يتم التحميل...

حياة الامام الباقر عليه السلام استمرار منطقي لحياة الامام السجاد عليه السلام

الإمام محمد الباقر (عليه السلام)

أصبح أتباع أهل البيت عليه السلام مجموعة متميزة ذات وجود مستقل، ودعوة أهل البيت التي اعترتها وقفة واحتجبت وراء ستار سميك بسبب حادثة كربلاء وما أعقبها من حوادث دموية كوقعة الحرة وثورة التوابين وبسبب بطش الأمويين،

عدد الزوار: 330

أصبح أتباع أهل البيت عليه السلام مجموعة متميزة ذات وجود مستقل، ودعوة أهل البيت التي اعترتها وقفة واحتجبت وراء ستار سميك بسبب حادثة كربلاء وما أعقبها من حوادث دموية كوقعة الحرة وثورة التوابين وبسبب بطش الأمويين، قد أصبح لها وجود منتشر وواضح في كثير من الأقطار الإسلامية خاصة في العراق والحجاز وخراسان، وأصبح لها "تنظيم" فكري وعملي، وولّت تلك الأيام التي قال الإمام السجاد عليه السلام عنها: إن أتباعه ما كانوا يزيدون فيها على عشرين شخصاً. وأضحى الإمام الباقر عليه السلام يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة فيلتف حوله جمع غفير من أهل خراسان وغيرها من أصقاع العالم الإسلامي، يسألونه عن رأي الإسلام في مختلف شؤون الحياة، ويفد عليه أمثال طاووس اليماني وقتادة بن دعامة وأبو حنيفة واخرون من أئمة المذاهب الفقهية لينتهلوا من علمه أو ليحاجوه في أمور مختلفة. وبرز شعراء يدافعون عن مدرسة أهل البيت، ويعبرون عن أهدافها، منهم الكميت الذي رسم في هاشمياته أروع لوحة فنية في تصوير الولاء الفكري والعاطفي لال بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وتناقلت الألسن هذه الروائع الأدبية وحفظتها الصدور.

من جهة أخرى فإن خلفاء بني مروان أحسّوا خلال هذه الفترة بنوعٍ من الطمأنينة، وشعروا بالإستقرار بعد أن استطاع عبد الملك بن مروان (ت‏86هـ) خلال فترة حكمه التي استمرت عشرين عاماً أن يقمع كل المعارضين. وقد يعود شعور الخلفاء المروانيين في هذا العصر بالأمن والإطمئنان إلى أن الخلافة وصلتهم غنيمة باردة، لا كأسلافهم الذين كدحوا من أجلها مما أدّى إلى انشغالهم باللهو والملذات التي تصاحب الشعور بالإقتدار والجاه والجلال.

مهما يكن الأمر فإن حساسية خلفاء بني مروان تجاه مدرسة أهل البيت قد قلّت في هذا العصر، وأصبح الإمام عليه السلام وأتباعه في مأمنٍ تقريباً من مطاردة الجهاز الحاكم.
كان من الطبيعي أن يقطع الإمام خطوة رحبة في ظل هذه الظروف على طريق تحقيق أهداف مدرسة أهل البيت، ويدفع بالتشيع نحو مرحلة جديدة وهذا ما يميّز حياة الإمام الباقر عليه السلام.

ويمكن تلخيص حياة الإمام الباقر عليه السلام خلال الأعوام التسعة عشر من إمامته (114 95هـ) بما يلي:
إن أباه الإمام السجاد عليه السلام عندما حضرته الوفاة أوصى أن يكون ابنه محمداً إماماً من بعده في حضور سائر أبنائه وعشيرته وسلمّه صندوقاً.. تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم.. وتذكر أن فيه سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: "يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك". ثم قال: "أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكنه كان مملوءاً علماً"1.

لعل هذا الصندوق يرمز إلى أن الإمام السجاد عليه السلام سلّم ابنه محمداً مسؤولية القيادة الفكرية والعلمية (فالصندوق مملوء بالعلم) وسلّمه مسؤولية القيادة الثورية (سلاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم).
ومع بدء الإمام وأتباعه بنشاطهم الواسع في بث تعاليم أهل البيت عليه السلام، يتسع نطاق انتشار الدعوة، ويتخذ أبعاداً جديدة تتعدى مناطقها السابقة في المدينة والكوفة، وتجد لها شيوعاً في أصقاع بعيدة عن مركز السلطة الأموية، وخراسان في مقدمة تلك البقاع كما تحدثنا الروايات التاريخية2.

