كلمة الإمام الخامنئي في الملتقى الرابع للأفكار الإستراتيجية
خطاب القائد
كلمة الإمام الخامنئي في الملتقى الرابع للأفكار الإستراتيجية-13-11-2012 م
عدد الزوار: 96
الموضوع: الحريّة
أوّلاً، إنّني مسرورٌ جدّاً، وفي الحقيقة شاكرٌ كثيراً لكلّ واحدٍ من الحضور،
خصوصاً الإخوة والأخوات الذين كانوا قد أتعبوا أنفسهم وحقّقوا وأعدّوا المقالات
وبعدها سعوا لتلخيصها. فمن الواضح أنّ المقالات قد تمّ اختصارها بشكل وافٍ، حيث
ينبغي لنا أن ننال توفيق الله لنتمكّن من أن نجد وقتاً للاطّلاع على أصول هذه
المقالات التي طُبعت ووُضعت بين الأيادي. وبينما أستبعد - أنا العبد - أن أحصل على
الفرصة المناسبة لمثل هذا الوقت، لكن على الأعزّاء أن يرجعوا إلى أصل المقالات
ويتأمّلوا فيها لأنّ لدينا عملاً مع هذه المقولة. كذلك شكر المدير المحترم والعزيز
الدكتور واعظ زاده الذي ـ وبحسب العادة ـ استطاع أن يبيّن الكثير من المطالب بمختصر
الكلام، وأن يزيل بقليل من التظاهر العقبات الكثيرة من أمام الأعمال التي ينجزها في
شتّى المجالات. حقّاً، لقد بذل جهداً كبيراً هو ومعاونوه.
من الضروريّ أيضاً أن أوجّه شكراً خاصّاً لجميع العاملين. حسنٌ، أنتم تشاهدون هذه
الأيّام نتيجةً لهذه المطبّات التي أوجدها الاستكبار العالمي، الذي هو في الواقع
العدوّ رقم واحد للحريّة، ولبلدنا وللجمهوريّة الإسلاميّة، فيما يتعلّق بالقضايا
الاقتصاديّة وتأثيرها على عمل مجموع الحكومة وفي حياة الناس ـ هواجس عامّة في
الأجواء السياسية للبلد، فما من أحد منّا فارغ البال من مثل هذه القضايا، ومع ذلك،
فإن ّهذا العمل الأساسيّ والطويل الأمد لم يتوقّف أو يتعطّل، أي إنّ هذا الاجتماع
والمؤتمر قد أقيم في وقته، بشكل دقيق وكما كان مخطّطاً له. إنّ هذا يسرّني - أنا
العبد - لذلك أشكر جميع العاملين عليه.
أهداف الملتقى الاستراتيجي للفكر
إنّ للجمهوريّة الإسلاميّة عدّة أهداف أساسيّة من وراء إقامة ملتقيات الأفكار
الاستراتيجيّة، والتي لا ينبغي لنا أن ننساها أو ندعها تغيب عن أعيننا. أحدها أنّ
البلد بحاجة ماسّة، في مجال المقولات المتعلّقة بالبنية التحتيّة، إلى الفكر
والتفكير. يوجد الكثير من المقولات الأساسيّة، وها نحن نلتقي لبحث المقولة الرابعة1،
ونرى أنّنا بحاجة للتفكير بشأنها ونعمل الفكر حولها. أنا العبد، وفي لقاء شهر
رمضان، في هذه الحسينيّة، مع مجموعة من الجامعيين ـ لا أذكر ما إذا كانوا أساتذة أو
طلبة ـ أشرت إلى كلام أحد الحاضرين وإلى الكلمات التي أُلقيت في العام السابق لذلك
اللقاء، حيث كان قد وُجّه إليّ أنّه منذ عدّة سنوات وأنتم تتحدّثون عن قضيّة العلم،
والتفتّح العلمي. قوموا بالتركيز على الفكر. لقد فكّرت في ذلك، ووجدتُ أنّ هذه
الكلام مهمٌّ جدّاً. حسنٌ، وهنا قلنا فلنتحرّك نحو التفكير بالفكر، وتفعيل الأفكار.
