يتم التحميل...

التسبيحات الأربع

الصلاة

قبل أن ندخل في بيان الذكر في الركوع والسجود، نوضح الجمل التي يردّدها المصلّي في الركعتين الثالثة والرابعة قائماً، هذه الجمل هي أربعة أذكار تنطق بأربع حقائق عن الله تعالى: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر".

عدد الزوار: 411

الفهم الكامل للتوحيد

قبل أن ندخل في بيان الذكر في الركوع والسجود، نوضح الجمل التي يردّدها المصلّي في الركعتين الثالثة والرابعة قائماً، هذه الجمل هي أربعة أذكار تنطق بأربع حقائق عن الله تعالى: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر".

إنّ معرفة هذه الخصوصيّات الأربع لها تأثير عميق في تكوين فهم صحيح وكامل عن التوحيد، إذ إنّ كلّ واحد من هذه الأذكار يبيّن صورةً ومتناً لعقيدة التوحيد.

وإنّ تكرار هذه الجمل ليس من أجل زيادة الإطلاع والمعرفة الذهنيّة لدى الإنسان وحسب، بل ينبغي أن تكون أعظم فوائد معرفة صفات الله وخصوصياته والمداومة على ذكر الله، هو أن تُوجد في الإنسان الحركة والمسؤوليّة، وأن يتحمّل المسؤوليّة المتناسبة مع تلك الحقيقة التي أدركها.

بشكل عامّ، ينبغي أن تكون العقائد الإسلاميّة (خارج الذهن) وفي ساحة الحياة منشأً للعمل والحركة، فهذه العقائد لا تستمدّ أهميتها واعتبارها من جهتها الذهنية والتجريديّة صرفاً، بل هي أكثر اعتباراً في الإسلام، كونها ناظرة إلى حياة الإنسان وسلوك الفرد
والمجتمع. صحيح أنّ كلّ عقيدة إسلاميّة هي في المعنى معرفةُ حقيقة معيّنة، ولكن تلك العقائد المؤكّدة في الإسلام والتي يجب الاعتقاد بها، هي التي توجد التزاماً لدى الإنسان المعتقد به، وتضع على عاتقه مسؤوليّةً وتكليفاً جديداً.

والاعتقاد بوجود الله هو من هذا القبيل. فالاعتقاد بوجود الله أو الاعتقاد بعدم وجوده، كلّ منهم، يُوجِد في الحياة والعمل نمطاً وشكلاً خاصّاً. فالفرد والمجتمع الذي يعتقد حقّاً بوجود الله يعيش في الحياة بنمطٍ ونحوٍ خاصَّين، والفرد والمجتمع المنكر لهذه الحقيقة يعيش بنحوٍ آخر. فإذا اعتقد الإنسان أنّه، هو والعالمُ، قد أُوجِدا من جانب قدرة مريدة وعن حكمة وشعور، فسيدفعه هذا الاعتقاد إلى اعتقاد آخر وهو أنّ هذا الخلق كان لـ "هدف وغاية"، ويذعن بأنّ عليه أن يؤدّي دوراً ويتحمّل مسؤوليّة لبلوغ هذه الغاية. وهذا الشعور بالمسؤوليّة والالتزام هو الذي يدعوه إلى العمل والجدّ وتحمّل مسؤوليّات ثقيلة، ويشعر تجاه ذلك كلّه بالرضا ويتقبّله عن طيب نفس.

وهكذا أيضاً، الاعتقاد بالمعاد والنبوّة والإمامة و... فكلّ واحدة تلقي مسؤولياتٍ وتكاليفَ على عاتق المعتقد، وتشخِّص له بمجموعها طريقه وبرنامجه ومنهج حياته العامّ.

وإن ظهر في الواقع الخارجيّ، أنّ بعضَ من يعتبرون أنفسهم معتقدين بهذه الأصول الفكريّة، يرون أنفسهم متساوين مع أولئك الذين ليس لديهم إطّلاع عليها ولا يعتقدون بها، وحياتهم هي كحياة أولئك، فليس هذا (التصوّر) إلاّ بسبب عدم الإطّلاع الصحيح أو لعدم تجذّر إيمانهم وتسليمهم. وفي المواقع والظروف الحساسة وفي منعطفات الحياة، يمتازُ صفُّ المعتقدين الواقعيّين عن المقلّدين الجاهلين والمنتهزين للفرص. وبهذه الرؤية، نعرّج على مفاد الأذكار الأربعة ومحتواها.