إن الواقع الفكري والإجتماعي المزري للناس كان يدفع الإمام وأتباعه نحو حركة دائبة لا تعرف الكلل والملل من أجل تغيير هذا الواقع والنهوض بالواجب الإلهي إزاء هذا الإنحراف.
إنهم يرون غالبية الناس قد خضعوا للجو الفاسد الذي أشاعه بنو أمية فغرقوا إلى الأذقان في مستنقع حياة اسنة موبوءة، حتى أضحوا كحكامهم لا يفقهون قولاً، ولا يصغون لنصيحة سمعاً "إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا"3.

ومن جهة أخرى يرون دراسات الفقه والكلام والحديث والتفسير تنحو منحى استرضاء الطاغوت الأموي وتلبية رغباته ومن هنا فإن كل أبواب عودة الناس إلى جادة الصواب كانت موصدة لولا نهوض مدرسة أهل البيت عليه السلام بواجبها "وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا"4.

اتجهت مدرسة أهل البيت عليه السلام فيما اتجهت إلى تقريع أولئك الذين باعوا ذممهم من العلماء والشعراء، في محاولة لإيقاظ ضمائرهم أو ضمائر أتباعهم من عامة الناس.
نرى الإمام عليه السلام يقول للكميت الشاعر مؤنباً: "امتدحت عبد الملك؟.
قال: ما قلت له يا إمام الهدى، وإنما قلت يا أسد، والأسد كلب، ويا شمس، والشمس جماد، ويا بحر، والبحر موات، ويا حيّة، والحية دويبة منتنة، ويا جبل، وإنما هو حجر أصمّ.

فتبسم الإمام وأنشد الكميت بين يديه:
من لقلب متيم مستهام غير          ما صبوة ولا أحلام5

وبهذه الميمية يضع الحد الفاصل بين الإتجاه العلوي والإتجاه الأموي في المكانة والسيرة في صورة فنية رائعة خالدة.
وعكرمة تلميذ ابن عباس المعروف وصاحب المكانة العلمية المرموقة في المجتمع انذاك، يذهب لمقابلة الإمام عليه السلام، فيؤخذ بهيبة الإمام وشخصيته ووقاره ومعنوياته وفكره، فيقول له: "يا ابن رسول الله لقد جلست مجالس كثيرة بين يدي ابن عباس وغيره، فما أدركني ما أدركني انفاً".

فقال له الإمام عليه السلام: "إنك بين يدي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه"6.
ومن الأبعاد الأخرى لنشاط مدرسة أهل البيت في هذه المرحلة سرد ما أحاط بأهل بيت رسول الله وأتباعهم من ظلم واضطهاد وقتل وتشريد وتعذيب في محاولة لاستثارة عواطف الناس الميتة، وتحريك ضمائرهم الرخوة، واستنهاض عزائمهم الراكدة، وتوجيههم وجهة ثورية حركية.

عن المنهال بن عمر قال: كنت جالساً مع محمد بن علي الباقر عليه السلام إذ جاءه رجل فقال له: كيف أنتم؟ فقال الإمام الباقر: "أوما ان لكم أن تعلموا كيف نحن؟ إنما مثلنا في هذه الأمة مثل بني إسرائيل، كان يذبح أبناؤهم وتستحيا نساؤهم، ألا وإن هؤلاء يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا، زعمت العرب: أن لهم فضلاً على العجم، فقالت العجم: وبما ذلك؟ قالوا: كان محمد منا عربياً. قالوا لهم: صدقتم. وزعمت قريش أن لها فضلاً على غيرها من العرب، فقالت لهم العرب من غيرهم: وبما ذاك؟ قالوا: كان محمد قرشياً. قالوا لهم صدقتم. فإن كان القوم صدقوا فلنا فضل على الناس لأنا ذرية محمد وأهل بيته وعترته، لا يشركنا في ذلك غيرنا". فقال له الرجل: والله إني لأحبكم أهل البيت. قال: "فاتخذ للبلاء جلباباً، فوالله إنه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي، وبنا يبدو البلاء ثم بكم، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم"7.