بالطبع، إنّ لهذه القضيّة ظروفها ومجالاتها وإمكاناتها، ونحن نمتلك بعضاً منها،
ونفتقد لبعضها، ويمكننا أن نحصّل بعضها الآخر. إنّ هذا من التحدّيات الأساسيّة لأي
شعب. إنّ شعباً مثل شعبنا لا يبقى في مكانه كالمستنقع، بل يتحرّك بشكل دائم كنهرٍ
جارٍ. فنحن هكذا، في حالٍ دائمٍ من الجريان والتقدّم. يوجد تصادم ومواجهة مع
الموانع لكنّ التقدّم لا يتوقّف. نحن شعبٌ هو هكذا؛ لذا نحتاج لأن نفكّر بهذه
القضيّة. وعليه، فإنّ الحاجة الماسّة إلى الفكر في بلدنا، وخصوصاً في المقولات
المتعلّقة بالبنية التحتيّة، يُعدّ من أهداف هذه اللقاءات.
هناك هدفٌ آخر، وهو أهميّة التواصل المباشر مع النخب. يمكنني أن آخذ كتابكم وأقرأه،
ولكن هذا يختلف عن استماعي لحديثكم منكم مباشرةً، وإن كان بصورةٍ مختصرة. وإنّ هذا
الحكم يصدق على جميع الحاضرين الذين شرّفونا هنا. فليستمعوا إلى كلمات وأحاديث
بعضهم بعضاً من دون واسطة. هذه قضيّة مهمّة أيضاً.
إيجاد الأرضيّة العلميّة
النقطة الثالثة ـ وهي في غاية الأهميّة ـ ترتبط بإيجاد الأرضيّة العلميّة لتحصيل
الأجوبة عن الأسئلة المهمّة في المقولات البنيوية والتأسيسيّة. ومثلما أشار بعض
أعزّائنا، فإنّنا نواجه أسئلةً وعلينا أن نجد لها الأجوبة. هذه الأسئلة ليست مثيرة
للشكوك، أو مبيّنة للشبهات والعقد الذهنيّة فحسب، وإنّما تطرح قضايا أساسيّة
لحياتنا الاجتماعيّة. وبادّعائنا، إنّنا جمهوريّة إسلاميّة ونظام إسلامي، تُعدّ هذه
طروحات لقضايا أساسيّة. فيجب أن تُطرح ويجب أن يجاب عليها. فهل حُلّت هذه القضيّة؟
وهل لها جوابٌ واضحٌ أم لا؟ إنّنا بحاجة في هذا المجال إلى العمل، فهذا من أهداف
هذا اللقاء.