سُبْحَانَ اللَّهِ

اللهُ منزّهٌ عن أن يكون له شريك، ومنزّه عن الظلم، وعن أن يكون مخلوقاً، وعن الفعل المنافي للحكمة والمصلحة، وعن جميع النواقص والاحتياجات والعيوب الموجودة في الكائنات، وعن جميع الصفات التي هي من لوازم أن يكون مخلوقاً أو ممكناً.

من خلال التلفّظ بهذه الجملة وذكر هذه الخصوصيّة لله، يفهم المصلّي ويستذكر أنّه أمام عظيمٍ وذاتٍ محمودة، يقف خاضعاً معظِّم، فهو يشعر أنّ تعظيمه وتواضعه هو مقابل الإحسان والجود والكمال المطلق. فهل يشعرُ أحدٌ بالحقارة عندما يحترم الطهارة والإحسان والجمال المطلق؟

إنّ صلاة الإسلام هي التواضع والتعظيم أمام هذا المحيط اللّامتناهي من الإحسان والكمال والجمال. وهذه الصلاة ليست خضوعاً يُهينُ الإنسان ويقلّل من شأنه وكرامته وعزّته الإنسانيّة، وليست تملُّقاً يُذِلّ الإنسان ويحقّره. أليس الإنسان سوى موجودٍ مدركٍ للجمال، وباحثٍ عنه؟ إذاً، فمن الطبيعيّ جدّاً أن يخضع ويتذلل أمام الكمال المطلق. وأن يعبد الذات المالكة له وأن يعظّمها ويمجّدها بتمام وجوده. هذا التمجيد وهذه العبوديّة تدفعانه نحو طريق الكمال والإحسان والجمال، ويجعلان حركة حياته في هذا الاتجاه وهذا المسار.

إنّ الذين يرون العبادة الإسلاميّة منشأَ ذلّة الإنسان وضعفه، وقاسوها بتبجيل القدرات المادّية والثناء عليها، قد أغفلوا نكتة دقيقة وهي: أنّ مدح الإحسان والطّهر والثّناء عليهما هو بحدّ ذاته أقوى باعث ومحفز إلى الإحسان والطّهارة. هذه النكتة، هي التي تعلّمنا ذكر "سبحان الله".

الْحَمْدُ للّهِ

فالإنسان طوال حياته المليئة بالمتاعب، كان دوماً - لأجل الحصول على المُتع والمكاسب المختلفة والامتيازات الصغيرة والكبيرة، ولأجل البقاء بضعة أيام أخرى على قيد الحياة، وفي أحيان كثيرة من أجل لقمة العيش - يفتح فمه بالحمد والثناء على المساوين له في الخلقة الذين لا يمتازون منه بمنبت نجابة أو شرف، ويسلّم جسمه وروحه لأسياده وأولياء نعمته. ولأنّه يعتبر رزقه مرتبطاً بأذلّاء النعمة (يراهم مصدر الرزق)، فيرضخ في طلبه ويقبل بالعبوديّة لوليّ نعمته، عبوديّة الجسد والروح والفكر.

يفهم من خلال استذكار أنّ "جميع المحامد والثناء هي لله"، أنّ جميع النعم أيضاً هي من الله. فإذاً، لا أحد يملك - في الحقيقة والواقع - أي شيءٍ ليمكنه من خلال ذلك أو يحقّ له استرقاق أحدٍ وجعله مطيعاً وأسيراً له. وهذا أيض، يلقّن النفوس الضعيفة ويرشد القلوب المسحورة والعيون المخدوعة بالنعم: أن لا تتّخذَ رحمةَ السلاطين وعطاءَ الأسياد (الحقير) شيئاً، ولا تعتبره منهم، ولا تسلّم قيادها لهم رقّاً وعبوديّة، وأن لا تقبل المنع والحرمان منه (الرزق)، ولتعتبر المحتكر له غاصباً ومتعدّياً.

لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه

هذا شعار الإسلام الذي يُظهر بمجموعه مشهداً للرؤية الكونيّة والأيديولوجيّة لهذا المذهب. ويتضمّن هذا الشعار "نفياً" و"إثباتاً"1.