فما أن بدت علامات الهياج جراء استثارات الإمام، حتى سارع الإمام عليه السلام إلى رسم الطريق أمامه. إنه طريق مفروش بالدماء والدموع، والإمام رائد المسيرة على هذا الطريق يصيبه البلاء أولاً قبل أن يصيب شيعته.

وفي دائرة أضيق نرى أن علاقة الإمام بشيعته تتخذ خصوصيات متميزة، نراه بين هؤلاء الأتباع كالدماغ المفكر بين أعضاء الجسد الواحد، يغذيهم ويمدهم بالحيوية والحركة والنشاط باستمرار.
وتتوفر بأيدينا وثائق تبين هذا الإرتباط متمثلاً بإعطاء المفاهيم والتعاليم الصريحة لهؤلاء الأتباع، وبتنظيم مترابط محسوب بينهم.

منها وصية الإمام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي في أول لقاء له بالإمام أن لا يقول لأحد أنه من الكوفة، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة، وبذلك يعلّم هذا التلميذ الجديد، الذي لمس الإمام عليه السلام فيه قدرة على حفظ الأسرار، درس الكتمان.. وهذا التلميذ الكفوء أصبح بعد ذلك صاحب سرّ الإمام، ويبلغ به الأمر مع الجهاز الحاكم أن يقول عنه النعمان بن بشير: "كنت ملازماً لجابر بن يزيد الجعفي، فلما أن كنا بالمدينة، دخل علي أبي جعفر عليه السلام فودّعه وخرج من عنده وهو مسرور، حيث وردنا الأخيرجة (من نواحي المدينة) يوم جمعة فصليّنا الزوال فلما نهض بنا البعير إذا أنا برجل طويل ادم (أسمر) معه كتاب فناوله، فقبّله ووضعه على عينيه، وإذا هو من محمد بن علي الباقر عليه السلام إلى جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب. فقال له: متى عهدك بسيدي؟ فقال: الساعة، فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة، فقال: فَفَكّ‏َ الخاتم وأقبل يقرأه ويقبض وجهه حتى أتى على اخره، ثم أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً، حتى وافى الكوفة".

يقول النعمان بن بشير: "فلما وافينا الكوفة ليلاً بتّ ليلتي، فلما أصبحت أتيت جابر الجعفي إعظاماً له فوجدته قد خرج عليّ وفي عنقه كعاب قد علقّها وقد ركب قصبة (كما يفعل المجانين) وهو يقول: أجد منصور بن جمهور.. أميراً غير مأمور، وأبياتاً من نحو هذا فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً، ولم أقل له، وأقبلت أبكي لما رأيته، واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتى دخل الرحبة، وأقبل يدور مع الصبيان، والناس يقولون: جنّ جابر بن يزيد، فوالله ما مضت الأيام حتى ورد كتاب هشام بن عبد الملك إليّ وإليه أن أنظر رجلاً يقال له: جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه، فالتفت إلى جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفي؟ قالوا: أصلحك الله كان رجلاً له علم وفضل وحديث وحج، فجن وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم. قال: فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب. فقال: الحمد لله الذي عافاني من قتله"8.

هذا نموذج من نماذج الإرتباط بين الإمام عليه السلام وخاصة أتباعه، يوضح دقّة التنظيم والإرتباط، ويبين كذلك نموذجاً لموقف السلطة الحاكمة من هؤلاء الأتباع، ويؤكد أن الجهاز الحاكم لم يكن غافلاً تماماً عن علاقة الإمام عليه السلام بأتباعه المقربين، بل كان يراقب هذه العلاقات ويحاول اكتشافها ومجابهتها9.