بالطبع، لم تكن أيّ من هذه اللقاءات، وهذا اللقاء الذي نقيمه هذه الليلة واللقاءات
الثلاثة السابقة، بهدف الحسم والكلام الأخير؛ فلا أنتم تطرحون آخر الكلام، ولا أنا
العبد أطرح آخر الكلام، بل إنّنا هنا نقوم بتهيئة الأرضيّة. إنّنا نريد لهذه الحركة
أن تنطلق. ومثل هذا الجريان يُعدّ بمثابة عين فوّارة انبجست هنا من أجل أن تجري
سيّالةً فيما بعد. إنّ العمل الأساس يجب أن يبدأ بعد هذا اللقاء؛ وهو بالطبع ما
يحصل على أيدي المحقّقين والأساتذة ذوي الاندفاع والفكر الثاقب، سواءٌ أكان في
الحوزة أم في الجامعة. حسنٌ، لقد تمّ إنجاز أعمال بعد اللقاء الأوّل، والذي كان حول
النموذج الإيراني الإسلامي للتقدّم ـ لقد بيّن جناب الدكتور واعظ زاده ذلك ـ فهناك
أعمالٌ جيّدة قد أُنجزت وهي أعمال أساسيّة. واللقاء اللاحق كان حول العدالة وقد
أودع بيد ذاك المركز أيضاً. اللقاء الثالث كان حول الأسرة. وقد جرى القيام بأعمال
مهمّة في هذا المجال، سواء أكان في المركز نفسه أم في بعض المؤسّسات التحقيقيّة
والمراكز البحثيّة. لقد كان من مطالبي - أنا العبد - أن لا يكون هناك جدولٌ لهذا
العمل. فنحن منذ البداية، لم نرغب بأن يكون هناك جدول لهذا العمل؛ نحن نريد أن
يُنجز العمل، فيتّضح الجدول. وقد قلت مؤخّراً للأعزّاء إنّه من أجل أن يتحقّق مبدأ
الجريان والاستمرار في الخارج، وخصوصاً بالنسبة لمقولة تتّصف بالتّحدّي كالحريّة،
طلبنا من السادة أن يتّبعوا سياسة إعلاميّة منظّمة من أجل أن يتمكّن أصحاب الرأي،
والمهتمّون، وبعض الأشخاص الذين قد يصابون بنوع من الخمود أحياناً في هذه المجالات،
أو يكونون باحثين عن أيّ ذريعة للاندفاع في هذا العمل، أن يتمكّنوا من الاستفادة من
لقائنا في هذه الليلة ويدخلوا في هذا الخضم. لكن من غير المقرّر عندنا أن تكون "الإعلاميات"2
بالمعنى المتعارف.
مستمعٌ جيدٌ
أمّا فيما يتعلّق بموضوع لقائنا الليلة ـ أي قضيّة الحريّة ـ فهناك عدّة نقاط. إنّ
الكلمات التي ألقاها أعزّاؤنا هي كلماتٌ ممتازة. في الواقع، إنّ المرء عندما يستمع
- وأنا العبد أُعتبر مستمعاً جيّداً وأنصت بالدّقة إلى الكلمات - يستفيد. ولقد
استفدنا واقعاً من جميع الكلمات التي ألقاها الأعزّاء ـ من بعضها أكثر ومن بعضها
الآخر أقل ـ وهناك نقاطٌ ملفتة. وبالتأكيد، أقول هذا دون مجاملة. ولقد فهمنا أيضاً
من مجموع كلمات السادة كم إنّنا نعاني من فراغٍ في هذا المجال. فكلماتكم وأبحاثكم
أكّدت على ما كنت - أنا العبد - أحمله من تصوّر، حيث أدركنا كم إنّنا نعاني من نقصٍ
في هذه القضيّة. وسوف أشير هنا إلى ما نعانيه من نقص.
مسار الحريّة عند الغربيّين
حسنٌ، الحقيقة هي أنّ بحث الحريّة، بين الغربيين وفي هذه القرون الثلاثة أو الأربعة
المصاحبة لعصر النهضة وما بعده، قد شهد تفتّحاً وتبرعماً لا نظير له. والقليل من
الموضوعات، كقضيّة الحريّة في الغرب، سواء أكان في مجال العلوم الفلسفية أم في مجال
العلوم الاجتماعية أم في مجال الفنّ والأدب، قد طرح في هذه القرون الأربعة. ولهذا
علّةٌ وسببٌ أساسيّ عام، وتوجد له أسبابٌ محيطة أيضاً. العلّة العامّة هي أنّ
الأبحاث البنيويّة الأصوليّة من أجل أن تنطلق تحتاج إلى حادثة باعثة؛ أي إنّه في
الأغلب يكون هناك إعصارٌ يحرّك هذه الأبحاث الأساسيّة. فالأبحاث العميقة والمهمّة
والتي لديها طابع التحدّي، حول هذه المقولات الأساسيّة، لا تنطلق في الأوضاع
العاديّة. ينبغي أن تقع حادثة ما لتشكّل أرضية لها. كنّا قد ذكرنا أنّ هذا إشارة
إلى العامل الأساسيّ ـ ونحن هنا نذكر هذا العامل الأساسيّ ـ ويوجد أيضاً عوامل
جانبيّة. تلك الواقعة كانت واقعة عصر النهضة بالدرجة الأولى ـ النهضة على صعيد
مجموع الدول الأوروبية، بدءاً من إيطاليا التي كانت هي المنشأ، وبعدها إنكلترا
وفرنسا ومناطق أخرى ـ ثمّ بعد ذلك كانت قضيّة الثورة الصناعيّة التي حدثت في أواخر
القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر في إنكلترا. لقد كانت الثورة الصّناعيّة بحدّ
ذاتها أشبه بالانفجار الذي يفرض على البشر أن يفكّروا وعلى العلماء أن يبحثوا.
