ضرورة القانون والحكومة
أبحاث في الولاية
القانون عبارة عن مجموعة من المقرّرات التي تشتمل على الواجبات والممنوعات (ما ينبغي وما لا ينبغي)، وهذه المقرّرات هي التي تحدِّد حركة الإنسان في المجتمع الذي يعيش فيه، ولأجل إثبات ضرورة وجود قانون للمجتمع
عدد الزوار: 235
ضرورة وجود القانون للمجتمع
القانون عبارة عن مجموعة من المقرّرات التي تشتمل على الواجبات والممنوعات (ما
ينبغي وما لا ينبغي)، وهذه المقرّرات هي التي تحدِّد حركة الإنسان في المجتمع الذي
يعيش فيه، ولأجل إثبات ضرورة وجود قانون للمجتمع نذكر دليلاً مؤلَّفاً من مقدّمتين:
المقدِّمة الأولى: الحاجة إلى الحياة الاجتماعية:
إنّ الإنسان لا يستغني في حياته عن المجتمع، والدليل على ذلك هو: إنّ الدافع
العقلائي الاختياري للإنسان لانتخاب الحياة الاجتماعيّة يرجع إلى ملاحظة المنافع
التي ترجع إليه، فهو يرى أنّ مجموعة من احتياجاته المادّيّة والمعنويّة تتوقّف على
الحياة الاجتماعيّة، وبدون المجتمع لا يمكن للإنسان تأمين هذه المنافع، أو إنّها
تكون ناقصة غير تامّة، وهذا أمر بديهيّ لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح.
المقدِّمة الثانية: وجود التضاد بين مصالح أفراد المجتمع:
إنّ من لوازم الحياة الاجتماعيّة وجود التضارب والتضاد بين مصالح أفراد المجتمع، أي
إنّ الناس في حياتهم الاجتماعيّة، ومن خلال التعاون وتقسيم الوظائف فيما بينهم، يقع
التضارب بين منافع بعضهم بعضاً، فبعضهم يسعى إلى تحصيل نصيب أكبر من الإمكانات
والمواهب الطبيعيّة بنحو لا يتطابق مع ميول الآخرين، فيقع الاختلاف بينه وبينهم.
وطريق الحدّ من هذا الاختلاف إنّما يكون بوجود قانون مدوَّن يُتَحاكَم إليه عند
الحاجة.
إنّ هذه المقدّمة بديهيّة، وبداهتها تظهر من ملاحظة ميول الإنسان، سواءٌ أكانت
مادّيّة أم معنويّة، حيث إنّها تدلّ - وبوضوح - على أنّه من غير الممكن تأمين مصالح
وميول جميع أفراد المجتمع، وإنّ الإنسان إذا أراد أن يعيش ضمن المجتمع فإنّه لا بدَّ
له من أن يُحدِّد ميوله، وأن لا يُلبّي كلّ ما تميل إليه نفسه، لأنّ عدم رعاية
الحدود يؤدّي - وبشكلٍ حتمي - إلى التصادم، والذي سوف يؤدّي بدوره إلى تزلزل الحياة
الاجتماعيّة وزوالها، وعليه لا بدّ - لأجل الحدّ من الاختلافات أو إزالتها نهائيّاً
- من الالتزام بالحدود والقوانين.
ثمّ إنّنا على ضوء هذه الحدود والقوانين، وبشرط تطبيقها، يمكننا تأمين الظروف
المناسبة لتكامل جميع أفراد المجتمع مادّيّاً ومعنويّاً، وتحقيق حياة اجتماعيّة
صحيحة.
إنّ ضمّ هاتين المقدّمتين سوف يوصلنا إلى النتيجة المطلوبة، وهي: إنّ وجود قانون
للمجتمع أمر ضروري.
يقول الإمام الخميني قدس سره في كتابه الحكومة الإسلاميّة: "وجود القانون المدوَّن
لا يكفي لإصلاح المجتمع، فلكي يصبح القانون أساساً لإصلاح البشريّة وإسعادها، فإنّه
يحتاج إلى سلطة تنفيذيّة، ولذا أقرّ الله تعالى الحكومة والسلطة التنفيذيّة
والاداريّة إلى جانب إرسال القانون، أي أحكام الشرع. وكان الرسول الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم على رأس التشكيلات التنفيذيّة والإداريّة للمجتمع الإسلامي، واهتمّ
صلى الله عليه وآله وسلم - بالإضافة إلى إبلاغ الوحي وبيان وتفسير العقائد والأحكام
والأنظمة الإسلاميّة - بإجراء الأحكام وإقامة نُظُم الإسلام، إلى أن وُجِدت الدولة
الإسلاميّة. فلم يكتفِ في ذلك الزمان مثلاً ببيان قانون الجزاء فحسب، بل قام مع ذلك
بتنفيذه أيضاً، فقَطَع الأيدي ورجم وأقام الحدود. وكان للخليفة المرتبة نفسها،
فعندما عيّن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم خليفة بعده، لم يكن ذلك لمجرّد
بيان العقائد والأحكام، بل كان لأجل تطبيق الأحكام وتنفيذ القوانين أيضاً.