وبالتدريج يبرز جانب المجابهة في حياة الإمام الباقر عليه السلام وفي حياة الشيعة ليسجل فضلاً اخر في حياة أئمة أهل البيت عليه السلام.
النصوص التاريخية الموجودة بين أيدينا وهكذا الروايات الحديثية لا تتحدث بصراحة عن حركة مقاومة سياسية حادة ينهض بها الإمام. وهذا يعود إلى عوامل كثيرة منها جو البطش والتنكيل المهيمن على المجتمع مما يفرض عنصر التقية بين أتباع الإمام الذين هم المطلعون الوحيدون على حياة الإمام السياسية. لكن ردود الفعل المتشددة التي يبديها العدو تبين عمق العمل الجهادي. فحين يتخذ جهاز حاكم مقتدر كجهاز عبد الملك بن مروان، الذي يعتبر أقوى حاكم أموي، ضد الإمام الباقر عليه السلام كل أسباب الشدة والحدة، فإن ذلك يدل دون شك على إحساس الخليفة بالمخاطر التي تواجهه جرّاء حركة الإمام وأتباعه. لو كان الإمام عليه السلام منهمكاً فقط بنشاط علمي، لا ببناء فكري وتنظيمي، فإن الجهاز الحاكم لم يكن من مصلحته أن يتشدّد مع الإمام، لأن ذلك يدفع بالإمام وبأتباعه إلى موقف ساخط متشدّد كالذي اتخذه الثائر العلوي شهيد فخ الحسين بن علي من السلطة.

باختصار، موقف السلطة المتشدد من الإمام الباقر عليه السلام يمكن فهمه على أنه رد فعل لما كان يمارسه الإمام من عمل معارض للسلطة.
من الأحداث الهامة في أواخر حياة الإمام الباقر عليه السلام استدعاء الإمام إلى الشام عاصمة الخلافة الأموية، فالخليفة الأموي أراد أن يستوثق من موقف الإمام تجاه الجهاز الحاكم فأمر باعتقاله وإرساله مخفوراً إلى الشام. (وفي بعض الروايات أن الحاكم هذا شمل ابنه الشاب أيضاً جعفر الصادق عليه السلام).

يؤتى بالإمام عليه السلام إلى قصر الخليفة. وهشام أملى على حاشيته طريقة مواجهة الإمام لدى وروده. تقرر أن يبتدئ الخليفة ثم تليه الحاشية بإلقاء سيول التهم على الإمام، وكان يستهدف في ذلك أمرين: أولهما إضعاف معنويات الإمام وخلق حالة من الانهيار النفسي فيه. والثاني: محاولة إدانة الإمام في مجلس يضم زعيمي الجبهتين (جبهة الخلافة وجبهة الإمامة)، ثم نقل هذه الإدانة عن طريق أبواق البلاط كالخطباء ووعاظ السلاطين والجواسيس وبذلك يسجل لنفسه انتصاراً على خصمه.

يدخل الإمام عليه السلام مجلس الخليفة، وخلافاً لما اعتاده الداخلون من السلام على الخليفة بإمرة المؤمنين، يتوجه إلى كل الحاضرين، ويشير إليهم جميعاً ويقول: السلام عليكم.. ودون أن ينتظر الإذن بالجلوس يأخذ مكانه في المجلس. وهذا الموقف من الإمام أضرم نار الحسد والحقد في قلب هشام.. وبدأ هشام على الفور يقول: يا محمد بن علي لا يزال الرجل منكم قد شقّ عصا المسلمين، ودعا إلى نفسه، وزعم أنه الإمام سفهاً وقلة علم، وجعل يوبّخه10.

وبعد هشام أخذ أفراد بطانته يرددون مثل هذه التهم والتوبيخ.. والإمام عليه السلام ساكت في كل هذه المدّة ومطرق بوقار ينتظر فرصة الإجابة.. حين أفرغت البطانة ما في كنانتها وخيّم السكوت على المجلس، نهض الإمام عليه السلام وتوجه إلى الحاضرين وبعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، خاطب المجلس بعبارات قصيرة قارعة بيَّن تفاهة هذه البطانة وانقيادها البهيمي كما بيَّن فيها مكانته ومكانة أهل البيت وفق معايير إسلامية، واستخف بكل ما يحيط بالخليفة وحاشيته من هيل وهيلمان ومكانة وسلطان، فقال: "أيها الناس! أين تذهبون؟ وأين يراد بكم؟ بنا هدى الله أولكم، وبنا يختم اخركم، فإن يكن لكم ملك معجّل، فإن لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأناّ أهل العاقبة. يقول الله عز وجل: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ11.

عبارات تظلّم وتهكّم وتبشير وتهديد وإثبات وردّ في جمل موجزة ذات وقع مثير تفرض على مسامعها الإيمان بحقانية قائلها.. ولم يكن أمام هشام سبيل سوى الأمر بسجن الإمام.