بدايةً، يرفض الإنسان كلّ القدرات الطاغوتيّة وغير الإلهيّة، ويخلّص نفسه من ربقة العبوديّة لأي قوّة شيطانيّة، ويقطع كلّ يد أو رجل تسحبه بأيّ شكلٍ نحو طريق ما، ويرفض كلّ قدرة غير قدرة الله وكلّ نظام إلاّ النظام الإلهيّ، وكلّ الدوافع إلاّ الدوافع المَرْضيّة لله، وبهذا النفي المجيد يتحرّر من كلّ ذُلٍّ وحقارةٍ وانكسارٍ وقيدٍ وأسرٍ وعبوديّة. فيهيمن أمر الله وإرادته -التي لا تتحقّق إلّا في قالب "نظام إلهيّ"، أي المجتمع الإسلاميّ بمعناه الحقيقيّ - على وجوده ويسلّم بعبوديّة الله التي لا تتوافق ولا تتّفق مع أي عبوديّة أخرى.

عبوديّة الله تعني تدبير نظام الحياة طبقاً لأوامر الله الحكيمة، والعيش في ظلّ النّظام الإلهيّ الذي رُسِمت خطوطه العريضة وفقاً لأوامر الله. أو السعي والتحرّك بجميع القوى والجهود الممكنة بهدف إيجاد هكذا نظامٍ وهكذا نظم.

وأمّا النُّظم الأخرى التي بُنِيت على أساس الفكر البشريّ، فليست قادرة على إسعاد البشر وإيصالهم إلى كمالهم الإنسانيّ المطلوب، بسبب عدم خلوّها من الجهل واعوجاج الفكر، وأحياناً لعدم خُلوّها من المطامع.

فالمجتمع والنظام الإلهيّ هو الوحيد الذي يمكن أن يكون محيطاً مناسباً لنمو هذا البرعم الذي يسمّى "الإنسان"، لكونه (أي هذا النظام) نابعاً من حكمة الله ورحمته، ولمعرفته بحاجات الإنسان وقدرته على تأمينها..

نحن لسنا أعداءً للنُّظم الأخرى، بل نحن نشفق عليها، هذا كلام الأنبياء وهم آباء البشر المشفقون عليهم، إنّهم يعلّمون منشئي البيوت ومهندسيه، البيوت التي ينبغي أن تعيش فيها الناس، أي أنّهم يعلّمون مبتكري النظم الاجتماعية وبُناتها ويُسدون النصيحة لهم: إنّ الإنسان لم ولن يكون سعيداً إلاّ في ظلّ نظام إلهيّ وتوحيديّ. وقد أثبت التاريخ ورأينا ونرى ما الذي عانته الإنسانيّة في ظلّ النظم غير الإلهيّة، وكيف مُسخت الإنسانيّة وإلى أي مصير وصلت؟

اللَّهِ أَكْبَر

وبعد هذا البطلان (النفي) كلّه، يَشعرُ الإنسان العاديّ، الذي ما زال عالقاً في لُجّة الوقائع الجاهليّة، بالغربة والرّوع، ويجد نفسه وحيد، فهو، من جهة، يرى عياناً أنّ جميع الأسس، التي كانت تبدو حتى وقتٍ قريبٍ ثابتةً، آيلةٌ إلى السقوط. ومن جهة أخرى، توحي له الجاهليّة بأنّها ما زالت بضخامة الجبل تربض أمام وجهه.

فالأشياء ذاتها التي نفاه، تظهر له وتتراءى أمام عينيه مُحاوِلَةً إرعابه، في اللحظة نفسها التي يقول فيها الله أكبر من كلّ شيء، من كلّ شخص، من كلّ القدرات والمقتدرين، وأكبر من أن يوصف، وهو مهندس السنن والقوانين التكوينيّة في العالم، سواء في مجال الطبيعة أم في التاريخ، إذاً، التوفيق والنصر النهائيّ الذي يكون في ظلّ تعاهد هذه القوانين والسنن، هو فقط من خلال الالتزام بأوامره، وإنّ عباده المطيعين له هم الجبهة الوحيدة المنتصرة في صراع البشريّة التاريخيّ.