وكانت وظيفة تنفيذ الأحكام وإقامة نُظُم الإسلام هي التي جعلت تعيين الخليفة أمراً
مهمّاً إلى درجة أنّه لولاه لما كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد بلّغ رسالته،
ولما كان قد أكملها، إذ إنّ المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كانوا
يحتاجون إلى من يطبّق القوانين، ويقيم النظم الإسلاميّة في المجتمع، لتأمين سعادة
الدنيا والآخرة.
فالقانون والنظم الاجتماعيّة تحتاج إلى منفِّذ، وفي جميع بلاد العالم كان الأمر
دوماً بهذا النحو، فالتشريع وحده لا فائدة فيه، التشريع وحده لا يؤمّن السعادة
للبشر. وبعد التشريع يجب أن توجد سلطة تنفيذيّة تنفّذ القوانين وأحكام المحاكم
لتعود ثمرة القوانين والأحكام العادلة للحاكم على الشعب، لذا، كما قام الإسلام
بالتشريع، فإنّه أقام سلطة تنفيذيّة أيضاً، ووليّاً للأمر يتصدّى للسلطة
التنفيذيّة"1.
أدلّة ضرورة الحكومة
1- الحكومة ضرورة اجتماعيّة:
يشير الإمام الخميني قدس سره في العديد من الموارد إلى إلى ضرورة ولاية الفقيه
وبداهتها لكل من فهم الإسلام وعقائده وأحكامه: فيقول "وولاية الفقيه من المواضيع
التي يوجب تصوّرُها التصديقَ بها، فهي لا تحتاج لأيّ برهنة، وذلك بمعنى أنّ كلّ من
أدرك العقائد والأحكام الإسلاميّة - ولو إجمالاً - وبمجرّد أن يصل إلى ولاية الفقيه
ويتصوّرها سيصدّق بها فوراً، وسيجدها ضرورة وبديهيّة"2.
فإنّ الحياة الاجتماعيّة تستدعي وجود مؤسّسات متعدّدة، فالمؤسّسة التشريعيّة
ضروريّة لأجل وضع القانون وتطبيقه ضمن الظروف الاجتماعيّة الخاصّة، والمؤسّسة
الإجرائيّة - التنفيذيّة - حاجة ضروريّة لأجل تنفيذ القانون وتطبيقه عمليّاً في
المجتمع، ولأجل المحافظة على الاستقرار الأمني الداخلي والخارجي، والمؤسّسة
القضائيّة حاجة ضروريّة لأجل الحدّ من المخالفات الشخصيّة والعامّة، ولإجراء العدل
بين الناس، إنّ مجموع هذه المؤسّسات تسمّى الحكومة، والحكومة هي المسؤولة عن الأمور
الاجتماعيّة العامّة، كحفظ الأمن والدفاع وبسط العدالة والرقيّ الاجتماعي والصحّة
والتعليم وغيره.
إنّ هذا الأمر لا يختصُّ بمجموعةٍ خاصّةٍ من الناس أو بزمان معيَّن، بل إنّ جميع
المجتمعات البشريّة على مرّ التاريخ تحتاج إلى الحكومة لإدارة المجتمع.
إنّ من ينكر ضرورة وجود حكومة فهو إمّا أنّه يريد الحريّة المطلقة دون أيّ حساب أو
قيد، أو أنّه من زمرة الأشرار الذين يخافون من الحساب والنظام، أو أنّه شخص عانى من
ظلم الحكومات الجائرة. لقد طرح الخوارج شعار: لا حكم إلا لله، لأجل نفي حاكميّة أيّ
شخص في المجتمع، وقد أجابهم أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "كلمة حقّ يُراد بها
باطل"3.
بمعنى أنّه إن كان مرادكم أنّ الحاكميّة في الأصل هي لله عزّ وجلّ، فهذا أمر لا شكّ
فيه، وإن كان المراد أنّه لا يحقّ لأحد أن يكون حاكماً على الناس، فهذا أمر باطل،
يقول عليه السلام: "وإنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن
ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو،
وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح برّ، ويُستراح من فاجر"4.
ويشير الإمام عليه السلام في كلامه هذا إلى مجموعة من وظائف الحكومة:
1- المنع من الهرج والمرج.
2- تحصيل الضرائب الماليّة.
3- محاربة الأعداء.
4- تحصين الأمن الداخلي.
5- إجراء العدالة.
هذه هي أهمّ الضرورات الاجتماعيّة التي تتحقّق بتوسّط الحكومة والدولة.