الإمام عليه السلام في سجنه واصل عمله التغييري فأثّر على من معه في السجن.
بلغ الأمر هشاماً فكبر عليه أن يرى حدوث مثل ذلك في عاصمته المحصنة من التأثير العلوي. فأمر أن يؤخذ السجين ومن معه على مركب سريع )البريد( ويُرسل إلى المدينة حيث مسكنه ومحل إقامته، وأمر أن لا يتعامل أحد في الطريق مع هذه القافلة المغضوب عليها ولا يزودها بماء أو طعام12.

مرّت ثلاثة أيام من السير المتواصل انتهى خلالها ما في القافلة من ماء وطعام. ووصلوا "مدين". وأغلق أهل المدينة حسب ما لديهم من أوامر أبواب مدينتهم، وأبوا أن يبيعوا متاعاً. اشتد على أتباع الإمام الجوع والعطش. صعد الإمام عليه السلام على مرتفع يطل على المدينة نادى بأعلى صوته: "يا أهل المدينة الظالم أهلها، أنا بقية الله. يقول الله: "بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ"".

يقول الراوي: وكان بين أهل المدينة شيخ كبير فأتاهم فقال: يا قوم هذه والله دعوة شعيب عليه السلام. والله لئن لم تخرجوا إلى هذا الرجل بالأسواق لتؤخذن من فوقكم ومن تحت أرجلكم فصدقّوني وأطيعوني.. فإني لكم ناصح. استجاب أهل المدينة لدعوة الشيخ فبادروا واخرجوا إلى أبي جعفر عليه السلام وأصحابه الأسواق13.

واخر فصل في هذه الرواية يبين أيضاً بطش الخليفة الأموي وتجبّره. فبعد أن فتح أهل المدينة أبوابها للإمام وصحبه، كُتب بجميع ذلك إلى هشام. فكتب هشام إلى عامله على مدين يأمره بأن يأخذ الشيخ فيقتله رحمة الله عليه وصلواته14.

ومع كل ذلك، يتجنب الإمام عليه السلام أيّ مواجهة حادّة ومجابهة مباشرة مع الجهاز الحاكم. فلا يعمد إلى سيف، ولا يسمح للأيدي المتسرّعة إلى السلاح أن تشهره، ويوجهها توجيهاً حكيماً، وسيف اللسان أيضاً لا يشهره إذا لم يتطلب عمله التغييري الأساسي الجذري ذلك، ولا يسمح لأخيه زيد، الذي بلغ به الغضب مبلغه وثارت عواطفه أيما ثورة، أن يخرج (يثور) بل يركز نشاطه العام على التوجيه الثقافي والفكري.. وهو بناء أساس أيديولوجي في إطار مراعاة التقية السياسية.

ولكن هذا الأسلوب لم يكن يمنع الإمام كما أشرنا من توضيح "حركة الإمامة" لأتباعه الخلّص. وإذكاء أمل الشيعة الكبير، وهو إقامة النظام السياسي بمعناه الصحيح العلوي في قلوب هؤلاء، بل يعمد أحياناً إلى إثارة عواطفهم بالقدر المطلوب على هذا الطريق، والتلويح بمستقبل مشرق هو أحد السبل التي مارسها الإمام الباقر عليه السلام مع أتباعه. وهو يشير أيضاً إلى تقويم الإمام عليه السلام للمرحلة التي يعيشها من الحركة.

يقول الحكم بن عيينة: "بينما أنا مع أبي جعفر عليه السلام والبيت غاص بأهله إذ أقبل شيخ يتوكأ على عنزة (عكازة) له حتى وقف على باب البيت فقال: السلام عليك يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم سكت فقال أبو جعفر: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت حتى أجابه القوم جميعاً، وردّوا عليه السلام، ثم أقبل بوجهه على الإمام وقال: يا ابن رسول الله أدنني منك جعلني الله فداك، فوالله إني لأحبكم وأحب من يحبكم، ووالله ما أحبكم وأحب من يحبكم لطمع في دنيا، وإني لأبغض عدوكم وأبرأ منه، ووالله ما أبغضه وأبرأ منه لوترٍ كان بيني وبينه. والله إني لأحل حلالكم وأحرم حرامكم، وأنتظر أمركم، فهل ترجو لي جعلني الله فداك؟ فقال الإمام: إليّ إليّ، حتى أقعده إلى جنبه ثم قال: "أيها الشيخ، إن أبي علي بن الحسين عليه السلام أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه فقال له أبي عليه السلام: إن تمت ترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى علي والحسن والحسين وعلى علي بن الحسين، ويثلج قلبك، ويبرد، فؤادك، وتقر عينك، وتستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين.. وإن تعش ترى ما يقر الله به عينك، وتكون معنا في السنام الأعلى".

