديد الإلهي والتوفيق الربّاني.
2- أوّل المبايعين والدّاعين لنصرة الإمام عليه السلام:
لقد كان من أوائل الذين بايعوا مسلم بن عقيل، عندما ورد الكوفة لأخذ
البيعة لنصرة الحسين عليه السلام, وكان ذلك في دار المختار، وأعلن الولاء والطاعة
لسبط النبيّ
المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم مع أنّ حبيباً لم يكن بحاجة لأن يبايع لإثبات
ولائه، إلَّا أنّه أراد أن يُشجّع الآخرين من خلال ذلك، وليُفرح قلب الإمام الحسين
عليه السلام بأنّه ما زال على العهد والطاعة، وما زال المحبّ والناصر لآل البيت
عليهم السلام . وحبيب لم يكتفِ بأن يكون وحده من قومه مع الإمام عليه السلام, بل
سعى إلى استثارتهم ليكونوا إلى جانبه أيضاً لحشد الأنصار والمؤيّدين، لعلمه بأنّ
هذه الفرصة لن تتاح ثانية، للقتال مع صفوة الله من خلقه في الأرض. وتمكّن من ذلك
أيضاً إلَّا أن الخيانة والنفاق لم يسمحا له بالنجاح في ذلك المسعى الخيّر الذي كان
يهدف إليه, فرجع إلى الإمام عليه السلام, وأخبره بما جرى معه مع قومه، فقال عليه
السلام عند ذلك: "لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله".
3- المواسي لحرائر الرسول:
ومن المواقف المشرّفة جدّاً لحبيب رضوان الله تعالى عليه موقفه في ليلة
العاشر من المحرَّم، حيث دخل الإمام الحسين عليه السلام على أخته العقيلة زينب
عليها السلام، وكان نافع منتظراً له خارج الخيمة، فسمع العقيلة تقول للإمام عليه
السلام: "هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى أن يسلموك عند الوثبة" فقال لها
الحسين عليه السلام: "والله، لقد بلوتهم، فما وجدت فيهم إلَّا الأشوس الأقعس،
يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب أمّه"8.
لقد أبكى ذلك الحوار بينهما نافعاً، وسرعان ما هرع إلى حبيب دون غيره، ليُطلعه على
ذلك، ولينظر فيما ينبغي أن يفعلا ليُطمئنا قلب زينب عليها السلام وقلوب نساء آل
البيت عليهم السلام القَلِقات من الحالة، والخائفات من أن يبقى الحسين عليه السلام
وحيداً في الميدان. وسرعان ما تفتَّق ذِهنَاهُما عن أمرٍ فيه لله رضا وللنبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم المواساة، ولزينب عليها السلام وللنساء إذهاب لخوفهنَّ وقلقهنَّ،
فاندفع حبيب ينادي: "يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة"، فخرج الأصحاب من خيامهم،
وقال لهم ما أخبره به نافع، ثمّ عقّب بقوله: "هلمُّوا معي، لنواجه النسوة ونُطيّب
خاطرهنَّ"، فساروا جميعاً حتى وصلوا إلى خيم أهل البيت عليهم السلام, وصاح حبيب:
"السلام
عليكم يا معشر حرم رسول الله صلى الله عليه وآله، هذه صوارم فتيانكم آلوا أن لا
يغمدوها إلا في رقاب من يبتغي السوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم آلوا أن لا يركزوها
إلا في صدور من يفرّق بين ناديكم"9. عند ذلك خرجن النسوة من حجورهن،
وقلن لأولئك الأنصار المحبّين الموالين: "حاموا عن بنات رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وحرائر أمير المؤمنين عليه السلام". وضجَّ الجميع ساعتئذٍ بالبكاء على
المصاب الجلل الذي هم مقبلون عليه.
إنّ ذلك الموقف الرسالي المعبّر عن قمّة الحبّ والولاء للمصطفى صلى الله عليه وآله
وسلم وأهل بيته عليهم السلام, هو مفخرة لذلك الإنسان الصابر المواسي، الذي عاش
الصفاء والإخلاص والوفاء، فلم يهدأ ولم يسكن حتى أدخل الطمأنينة إلى قلوب نسوة أهل
البيت عليهم السلام, لعلمه بأنّ في هذا الأمر رضا لله عزَّ وجلَّ ومواساة للزهراء
عليها السلام في الفاجعة العظمى.