وبعدها، وفي منتصف القرن الثامن عشر، تحقّقت مقدّمات الثورة الفرنسيّة الكبرى ـ
التي كانت أرضيّة اجتماعيّة لتحقّق ثورة عظيمة ـ في منطقةٍ لم يكن فيها مثل تلك
الثورات. بالطّبع، كان لها نظيرٌ في إنكلترا قبل مئة أو مئتي عام بنحوٍ مقتضب، إلّا
أنّه غير قابل للمقارنة مع ما حدث في الثّورة الفرنسيّة.
كانت مقدّمات الثورة الفرنسيّة عبارة عن الإرهاصات التي تتحرّك تحت الرماد؛ ذاك
الشيء الذي يكون موجوداً تحت سطح المجتمع ويرصده المفكّرون. لم تستفد وقائع وأحداث
المجتمع الفرنسيّ من أفكار أمثال مونتسكيو أو روسو، كما استفاد هؤلاء من وقائع هذا
المجتمع في عملية استنباط الأفكار. وكلّ من ينظر سيلحظ هذا الأمر. أنتم تعلمون أنّ
مونتسكيو كان خارج فرنسا من الأساس، كان هناك وقائع، وقبل أن يحصل الانفجار الكبير
عام 1789م. حسناً، لقد كان انفجاراً عظيماً، ولَكَم تسبّب بالخراب والخسائر. تحت
سطح المجتمع والمدينة والبلد، كان هناك الكثير من الحوادث التي تشير إلى وجود مثل
هذا التيّار.
بخصوص الحريّة، طرحوا قضيّة العقل. كلا، أقول لكم إنّه ربّما كان هناك أربعة
مثقّفين في الثورة الفرنسيّة يتحدّثون بهذه الطريقة، أمّا في ميدان العمل وعلى
الأرض فما لم يكن يُطرح هو قضية العقل والعقلانية والتوجّه إلى العقل. كلا، لم يكن
هناك سوى قضية الحريّة؛ وتحديداً التحرّر من قيد الملكيّة والحكومة المستبدّة
المهيمنة لعدّة قرون، أي حكومة الأسرة البوربونية3 التي كانت مهيمنة على
جميع أركان حياة الناس. لم يكن الأمر منحصراً بجهاز البلاط فحسب، بل كان كل واحد من
أشراف ونبلاء فرنسا ملكاً. وما سمعتموه عن سجن الباستيل وسجنائه لم يقتصر على عدّة
أيّام، بل لعلّه بقي على حاله لعدّة قرون، أي إنّ الوضع كان مزرياً. حسنٌ، لقد كان
هناك أشخاصٌ أصحاب فكر مثل فولتير ومونتسكيو وروسّو يشاهدون هذه الأحوال، وكان
لديهم الاستعداد للتفكّر والتأمّل، ووصلوا إلى هذه الحالات وتحدّثوا، إلا أنّه لم
يكن لكلماتهم أيّ وقع على صعيد وقائع المجتمع وفي مجال العمل داخل فرنسا من الأساس.