وفي رواية عن الإمام الرضا عليه السلام، يرويها الفضل بن شاذان في جواب سؤالٍ عن
أولي الأمر، وأنّه لِم فرض الله طاعتهم؟
قال عليه السلام: "إنّ الخلق لمّا وقفوا على حدٍّ محدود، وأُمِروا أن لا يتعدّوا
ذلك الحد، لما فيه من فسادهم، لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه
أميناً، يمنعهم من التعدِّي والدخول في خطر عليهم، لأنّه لو لم يكن ذلك كذلك، لكان
أحدٌ لا يترك لذّته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيّماً يمنعهم من الفساد، ويقيم
فيهم الحدود والأحكام. ومنها، إنّا لا نجد فرقة من الفرق، ولا ملّة من الملل، بقوا
وعاشوا إلا بقيّم ورئيس، ولما لا بدّ لهم منه في أمر الدين والدنيا، فلم يَجُزْ في
حكمة الحكيم أن يترك الخلق ممّا يعلم أنه لا بدّ لهم منه ولا قوام لهم إلا به،
فيقاتلون به عدوّهم ويقسّمون به فيئهم، ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من
مظلومهم"5.
2- سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
لقد استدلّ الإمام الخميني قدس سره على ضرورة الحكومة - في كتاب الحكومة الإسلاميّة
- بسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:
"إنّ سنة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ونهجه دليل على لزوم تشكيل الحكومة،
وذلك:
أوّلاً: لأنّه هو صلى الله عليه وآله وسلم قام بتشكيل حكومة - والتاريخ يشهد بذلك -
وقام بتطبيق القوانين، وتثبيت أنظمة الإسلام، وإدارة المجتمع، فأرسل الولاة إلى
رؤساء القبائل والملوك، وعقد المعاهدات والاتّفاقات، وقاد الحروب.
والخلاصة: أنّه قام بتطبيق مسائل الحكم والدولة.
وثانياً: عيّن حاكماً بعده بأمرٍ من الله تعالى، وعندما يعيّن الله تعالى حاكماً
للمجتمع بعد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا يعني لزوم استمرار
الحكومة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً. وبما أنّ الرسول الأكرم صلى الله
عليه وآله وسلم أبلغ الأمر الإلهي في وصيّته، فيكون بذلك أفاد ضرورة تشكيل الحكومة
أيضاً"6.
إنّ الذي يظهر لنا ممّا تقدّم أنّ أيّ مجتمع يسعى لبقاء حياته الاجتماعيّة صالحة،
والوصول إلى الأهداف الإنسانيّة العليا، وتحقيق الكمال، لا بدَّ له من العمل على
تحقيق أمرين:
1- قانون عادل يلبّي جميع الاحتياجات المادّيّة والمعنويّة.
2- قائد ونظام حكم قادر على إجراء القانون وتحقيق الهداية والعدالة الاجتماعيّة بين
الناس.
3- حقيقة قوانين الإسلام:
الدليل الآخر على لزوم تشكيل الحكومة هو ماهيّة القوانين الإسلاميّة (أحكام الشرع).
فماهيّة هذه القوانين تفيد بأنّها قد شُرِّعت لأجل تكوين دولة، ولأجل الإدارة
السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة للمجتمع، إذ إنّها:
أولاً: تشتمل قوانين الشرع على قوانين ومقرّرات متنوّعة تبني نظاماً اجتماعيّاً
شاملاً. ويتوّفر في هذا النظام الحقوقي كلّ ما يحتاجه البشر، من نمط التعامل مع
الزوجة والأولاد والعشيرة والقوم وأهل البلد والأمور الخاصّة والحياة الزوجيّة، إلى
المقررات المتعلّقة بالحرب والصلح والتعامل مع سائر الشعوب.
ومن القوانين الجزائيّة، إلى قوانين التجارة والصناعة... ويتّضح بهذا إلى أيّ حد
يَهتمُّ الإسلام بالحكومة والعلاقات السياسيّة والاقتصاديّة للمجتمع، لكي يوفّر
كافة ظروف تربية الإنسان المهذّب الفاضل. فالقرآن الكريم والسنّة الشريفة يشتملان
على جميع القوانين والأحكام التي يحتاجها الإنسان لسعادته وكماله.
في كتاب الكافي باب تحت عنوان (الرد إلى الكتاب والسنة وأنّه ليس شيء من الحلال
والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة، والكتاب أي القرآن
﴿تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾7،
ويُقْسِمُ الإمام - حسب الروايات - أنّ كلّ ما يحتاج إليه الناس موجود في الكتاب
والسنّة، وهذا لا شكّ فيه.
ثانياً: بالتدقيق في ماهيّة أحكام الشرع، نجد أنّ تنفيذها والعمل بها مستلزم لتشكيل
الحكومة، وأنّه لا يمكن العمل بوظيفة تطبيق الأحكام الإلهيّة دون تأسيس سلطة عظيمة
وواسعة للتنفيذ والإدارة8.
* كتاب
في رحاب الولاية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الحكومة الإسلاميّة، الإمام الخميني قدس سره، ص22.
2- الحكومة الإسلامية، م. س، ص1.
3- نهج البلاغة، خطبة 40.
4- نهج البلاغة، م. س.
5- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج6، ص60.
6- الحكومة الإسلامية، الإمام الخميني قدس سره، ص 23.
7- النحل، 89.
8- الحكومة الإسلامية، الإمام الخميني قدس سره، ص27.
9- نهج البلاغة، شرح فيض الاسلام، الخطبة 3، ص 52.