وكان النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مدركاً لهذه الحقيقة تماماً ومؤمناً بها بكلّ وجوده، ويتلمّسها. ولذا، ثبت بمفرده بوجه جميع الضالّين في مكّة، بل بوجه كلّ العالم. وكما يُتَوقَع من إنسان عظيم كالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، الذي أظهر إصراراً على
الثبات والمقاومة، فحرّر قافلة البشر الضّالّة من التبعيّة الذليلة للقوى الطاغوتيّة وسيّرها في المسار الفطريّ، الذي هو مسار التكامل.

فالذي يجد نفسه ضعيفاً مسلوب الإرادة أمام أشكال القوى البشريّة، إذاً أدرك أنّ أعلى القدرات وأكبرها هو الله تعالى فسوف يطمئنّ قلبه، ويهدأ وتتّقد في باطنه قوّة فريدة، وهي التي تجعل منه الأفضل والأقوى.

كانت هذه خلاصة حول مفاد الجمل الأربع التي تتكرّر في الركعتين الثالثة والرابعة من الصلاة حال القيام.

حركات الصلاة وأذكارها

الركوع

بعد إتمام القراءة يدخل المصلّي في الركوع، أي ينحني أمام الله، الموجود ما وراء ذروة التفكير الإنسانيّ في آفاق الخصال الحميدة والعظيمة.

الركوع مظهرٌ ومثال لخضوع الإنسان أمام القدرة التي يعتقد أنّها أقوى منه. ولأنّ المسلم يرى أنّ الله فوق كلّ القدرات، فهو يركع أمامه. ولأنّه لا يرى أيَّ موجود أعلى وأفضل من إنسانيّته، غير الله، فلا ينحني لأيّ شيء أو شخصٍ آخر.

وفي هذه الحال، يظهر أمام الله بمظهر الخضوع، ولسانه يلهج بحمد الله والثناء عليه وذكر عظمته.

سبحان ربيّ العظيم وبحمده2

إنّ هذه الحركة التي تترافق مع قول متناسب، تُظهر، للمصلّي، ولمن يشاهده على هذه الحال، عبوديّته أمام الله. وبما أنّ عبد الله ليس عبداً لغير الله، فهي تنبئ بوضوح تامٍّ عن افتخاره وتحرُّره من عبوديّة غير الله.

السجود

عند رفع الرأس من الركوع وفي حالة الاستعداد لتعظيم وخضوعٍ أكثرَ، يهوي إلى الأرض ويسجد. إنّ وضع الجبهة على الأرض يظهر أعلى مستوى من الخضوع، والمصلّي يعتبر هذا المستوى هو نصاب التواضع الحقيق واللّائق، فالخضوع أمام الله (لله) هو خضوع أمام الجميل والجمال المطلق، ويرى ذلك حراماً وغير جائز أمام أي شخص وأيّ شيء سوى الله، إذ إنّ جوهر الإنسانيّة، الذي هو أثمن بضاعة في متجر الوجود، يتحطّم بهذا العمل (أي الخضوع لغير الله) ويغدو الإنسان ذليلاً ومنكسراً. وبينما هو ساجد على الأرض، غارق في عظمة الله، يتناغم لسانه أيضاً مع هذه الحالة ويفسِّر في حقيقةِ عملهِ الذكر الذي ينطق به.

سبحان ربيَ الأعلى وبحمده3

الله الأعلى، الله المنزّه والمطهّر، وفقط أمام هكذا موجود،جدير وحقيق، يُطلق الإنسان لسانه بالثناء ويضع جبهته على التراب.

إذ، سجدة الصلاة ليست سجدة أمام موجود ناقصٍ وضعيفٍ لا قيمة له كالسجود للأصنام والقوى الخاوية، بل هويٌّ وسجودٌ أمام الأعلى والأطهر والأعزّ.

يعلن المصلّي بهذه الحركة بنحوٍ عمليّ انصياعه لله الحكيم والبصير. وقبل كلّ ذلك، يلقّن نفسه هذا التسليم والانقياد. وكما عرفن، فإنّ قبول هذه "العبوديّة المطلقة لله" هو الذي يبعد عن الإنسان ربقة العبوديّة لأيّ شيءٍ وأيّ شخصٍ، ويخلّصه من الأغلال والضّعة التي تفرض عليه.