4- الشهادة ليست حكراً على الكبار:
أمّا عن عشقه للشهادة، فهذا الموقف الرائع ممّا لا يجد الإنسان وصفاً
يُعبّر به عن حالة العشق التي كانت تحملها تلك النفس الكبيرة التوَّاقة لسفك دمها
على يد أخبث الخلق، لتحقيق مرضاة الله عزَّ وجلَّ. وكيف لا يعشق الشهادة وهو الذائب
في حبّ وعشق أهل البيت عليهم السلام الذين لا يُمكن إلَّا أن يكونوا جزءاً لا
يتجزّأ من العشق الإيماني بالله سبحانه وتعالى؟ وقد عبَّر حبيب عمّا كان يختلج من
ذلك في صدره، في مناسبات متعدّدة أثناء وجوده في كربلاء، فتارة يقول لنافع: "والله
لولا انتظار أمره الإمام عليه السلام لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة"، وأخرى يقول
ممازحاً وضاحكاً: "وأيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا؟ وما هو إلَّا أن يميل علينا
هؤلاء بأسيافهم، فنعانق الحور", مجيباً بذلك أحد أصحابه الذي تعجّب من ضحك حبيب في
الوقت الذي ينبغي أن تكون الأنفاس فيه محبوسة والأفكار فيه مضطربة ومشوَّشة
والأعصاب مشدودة، بينما نجد أنّ حبيباً متشوّق إلى تلك اللحظة التي تتقارع فيها
السيوف لتخترق جسده ولترتفع روحه التي لم تعد تُطيق البقاء في هذه الدنيا، بل تريد
الانطلاق إلى الله عن طريق الشهادة بين يدي الحسين عليه السلام, لتشكر تلك الروح
خالقها على ما وفَّقها من السعادة الأبديَّة للقتال بين يدي سيّد شباب أهل الجنّة.
فحبيب ـ على كِبَرهِ في السن ـ لم يترك فرصة الوصول إلى الشهادة تمرّ دون أن يستفيد
منها، لكي يرتحل إلى الله شهيداً مخضَّباً بدمائه، مع أنّه عاش حياته مؤمناً ملتزماً
وفيّاً لدينه وإمامه, لأنّ السعي للجهاد والشهادة لا يحتكرهما الشباب المجاهدون، بل
السلام فتح الأبواب للشهادة، في أيّ مرحلة من مراحل العمر، طالما أنّ العروق تنبض
بالدم، والأجساد تُحرّكها الأرواح المؤمنة الحرَّة من كل استعباد لطواغيت الأرض
وشياطين الإنس والجان.
"جون" والإحسان الخالص للإمام عليه السلام
1- "جون" المحسن:
في كربلاء الحسين عليه السلام صار كل شهيد من شهدائها معلّماً كبيراً،
ورمزاً من الرموز، لأنّ كلّ واحد منهم كان جزءاً لا يتجزّأ من تلك الثورة الرسالية،
التي صارت رمزاً أكبر لكلّ الثورات والمجاهدين إلى اليوم، وحتى قيام الساعة. ومن
أولئك الشهداء الذين ارتفعوا بالسلام إلى المقامات العالية واستحقّوا درجة الشهادة
عن أهليّة وجدارة، لأنّهم انتصروا على كل عوامل النقص وارتبطوا بالله العظيم،
فعرفوا من خلال ذلك أنفسهم، ولو كان الآخرون لم يستطيعوا أن يفهموا منطقهم الذي هو
منطق السلام الإلهي، من أولئك الشهداء العبد "جون" الذي كان في خدمة الإمام الحسين
عليه السلام, يأكل من طعامه ويشرب من شرابه، ذلك الانسان الذي رافق الحسين عليه
السلام فاكتسب منه، وعاش من خلال ذلك في حالة من المحبّة والصدق والوفاء لأهل البيت
عليهم السلام, ما لم يتحقّق في الكثيرين ممّن كانوا يزعمون الانتماء إلى ذلك الخطّ
والنهج.