حسنٌ، انظروا، وستجدون أنّ أيّاً من الخطب التي كانت تُلقى من قبل الخطباء الكبار ـ
كميرابو وغيره ـ لم تكن ناظرة إلى كلمات مونتسكيو وفولتير وأمثالهما، بل كانت كلّها
ناظرة إلى فساد الجهاز الحاكم واستبداده وأمثال ذلك. هذه هي واقعيّة الثورة
الفرنسيّة.
الثورة الفرنسيّة
وفجائع الأباطرة
إنّ الثورة الفرنسيّة الكبرى كانت، بأحد المعاني، ثورة فاشلة. فلم يمضِ على الثورة
إحدى عشرة أو اثنتا عشرة سنة، حتى جاء إمبراطورٌ مقتدر كنابليون، ليصبح ملكاً مطلق
الصلاحيّات لم يتمتّع بسلطته حتّى الملوك الذين كانوا قبل لويس السادس عشر المقتول
في الثورة! عندما أراد نابليون أن يتوّج نفسه ملكاً جاؤوا بالبابا لكي يضع التاج
على رأسه، لكنّ نابليون لم يسمح للبابا بذلك بل أخذ منه التاج ووضعه على رأسه
بنفسه! وهنا نضع هذه الأمور كلّها بين قوسين. بالمقارنة مع ثورتنا، لا بأس أن
يُتوجّه إلى هذه النقطة: إنّ ما لم يسمح بوقوع مثل هذه الأحداث والفجائع ولو بنحو
قليل ولو بنسبة ضئيلة في ثورتنا، هو وجود الإمام الخميني، ذاك القائد المتّبَع
والنافذ والمُطاع عند الكلّ، هو الذي لم يسمح بذلك، وإلّا فثقوا تماماً أنّه لو لم
تقع تلك الأحداث، لحدث ما يشبهها هنا. ففي المدّة الفاصلة ما بين الثورة وظهور
نابليون وإمساكه بالسلطة ـ تلك السنوات الاثنتا عشرة ـ جاءت ثلاث جماعات على رأس
الحكم، وكانت كل جماعة تأتي إلى الحكم تبيد الجماعة السابقة وتصفّيها، ثمّ تأتي
الجماعة اللاحقة وتفعل نفس فعلتها مع من سبقها. وكانت النتيجة أن رزح الناس تحت
حياة التّعاسة والشّقاء والفوضى. هكذا كانت الثورة الفرنسية الكبرى. وبالنسبة لثورة
أكتوبر الرّوسيّة كان الوضع مشابهاً من عدّة جهات ـ أي إنّها كانت تشبه الثّورة
الفرنسيّة الكبرى ـ غاية الأمر إنّه في (ثورة أكتوبر) وُجد وضعٌ خاصّ وعوامل مختلفة
أخرى كانت توجّه الناس بشكل ما وتسيطر عليهم، لا بأس أن يتمّ الالتفات إليها. وفي
المحافل التي كنت - أنا العبد - أحضر فيها - سواء أكان في المحافل التاريخيّة أم في
المحافل الجامعيّة ـ لم أكن أرى، وللأسف، توجّهاً إلى هذه القضايا الموجودة في هذه
الثورات.
بالطبع، أنتم تعلمون أنّه قد وقعت عدّة ثورات في فرنسا. الثورة الفرنسية الكبرى
وقعت في نهاية القرن الثامن عشر، وبعدها بنحو أربعين سنة حدثت ثورة أخرى، وكذلك
بعدها بعشرين سنة، وقعت ثورة أخرى وكانت ثورة شيوعيّة. فأوّل ثورة شيوعيّة في
العالم حدثت في فرنسا، حيث تمّ تشكيل الكيانات الاشتراكيّة.