إنّ أهمّ أثر يرتجى من هذين الذكرين (ذكر الركوع والسجود) هو تعليم المصلّي وإرشاده بأنه: أمام أي شيء يجب الخضوع والتسليم، والثناء عليه. وهذا معناه نفي كلّ ما عدا الله، ولعلّ الحديث المنقول عن الإمام عليه السلام يشير إلى هذا الأمر: "أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد4".

التشهّد

في الركعة الثانية وفي الركعة الأخيرة من كلّ صلاة، يتـلفَّظ المصلّي، بعد أن يرفع رأسه من السجدتين وهو جالس، بثلاث جمل، تعبِّر كلّ واحدة عن حقائق دينيّة، وتسمّى هذه العملية المقترنة بالألفاظ (التشهُّد).

حيث يشهد في الجملة الأولى بوحدانيّة (أحديّة) ربّ العالمين: "أشهد أن لا إله إلّا الله"، ثمّ يؤكّد هذه الحقيقة بهذا النحو: "وحده"، ثمّ يؤكدها بنحو آخر: "لا شريك له".

كلّ فرد وكلّ شيء يَضعُ الإنسانَ تحت نير عبوديّته ويصيّره مطيعاً له فهو إلهه. فالأهواء والميول الحيوانيّة، والشهوات والأطماع الإنسانيّة، والنظم والمواثيق الاجتماعية، واضعوها وزعماؤها، كلّ واحدة منها تدعو الإنسان بنحو ما إلى خدمتها وإلى تأليهها5.

وإنّ ذكر (لا إله إلّا الله) هو نفيٌ لكلّ هذه الإمرات والمُلكيّات. والتشهّد شهادة من المصلّي على هذا النفي، أي أنّ المصلّي يذعن ويسلّم بأنّ الإله الواحد (الأحد) هو الذي له حقّ الإمرة والألوهيّة دون غيره، وأنّ جميع ما عداه ليس له أي حقّ في التحكّم به.

وعندما قَبِلَ الإنسان بهذا، لم يعد له الحقّ بقبول ألوهيّة أي موجود آخر أو إطاعته وعبادته (سواء أكان إنساناً أو حيواناً أو ملاكاً أو جماداً أو أهواءَ نفسه وشهواتها). وليس معنى ذلك أنّ الموحِّد لا يخضع لأيّ ميثاقٍ والتزامٍ اجتماعيّ، ولا يقبل بأيّ قانون وبأيّ حاكم. إذ من الواضح أنّ الحياة الاجتماعيّة بحسب ماهيّتها لا تخرج عن إطار الالتزام والانقياد. بل بمعنى أنّه لا يقبل بأيّ تحكُّم أو أي نظام لم ينشأ من أوامر الله. وهو في حياته الشخصيّة والاجتماعيّة مطيع لأمر الله، وقد يلزم - بناءً على الأمر الإلهيّ، وبمقتضى شكل (نظام ما) قد حدّدهُ اللهُ لإدارة الحياة البشريّة -، أن يطيع أشخاصاً ويلتزم بمجموعة من العهود والمواثيق. فالطاعة والالتزام، بحسب الطبيعة الذاتيّة للحياة الاجتماعيّة، غير قابلة للانفصال عن حياة الإنسان الموحّد أيض، غاية الأمر أنّ هذا الانقياد ليس طاعةً لأهواء النفس الجامحة أو للاستبداد والتسلّط والأنانيّات الآدمية لأمثاله من البشر، بل هو امتثال لأمر الله البصير الحكيم ٍوإرادته. فهو الذي يحدّد الأنظمة والقوانين التي يجب تطبيقها، ويعيِّن القَادَة الذين تجب إطاعتهم، فهم يجْرون حكومتهم على عباد الله، فقط، في حدود الأوامر الربانية وإطارها6.

إنّ هذا الأمر الربانيّ ناظر إلى هذه الحقيقة: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾7.

وربّما من أجل ملاحظة هذا المعنى، وربطاً به، هو ما يقوله المصلّي في الجملة الثانية من التشهّد: "وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله".

إنّ التسليم بأنّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم مرسلٌ من الله هو بمعنى قبول الاستخلاف الإلهيّ، أي أنّ سبيل الله هو في اقتفاء طريق رسوله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنّ أوامره تؤخذ وتُتلقّى من عبده المصطفى.