إنّه نموذج للإنسان الذي قابل المعاملة الحسنة من الإمام عليه السلام بالإحسان،
فعبّر بذلك عن نفس كبيرة لا تعرف اللؤم أو الجحود، فلم يتمرّد ولم يتردّد في نصرة
الإمام
الحسين عليه السلام, عندما رأى أنّ الظرف هو أنسب الظروف الممكنة لكي يُعبّر عمّا
كان يجيش في صدره من مشاعر الحبّ والمودّة، بعكس الكثير من الساقطين الذين استسلموا
للخوف الذي سيطر على نفوسهم قبل أن تصل الأمور إلى مستوى سفك الدماء وسقوط الشهداء،
فعبَّروا بذلك عن شخصيّاتهم المهزوزة والضعيفة، بينما ذلك الإنسان الذي لم يكن أحد
يحسب له حساباً لكونه عبداً مملوكاً بنظرهم، يكشف بوقفته المميّزة في كربلاء عن نفسٍ
قويّة واثقة تعيش الطمأنينة والثبات، وما ذلك إلَّا بفضل السلام وبركات الإمام
الحسين عليه السلام التي كان يُعاينها هذا الخادم المخلص والأمين.
2- الثبات والإقدام:
لقد رأى "جون" الدماء وهي تسيل حمراء قانية من أجساد أصحاب الإمام
الحسين عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام, فكان كلُّ شهيد يسقط يزيده إصراراً كما
يتضح من كلماته التي قالها للإمام عليه السلام, فلقد شكَّلت تلك الدماء دافعاً
وحافزاً قويّاً للبذل والعطاء. وهكذا وقف "جون" ذلك الموقف المشرّف في كربلاء،
ليصبح في مصاف الشهداء العظام مع الحسين الشهيد عليه السلام، وليكون رفيقه في عالم
الآخرة في جنان الخلد. وقيمة موقفه وعظمته نابعة من أنّه كان بمقدوره أن يُنقذ نفسه
من القتل، وحجّته ودليله معه، فهو عبد لمولاه، وما للعبيد وللقتال؟ فهم مخلوقون
للخدمة والقيام بالأعمال التي لا يقوم بها السادة والأحرار، وبالتالي لن يقيم له
الجيش الأموي وزناً، إلَّا أنّه مع كلّ تلك المبرّرات ثبت وأقدم طائعاً مختاراً،
وهو يرى أشراف القوم أصحاب الحسين عليه السلام وأهل بيته يسقطون شهداء على أرض
الصحراء اللاهبة، فلماذا يفوّت على نفسه الفرصة النادرة التي لن تتكرّر بنفس الظروف
ومع نفس الأشخاص من ذلك الوزن النادر ليكون رفيق دربهم في الآخرة؟
3- الصدق والوفاء حتى الشهادة:
وبتلك الروحية، تقدّم من الإمام الحسين عليه السلام يستأذنه النزول إلى
الميدان لقتال ذلك الجيش. إلَّا أنّ الإمام عليه السلام يردّه ردّاً لطيفاً مليئاً
بالحبّ والحنان والتقدير، قائلاً له: "يا جون، إنّما تبعتنا للعافية، فأنت في إذن
منّي"، فوقع جون على قدميه يُقبّلهما، ويقول: " يا ابن رسول الله، أنا في الرخاء
ألحس قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم؟! والله، إنّ ريحي لمنتن، وإنّ حسبي للئيم، ولوني
لأسود، فتنفّس عليّ بالجنّة، فتطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضّ وجهي، لا والله لا
أُفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم"10. عند ذلك سمح له
الإمام عليه السلام بالقتال، فما هي إلَّا برهة حتّى سقط شهيداً مضرّجاً بدمه فداءً
لدين الله وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وضرب بذلك مثلاً للوفاء والصدق
وتفوَّق على كل أولئك الذين تخلَّفوا عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام وهم يزعمون
أنّهم من أشراف المسلمين وعليّة القوم، بل ويزايدون على الآخرين بسبب بعض
الاعتبارات الواهية التي أسقطتها دماء "جون" في كربلاء.
"الحرّ" قصّة توبة وشهادة
1- الضمير الحيّ:
إنّه الضمير الإنساني الذي يثور مجدّداً، ويتّقد عند تعاظم الجرائم
وتفاقم الجرائر، إنّه الضمير الإنساني الحيّ، الذي صحا من ثبات الغفلة وغشاوتها،
لينصر دين الحقّ وأولياءه قبل فوات الأوان، وليختم درب حياته بشرف الشهادة العزيز.