قال الشيخ وهو مندهش من عظمة البشرى: كيف يا أبا جعفر؟ فأعاد عليه الكلام، فقال الشيخ: الله أكبر يا أبا جعفر، إن أنا متُ أرد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين وتقر عيني ويثلج قلبي ويبرد فؤادي وأستقبل بالروح والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسي ههنا، وإن أعش أرى ما يقر الله به عيني، فأكون معكم في السنام الأعلى؟ ثم أقبل الشيخ ينتحب حتى لصق بالأرض. وأقبل أهل البيت‏‘ ينتحبون لما يرون من حال الشيخ. ثم رفع الشيخ رأسه وطلب من الإمام أن يناوله يده فقبّلها ووضعها على عينه وخدّه، ثم ضمّها إلى صدره وقام فودّع وخرج والإمام ينظر إليه ويقول: "من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا"15.

مثل هذه التصريحات، تزكي روح الأمل في قلوب جوّ الإضطهاد والكبت، فتكسبها زخماً ودفعاً نحو الهدف المنشود المتمثل في إقامة النظام الإسلامي العادل.
تسعة عشر عاماً من إمامة الباقر عليه السلام تواصلت على هذا الخط المستقيم المتماسك الواضح.. تسعة عشر عاماً من التعليم الإيديولوجي، والبناء، والتكتيك النضالي، والتنظيم، وصيانة وجهة الحركة، والتقية وإذكاء روح الأمل.. تسعة عشر عاماً من مسير شائك وعر يتطلب كثيراً من الجدّ والجهد وحين أشرفت هذه الأعوام على الانتهاء وأوشكت شمس عمره المبارك على المغيب، تنفس أعداؤه الصعداء، لأنهم بذهاب هذا القائد الموجّه سوف يتخلّصون من مصدر إثارة قضّ مضاجعهم وسرق النوم من عيونهم. لكنّ الإمام خيّب امالهم وفوّت عليهم هذه الفرصة، حين جعل من وفاته مصدر عطاء، ومنطلق إثارة ووسيلة توعية مستمرة! لقد وجّه ولده الصادق عليه السلام في اللحظات الأخيرة من حياته توجيهاً يمثل نموذجاً رائعاً من نماذج التقية التي مارسها الإمام الباقر عليه السلاموالأسلوب الذي استعمله في مرحلته الزمنية الخاصة.

في الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا وكذا لنوادب تندبني16، عشر سنين بمنى أيام منى"17.
وهذه الرواية لم يقف عندها من بحث في حياة الإمام الباقر وغفلوا عما فيها من دلالات كبيرة. لقد خلّف الإمام (800) درهم، وأوصى أن يخصص جزء منها لمن يندبه في منى.. وندب الإمام في منى له معنى كبير. إنه عملية إحياء ذلك المصدر الذي كان يشع دائماً بالتوعية والإثارة وخلق روح الحماس والمقاومة.

واختيار منى بالذات يعني مواصلة العمل في تمركز الوافدين من كل أرجاء العالم الإسلامي. خلال فترة الإستقرار الوحيدة في موسم الحج، فكل مناسك الحج يمرّ بها الحاج وهو في حركة دائبة مستمرة، إلاّ في منى، حيث يبيت الليلتين أو الثلاث، فيتوفر لديه الوقت الكافي لكي يسمع ويطّلع. وندب الإمام في هذا المكان سيثير التساؤل عن شخصية هذا المتوفّى، من هو فيحصلون على الجواب من أهل المدينة الذين عاصروه. إنه من أبناء رسول الله، وأستاذ الفقهاء والمحدّثين، ولماذا يندب في هذا المكان؟ ألم يكن موته طبيعياً؟ من الذي قتله أو سمّه؟ هل كان يشكل خطراً على الجهاز الأموي؟ و..و..عشرات الأسئلة كانت تثار حين يندب الإمام في هذا المكان. ثم يحصل السائلون على الإجابة..وتنتشر الأخبار في أطراف البلاد وأكنافها بعد عودة الحجيج إلى أوطانهم. وكان هناك في مواسم الحج من يأتي من الكوفة والمدينة ليجيب عن هذه التساؤلات مغتنماً فرصة تجمّع المسلمين. وليبث روح التشيع من خلال أعظم قناة إعلامية انذاك.