بناءً عليه، إنّ عوامل نموّ هذه الحركة الفكريّة كانت على الشكل الآتي: بالدرجة
الأولى كان عصر النّهضة. بالتأكيد، إنّ واقعة عصر النّهضة لم تكن واقعة دفعيّة. لقد
وقعت أحداثٌ كثيرة على مدى مئتي سنة من بدايات عصر النّهضة، وإحداها كانت قضيّة
الثّورة الصّناعيّة، ومنها أيضاً قضيّة الثورة الفرنسيّة الكبرى. كلّ هذه أدّت إلى
طرح قضيّة الحريّة، ولهذا تمّ العمل عليها. كتب الكثير من الفلاسفة آلاف الأبحاث
والمقالات والكتب. وكُتبت مئات التّصانيف في باب الحريّة في جميع هذه البلدان
الغربيّة. بعدها، انتقل هذا الفكر إلى أمريكا وهناك أيضاً عملوا على نفس المنوال.
الحركة الدستوريّة
(أمّا بالنسبة لنا)، فإلى ما قبل المشروطة (الحركة الدستوريّة) لم يكن لدينا تلك
الوضعية من قبيل إيجاد تيّار فكريّ حتّى ننشغل بالتفكّر بمقولة كالحريّة. وكانت
المشروطة فرصةٌ ممتازة، حيث مثّلت حادثة كبرى ترتبط مباشرةً بقضيّة الحريّة. لهذا،
شكّلت فرصة مناسبة لتحريك واستثارة هذا الحوض الرّاكد لفكرنا العلميّ ـ سواء في
الحوزات الدينيّة أم في غيرها؛ إعصارٌ ينبعث وتُنجز الأعمال، وهذا ما فعلته. ثمّ
طُرحت الأفكار المتعلّقة بالحريّة. غاية الأمر أنّها كانت تعتريها نقيصة كُبرى لم
تسمح لنا بأن نتحرّك على الطريق الصحيح لهذا الفكر أو نتقدّم عليه. وتلك النقيصة هي
عبارة عن نفوذ الأفكار الغربيّة تدريجياً إلى داخل أذهان مجموعة من المثقّفين، قبل
عدّة سنوات من المشروطة ـ لعلّه لعقدين أو ثلاثة قبلها ـ بواسطة العناصر
الأرستقراطيّة، والأمراء وعمّال البلاط. نحن عندما نقول مثقّفين، كان ذلك في العصر
الأوّلي مساويّاً للأرستقراطيّة، أي أنّه لم يكن لدينا مثقّف غير أرستقراطي،
فالمثقّفون عندنا كانوا بالدّرجة الأولى من رجال البلاط والتّابعين والمريدين لهم،
فهؤلاء كانوا قد ارتبطوا منذ البداية بالفكر الغربيّ في مجال الحريّة. لهذا، عندما
تتناولون مقولة الحريّة في المشروطة ـ وهي مقولةٌ حافلةٌ بالصّخب والضّجيج ـ ترون
تلك النّزعة المعاديّة للكنيسة في الغرب كشاخص مهم للحريّة، بيد أنّها طُرحت هنا
تحت عنوان المسجد وعالم الدّين والدّين. حسنٌ، هذا كان قياساً مع الفارق، فنزعة عصر
النّهضة، في الأساس، كانت نزعة معادية للدين وللكنيسة لهذا تأسّست وأقيمت على قاعدة
النّزعة الإنسانيّة (الهيومانيزم). وبعدها قامت جميع الحركات الغربيّة على أساس هذه
النّزعة الإنسانيّة واستمرّت إلى يومنا هذا على هذا المنوال. ومع كل الاختلافات
التي طرأت، كان الأساس هو النّزعة الإنسانيّة، أي كان الأساس هو الكفر والشرك ـ ولو
وُجد مجال لاحقاً فسوف أشير إلى هذا ـ وهذا الأساس بعينه هو الذي وفد إلى بلادنا.