كثيرٌ من عباد الله أخطؤوا في معرفة الطريق المرضيّ من الله. إنّ تعريفَ النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والتسليم بكونه رسول الله، محدّدٌ وموجِّهٌ للجهد والحركة التي ينبغي أن يُظهرها الإنسان العابد في حياته، لكي يثبت صحّة دعواه في عبادة الله.

في هذه الجملة (أشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله)، واستناداً إلى عبوديّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، والإتيان بكلمة (عبده) قبل (رسوله)، فقد أريد التعريف بأهمّ فضيلة في الإسلام، وهذا هو الحقّ. فإنّ جميع الفضائل الإنسانيّة تختصر في عبادة الله الحقيقيّة والمخلصة له، وكلّ من هو أكثر سبقاً في هذا المضمار، هو أثقل من غيره في كفّة الإنسانيّة.

هذا الكلام، بالنسبة إلى الشخص العارف بمفهوم (عبادة الله) غنيّ عن الاستدلال. فإن كان معنى عبادة الله هو الخضوع أمام الحكمة والبصيرة والرحمة والإحسان والجمال اللّامتناهي، والملازم للتحرّر من عبادة النفس وعبوديّة الغير، فأيّ قيمة، أسمى من هذه، يمكن الحصول عليها؟ أليست جميع المساوئ والمذلاّت والشقاوات والرذائل وانعدام المروءة، وكلّ الظلمات المدلهمّة الحالكة، وليدة عبوديّة الإنسان لجموح النفس أو طغيان المدّعين من البشر وغرورهم؟ أليست عبادة الله تُحرِق جذور كلّ عبوديّة أخرى وتُحطّمها؟

إنّ النقطة الدقيقة الموجودة في هاتين الجملتين من التشهّد: هي التذكير بالتوحيد والنبوّة ضمن شهادة يؤدّيها المصلّي، حيث يشهد بوحدانيّة الله وعبوديّته وبرسالة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

هذه الشهادة في الحقيقة عبارة عن قبوله بجميع الالتزامات المترتّبة على هاتين العقيدتين، وكأنّما المصلّي، بهذه الشهادة، يريد أن يقول: إنّي آخذ على عهدتي (ألتزم) جميع التكاليف التي تنشأ من هاتين العقيدتين (التوحيد والنبوّة). إنّ المعرفة الجافّة والفارغة، والمعرفة التي لا تستتبع التزاماً، والاعتقاد الذي لا يتجلّى في العمل، لا قيمةَ له في الإسلام. إنّ الشهادة والتصديق بحقيقةٍ هما بمنزلة الوقوف عليها وقبول جميع الواجبات والأعمال الناتجة من العلم بها. أي القبول الناشئ من اعتقادٍ خالصٍ وإيمانٍ فعّالٍ وإيجابيّ
ومتوقّد. إذ، تشهّدُ الصلاة هو في الحقيقة تجديدُ بيعة يؤدّيها المصلّي مع الله ورسوله.

الجملة الثانية من التشهّد هي طلب ودعاء: اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد. إنّ محمداً وآله الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) هم العلامات الواضحة والبراهين التامّة لهذه العقيدة، وإنّ المصلّي يحيي، بلسان الدعاء وبالصلاة عليهم، ذكر هذه العلامات والبراهين، وبالسلام عليهم يُعزّز ارتباطه الروحي بهم.

إنّ أَتْبَاعَ أيّة رسالة، إن لم يجعلوا نُصب أعينهم البيّنات والعلامات العينيّة (الحسّيّة) لرسالتهم، فمن الممكن جدّاً أن يسلكوا سبيلاً آخر ويضلّوا. وإنّ تبيين وإظهار هذه العلامات العينيّة هو الذي ضمِن صمود رسالات الأنبياء على مرّ الزمان.

يذكر التاريخ الكثير من العلماء والمفكّرين الذين رسموا خططاً وبرامج لتوفير حياةٍ للإنسان ملؤها الهناءة والسعادة، وطرحوا المدن الفاضلة ودوّنوا كتباً وخلّفوا وراءهم آثاراً. ولكنّ الأنبياء طرحوا مشروعهم بنحوٍ عمليّ، عوضاً من الدخول في بحوث وجدالات فلسفيّة، وصنعوا، من أنفسهم ومن أتباعهم الأوائل، أفراداً من الطراز الجديد ونماذجَ متألّقة، وبنوا على عواتقهم أركان نظامهم المنشود.