هكذا عاش الإمام عليه السلام، وهكذا خطط لما بعد وفاته، فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد ويوم استشهد في سبيل الله ويوم يبعث حياً.
توفيّ الإمام الباقر عليه السلام وهو في السابعة والخمسين من عمره، على عهد هشام بن عبد الملك، وهو من أكثر ملوك بني أمية اقتداراً. ورغم ما كانت تحيط بالحكومة الأموية انذاك من مشاكل ومتاعب، فإن ذلك لم يصرفها عن التامر على القلب النابض للشيعة، أي الإمام الباقر عليه السلام، فأوعز هشام إلى عملائه أن يدسوّا السم للإمام، وحقق بذلك انتصاره في القضاء على أخطر أعدائه.

* الحياة السياسية لأئمة  أهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏229، باب 4 عن البصائر، ج‏46، ص‏44.
2- من ذلك رواية أبي حمزة الثمالي يقول: "حتى أقبل أبو جعفر عليه السلام وحوله أهل خراسان وغيرهم يسألونه عن مناسك الحج" (بحار الأنوار، ج‏46، ص‏357، ط. بيروت)، وانظر حديث أحد علماء خراسان مع عمر بن عبد العزيز، وفيه أكثر من عبرة ودلالة. (بحار الأنوار، ج‏46، ص‏366).
3- من حديث للإمام الباقر عليه السلام في إرشاد الشيخ المفيد، ص‏284، وبحار الأنوار، ج‏46، ص‏288.
4- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏288.
5- المناقب، ط. 207، وهذه الميمية من هاشمياته وفيها يخاطب أئمة أهل البيت عليه السلام فيقول: ساسة لا كمن يرى رعية الناس ورعية الأنعام وهو بيت له دلالته الكبيرة.
6- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏258.
7- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏360، رواية 1، باب 100، نقلاً عن امالي الطوسي 95.
8- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏283 282 نقلاً عن الكافي، ج 1، ص‏396.
9- يؤيد هذه الحقيقة. إضافة إلى قضية جابر ونظائرها، رواية عبد الله بن معاوية الذي يسلّم الإمام الباقر عليه السلام رسالة تهديد من حاكم المدينة (بحار الأنوار، ج‏46، ص‏246، الباب 16، الرواية 34).
10- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏263، رواية 63، باب 5.
11- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏264، الباب 16، الرواية 63.
12- ويروى أنه أشاع بين أهالي المدن الواقعة على الطريق أن محمد بن علي وجعفر بن محمد تنصرا وخرجا من الإسلام (بحار الأنوار، ج‏46، ص‏3060) وشبيه ذلك ما وقع لمولانا وهو من زعماء الحركة الإسلامية المناهضة للإستعمار البريطاني في منتصف القرن التاسع عشر. فقد أشاعوا عنه أنه وهابي. وكانت هذه التهمة كافية لإسقاط هذا الرجل المناضل من أعين الناس البسطاء السذّج. الوهابية كانت مقرونة في أذهان الناس بتلك العصابة التي روّعت حجاج بيت الله واستباحت دماء المسلمين في الحجاز.. فكانت كريهة لديهم ومقيتة، وتهمة الوهابية ألصقت بهذا الرجل فتقبلتها الأذهان الساذجة دون أن تسأل عن مبرر هذه التهمة وعن إمكان أن يكون رجل مناضل مثل مولانا معتنقاً لفكره جاء بها الإنجليز إلى العالم الإسلامي )راجع كتاب: في حركة تحرير الهند (بالفارسية ط. اسيا) حين أرى موقف الناس من بعد اتهامه بالوهابية في القرن الماضي أتعجّب من وحدة المواقف وأردّد ما يقوله الشاعر العربي: الناس كالناس والأيام واحدة.
13- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏264.
14- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏313.
15- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏363 362.
16- هكذا في الأصل، ولعل الصحيح: لنوادب يندبنني.
17- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏2200.

2013-04-01