أنتم تلاحظون أنّه عندما كان كتّاب المقالات من المثقّفين، والسياسيين ومن أضرابهم،
حتى ذاك المعمّم الذي لبس لبوس المثقّفين، عندما كانوا يكتبون مقالة أو كتاباً بشأن
المشروطة كانوا يكرّرون عين الكلمات الغربيّة ولا أكثر. لهذا لم يكن هناك أيّ نوع
من التجدّد والتوليد (الخلّاقيّة).
استيراد المنظومات الفكريّة
لاحظوا، هذا من خصائص الفكر المقلّد. فأنتم عندما تأخذون هذه الوصفة من طرفٍ ما من
أجل أن تقرؤوها وتعملوا بها، عندها لن يكون هناك أيّ معنىً للتجدّد والتوليد. فلو
أنّكم أخذتم منه العلم أو الدّافع أو الفكر أو المُثل، وأنزلتموها إلى ميدان العمل
والتطبيق سيكون هناك توليد (خلّاقيّة). لكنّ هذا لم يحصل، لهذا لم يتحقّق التوليد
فيما بعد. لهذا، لم يطرأ أيّ كلامٍ جديد أو مُثل جديدة أو أي منظومة فكريّة جديدة
في مجال العمل المرتبط بالحرّيّة، كما في تلك المنظومات الفكريّة التي للغرب.
الكثير من أصحاب الفكر في الغرب لديهم منظومة فكريّة بخصوص الحريّة. فقد كان لكلّ
من الأعمال النقديّة التي دارت حول الليبراليّة القديمة، وتلك التي أُوردت على
النّسخ الجديدة لليبرالية والليبرالية الديمقراطيّة وعلى تلك الأشياء ما بعد
الليبراليّة، التي تعود مثلاً إلى القرن السابع عشر أو السادس عشر، كان لكلٍّ منها
منظومتها الفكريّة؛ لها بداية، ونهاية، وتجيب عن أسئلة كثيرة. ونحن لم نوجد حبّة
واحدة منها في بلدنا، مع أنّ مصادرنا كثيرة، فنحن لسنا فقراء بالمصادر ـ كما أشار
الأعزّاء ـ أي إنّنا في الواقع نستطيع أن نؤمّن مجموعة فكريّة مدوّنة ومنظومة
فكريّة كاملة في مجال الحريّة، تجيب عن جميع الأسئلة الدّقيقة والعريضة للحريّة.
بالطّبع هذا ليس عملاً سهلاً، فهو يحتاج إلى همّة. نحن لم نقم بهذا العمل. ففي
الوقت الذي لدينا مصادر، قمنا باستيراد منظوماتهم الفكريّة، وهنا كان لكلّ واحد
روابطه، فبعضهم كانت لديه روابط مع النّمسا فيأتي بكلام العالم النمساوي، وآخر لديه
معرفة باللغة الفرنسيّة فإنّه يأخذ من فرنسا، وآخر مع إنكلترا أو ألمانيا فيقلّد
بحسب اللغة الإنكليزية أو ما جاء باللغة الألمانية، فصار الأمر تقليداً.
والمعارضون، الذين اعتُبروا معارضين للحريّة لمّا وجدوا هذه الكلمات معادية للدين
والمسائل الدينيّة قاموا بمواجهتها، وفي الواقع، دخلوا في هذه المعمعة نفسها، فكلٌّ
من هاتين الفئتين علقتا في هذه القناة الضيّقة.