إنّه الحرّ الرياحي الذي مثّل عنوان التوبة والرجوع إلى جادّة الصواب. إنّه ذلك
الرجل الضرغام، المعروف بشجاعته وإقدامه، الذي أسراه عبيد الله بن زياد في ألف فارس
إلى الإمام الحسين عليه السلام عندما بلغه خبر نزوله عليه السلام الرهيمة، فأجحف في
حقّ أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأوا منه الظلم والجور، ولكنّه ما
إن بان له الحقّ وأهله حتّى اندفع نحو إمام زمانه منيباً تائباً.
2- التوبة النصوح:
فالحرّ بن يزيد الرياحي، لمّا رأى أنّ القوم قد صمّموا على قتال الإمام
الحسين عليه السلام, قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي، شوهد فجأة وهو
يرتعد وقد تغيّر حاله، حتى ظنّ الناس أنّه يهاب الحرب. إلّا أنّ الحرّ أخبر الناس
من حوله أنّه ما خشي الحرب يوماً، ولكنّه صار على مفترق طريق الجنّة والنار، وأنّه
يرى نفسه مخيّراً بينهما، ولا يدري ما يصنع، أيسلك هذا الطريق أم ذاك؟! إلى أن حسم
الحرّ أمره واتّخذ قراره النهائي، بأن يسلك طريق الجنّة، فتنحّى بفرسه عن القوم،
وهم في غفلة عمّا أضمر وما هو عاقد العزم عليه، حتى بلغ موقعاً يتعذّر عليهم ردعه
عن التقدّم، فضرب فرسه، وجاز عسكر عمر بن سعد إلى معسكر الإمام الحسين عليه السلام,
وقد قلب درعه إعلاناً عن أنّه ما أتاهم محارباً، بل طالباً الأمان. حتى وقف بين يدي
الإمام الحسين عليه السلام, وقال: "اللهمّ، إليك أنيب فتب علي, فقد أرعبت قلوب
أوليائك وأولاد نبيّك، يا ابن رسول الله، هل لي من توبة؟ قال: نعم، تاب الله عليك"11.
3- الحياء ولحظات الشهادة:
وقبول الإمام الحسين عليه السلام لتوبة الحرّ يكشف لنا عن بعض جوانب
وأهداف حركة الإمام الحسين عليه السلام, وهو فسح المجال أمام الناس للرجوع مجدّداً
إلى جادّة الحقّ وصراط الله المستقيم. فالإمام لم يبادر بالأصل إلى هذه الحركة إلا
طلباً لهداية الناس وإصلاح حالهم، لذا فإنّه كان سيقبل التوبة من عسكر ابن سعد
جميعاً لو أرادوا التوبة بحقّ، لذا فإنّ الحرّ ما إن سمع جواب الإمام الحسين عليه
السلام حتى تنفّس الصعداء، واستبشر بحسن العاقبة بعد طول تردّد ومجاهدة. وللهفته
ومسارعته إلى جبران ما قد بدر منه استأذن الحرّ الإمام عليه السلام مباشرة لقتال
جيش عمر بن سعد دون تردّد أو تأخير. وعبثاً حاول الإمام استمهاله ليمكث قليلاً ثم
يمضي لمقصده، إلَّا أنّ الحرّ لم يصبر على المكوث لحظة واحدة ورجّح أن يأذن له
الإمام عليه السلام بالانصراف، فقد تمكّن منه الخجل وغلبه الحياء، لِمَ تسبّب به من
إرعاب لقلوب أولياء الله وأولاد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يحتمل أن يبقى
لحظة واحدة في مجلس الحسين بن علي عليهما السلام, فمضى وما هنأ عيشه حتى رأى نفسه
في محضر الإمام عليه السلام وبه رمق من الحياة والإمام عليه السلام يمسح التراب عن
وجهه، ويقول: "أنت الحرّ كما سمّتك اُمّك، وأنت الحرُّ في الدنيا، وأنت الحرّ في
الآخرة"12.
* درب الهداية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الإرشاد، ج2، ص91.
2- أعيان الشيعة، ج32، ص71.
3- الاختصاص، ص341.
4- تاريخ الطبري، ج4، ص324.
5- تاريخ الطبري، ج4، ص324.
6- م.ن.
7- أعيان الشيعة، ج7، ص72.
8- المجالس الفاخرة في مصائب العترة الطاهرة، ص231.
9- م.ن.
10- بحار الأنوار، ج45، ص22.
11- بحار الأنوار، ج45، ص314.
12- بحار الأنوار، ج44، ص324.