ولهذا، بقي مذهب الأنبياء حيّاً ولم يبق لمخطّطات الفلاسفة والمفكّرين سوى الحبرِ على الورق.

يدعو المصلّي من أعماق قلبه لمحمّدٍ وآل محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم ، الذين هم عصارة تجلّيات الرسالة وظهورها. ويسلّم عليهم، فقد عاشوا عمراً بطور هذه الرسالة وقدّموا للتاريخ إنسان زين الإسلام وأنموذجه، ويسأل الله تعالى أن يصلّي ويسبغ رحمته عليهم، وأن يثبّت ارتباطه الروحيّ بهم ويجعله أكثر عمقاً واستحكاماً، فبإمكانهم جذبه بقوّة الى طريقهم وإلى الهدف الذي يسعون إليه.

إنّ "الصلاةَ على محمّدٍ وآل محمّدٍ" مجسِّدةٌ لوجه صفوة الأفراد ونخبتهم في الإسلام. وبإظهار هذه الوجوه، وتصويرها، باستطاعة المسلمين دوماً أن يتعرّفوا على الطريق الذي ينبغي عليهم أن يطووه ويستعدّوا للمسير فيه.

سلام الصلاة

سلام الصلاة فيه ثلاث تحيّات. ويكون أيضاً مع ذكر الله وذكر اسمه. فالصلاة تبدأ بإسم الله وتختتم بإسمه. وبين تلك البداية وهذه النهاية طريقٌ حافلٌ بذكر الله واسمه، فإذا ذُكر النبيّ أو آله في جملة، سيكون أيضاً مصحوباً بذكر الله، بصورة طلب العون من
لطفه ورحمته.

الجملة الأولى، تحيّة من المصلّي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وطلب الرحمة من الله لذلك العبد المجتبى: السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته.

الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو مشيّد بنيان الإسلام، أي سلسلة الحركات والمساعي المجلجلة التي يرى المصلّي نفسه مشغولاً فيها الآن، هو الذي أعلى نداء التوحيد الذي هزّ بصداه العالم، وأرسى جذور حياةٍ أفضلَ للإنسان على مدى الزمان. هو الذي رسم الخطوط العريضة لصورة الإنسان الإسلاميّ النموذجيّ، والمجتمع الذي بإمكانه أن يصبح دارَ تربيةٍ وحاضناً لهذا الإنسان. وإنّ المصلّي يعكس هذا الشعار في حياته وفضاءِ زمانه، من خلال صلاته والدروس والإرشادات المطويَّة فيها، ويتقدّم ويخطو نحو ذلك المجتمع الأفضل ونحو تكوين ذلك الإنسان النموذجيّ. فليس اعتباطاً ذكر رسوله ومقتداه الذي جعله مرشده في هذا الطريق بتحيّة وسلام في نهاية الصلاة، ويعلن بهذا اللّسان عن حضوره إلى جانبه وفي طريقه.

في الجملة الثانية، يسلّم المصلّي على نفسه وعلى جميع رفاقه (السالكين مسلكه) وعلى جميع عباد الله الصالحين: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، وبذلك، يوقظ ذكر عباد الله الصالحين في ذهنه، ويجعل وجودهم وحضورهم منبت الأمل والاطمئنان في نفسه.

في دنيا انتشرت فيها مظاهر الذنوب والمعاصي: القبائح والدناءة والعداوة والظلم والقذارة والرجس، وأحاطت بكلّ شخص، وفي محيطٍ، كلُّ شيءٍ فيه ينبئ الإنسانَ العاقل والمتفطّن بإفلاس البشريّة وانهيارها، وتَظْهر زينتها وزبرجها أمام عينيه بألوانٍ وصورٍ برّاقةٍ مصطنعةٍ على مظاهر الابتذال والسفالة والسُّحت، أجل في العالم الذي لا يتمكّن فيه طلّاب الحقّ والعدالة أن يتستّروا على فضائح الأنانيّات وحبّ الجاه والمنصب، وحيث لا يمكن التعتيم على مكانة الحسين وعليّ والصادق عليهم السلام بالصخب المراوغ لأمثال معاوية ويزيد والمنصور، باختصار، في العصر الذي يستولي فيه أعوان الشيطان على مناصب رجال الله الصالحين، هل يمكن توقُّع الخير والصلاح منهم، والنظر إليهم بعين الواقعيّة؟ أفهل يمكننا أن نتوقّع شيئاً غير المعاصي والآثام والضلال وإماتة الحقّ بين البشر؟ علينا أن نعترف بأنّه لو أمكن ذلك، فإنّه لا يمكن بسهولة.

يأتي "السلام على عباد الله الصالحين"، في هكذا حال، ليمدّ القلوب الحزينة المضطربة، وكأنّه ملاكٌ يبثُّ في قلب الظلمات نبأ حضور النور والضياء، ويبشّر المصلّي بوجود الأنصار والأصحاب. يقول له: "لستَ وحيداً"، إذ يمكن في قلب هذه الصحراء القاحلة العثور على براعم مثمرة ومتأصّلة، مثلما أنّه في أطوار التاريخ قد خرج من رحم التجمّعات (المجتمعات) الضّالّة والفاسدة إراداتٌ قويّةٌ ورجال عظماء بارزون، أضحوا في النهاية بناةَ العالمِ الجديد وواضعي الأساس الطيّب لحياة جديدة. وكذلك، فإنّ قوى النور والخير نفسه، وطبقاً لسنّة الله في التاريخ، هي في قلب هذا العالم المظلم والفاسد، في حالة سعي وجدّ دائب. أجل، فالصالحون يعبدون الله بما يليق بعظمته ويطيعون أوامره، ويقفون مصطفّين في مواجهة الطغاة.

من هم هؤلاء العباد الصالحون؟ وأين هم؟ ألا يجب التعلّم منهم والسير معهم؟ فعندما يجعل المصلّي نفسه إلى جانب الصالحين، ويُسلّم عليهم وعلى نفسه في جملة واحدة (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) يسطَعْ على قلبه نورٌ من العزّة والافتخار والاطمئنان، ويسعى لأن يكون حقّاً في عدادهم وإلى جانبهم، ويشعر بالخجل، إنْ لم يتمكّن من اقتفاء أثرهم، وهذا يضفي عليه التزاماً وتكليفاً جديداً.

كيف هم العباد الصالحون؟ وبمَ صلاحهم؟ فالصلاح ليس فقط في أداء الصلاة، الصالح هو الذي يلتزم بالتكاليف الإلهيّة الثقيلة ويعمل بنحوٍ يليق به إطلاق اسم (عبد الله) عليه، تماماً كالتلميذ اللّائق في صفٍّ دراسيّ. وفي الختام، يقول المصلّي في الجملة الثالثة
مخاطباً هؤلاء العباد الصالحين، أو مخاطباً الملائكة8، أو مخاطباً المصلّين: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وبذلك، يستذكر مرّة أخرى الصلاح والاستحقاق (للصفات الملائكيّة أو الاتصال بباقي المصلّين)، فيذكر المخاطبين الأعزاء بدعاء الخير وينهي صلاته.

والحمد لله ربّ العالمين.

* كتاب من أعماق الصلاة، جمعية المعراج لإقامة الصلاة.


1- المقصود من القراءة هو قراءة الحمد والسورة في الركعتين الأولى والثانية، والتسبيحات الأربع أو الحمد في الركعتين الثالثة والرابعة.
2- بالإمكان أيضاً استبدال هذا الذكر بقول: سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله.
3- بالإمكان أيضاً أن تقول ثلاثاً: سبحان الله.
4- سفينة البحار (ج1) مادة سجد
5- يلتفت إلى آيات من قبيل ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ سورة الجاثية/ الآية (23) و ﴿وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا﴾ و ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ﴾ سورة التوبة/ الآية (31) و ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ سورة القصص/ الآية (38)، وروايات من قبيل "ألهتهم بطونهم".
6- التدقيق في هذه الآيات والروايات من قبيل ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾سورة النساء/ الآية (80) ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ سورة المائدة/ آية (55). والروايات: (وانظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر...) الإمام الصادق عليه السلام، الكافي، ج 7، ص 412، و(العلماء أمناء الرسل على خلقه...) نزهة الكرام، ص 397، يمكن أن يكون موضحاً للحدود التقريبية لهذه الحقيقة.
7- سورة النساء، الآية: 59
8- وكأنه بعنوان درس لتحصيل صفات الملائكة.

2013-11-25