لدينا اليوم نقصٌ وثغرات وتصدّعات كثيرة. ومع أنّنا نمتلك المصادر فليس لدينا
منظومة فكريّة. وفي اجتماعنا اليوم، برأيي إنّ الدكتور بزرغر ـ ما لم أكن مخطئاً ـ
هو العزيز الوحيد الذي عرض منظومةً. من الممكن أن تعتبروا أنّ تلك المنظومة ناقصة،
فلا اعتراض، لكن علينا أن نتّجه نحو بناء المنظومة، أي أن نضع القطع المختلفة لهذه
الأحجية في مكانها، ونصنع لوحةً كاملة، فنحن بحاجة إلى هذا الأمر. ومثل هذا العمل
ليس عمل ذرّة أو ذرّتين، أو جلسة أو جلستين، إنّه عملٌ جمعيّ ويحتاج إلى تسلّط
ضروريّ، سواءٌ أكان على المصادر الإسلاميّة أم على المصادر الغربيّة، وسوف أذكر هذا
أيضاً.
موضوع الحريّة
أذكر هنا نقطتين أو ثلاثاً. المسألة الأولى تتعلّق بتبيين الموضوع. انظروا، لقد
أشار الأعزّاء هنا إلى الحريّة المعنويّة بذاك المعنى الذي جاء في بعض رواياتنا،
والتي كان قد أشار إليها بعض مفكّرينا كالمرحوم الشهيد مطهّري، وهي أعلى أنواع
الفضائل الإنسانية ـ فلا شكّ في هذا ـ غاية الأمر أنّها ليست محل بحثنا. ففي
الأساس، إنّ بحثنا ليس بشأن الحريّة المعنويّة التي تعني السلوك إلى الله والقرب من
الله والسير في وادي التوحيد، الذي كان من نتاجاته أمثال الملّا حسين قلّي الهمداني
4أو المرحوم السيّد ميرزا القاضي أو المرحوم العلّامة الطبطبائي 5،
وإنّما بحثنا يتعلّق بالحريّات الاجتماعيّة والسياسيّة، والحريّات الفرديّة
والاجتماعيّة، فالقضيّة اليوم في العالم هي هذه.
حسنٌ جداً، من الممكن أن يكون لدينا مئة مسألةٍ أخرى لا يعرف الغرب عنها شيئاً ـ
مثال ذاك السلوك المعنويّ وأمثاله، فلنبحث ذلك في محلّه. ما نحن بصدده الآن هو
الحريّة بهذا المعنى المتداول والرّائج في المحافل الجامعية والسياسية والثقافية
لعالم اليوم التي تبحث بشأن الحريّة. نحن نريد أن نبحث فيما يرتبط بهذا (الجانب).
إنّ الحريّة المعنويّة بذاك المعنى المتعلّق بالسلوك إلى الله، والقرب من الله،
والنّظر إلى الله، وحبّ الله وأمثاله سيكون موضوعاً آخر في محلّه. هناك حرّيّة أخرى
يمكن عدّها بأحد المعاني حريّة معنويّة وهي التحرّر من مخالب العوامل الدّاخليّة
المانعة من عملنا الحرّ في المجتمع، أو مانعة من فكرنا الحرّ في المجتمع، كالخوف من
الموت والخوف من الجوع، والخوف من الفقر. وقد أشير في القرآن إلى هذه المخاوف:
﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾
(المائدة، 44)،
﴿فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ﴾
(آل عمران، 175)، وفي خطاب للنبي:
﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن
تَخْشَاه﴾
(الأحزاب, 37) أو الخوف من سلب الامتيازات، فافرضوا أنّ لنا في هذا الجهاز امتيازاً
معيّناً، فإنّنا لو قلنا كلاماً وأعملنا مثل هذه الحريّة وأمرنا بالمعروف فإنّنا
نسقط. أو الطّمع الذي يؤدّي إلى أن لا أذكر عيبكم، وأن لا أتعامل معكم بحريّة ـ
أنتم أصحاب القدرة والسّلطة ـ لأجل أنّني طامعٌ بكم. أو الحسد أو العصبيّات الخاطئة
والتي لا محلّ لها، أو التحجّر، فإنّ هذه كلّها أنواعٌ من الموانع الدّاخليّة،
والتي يُعدّ التحرّر منها حريّة معنويّة.
لهذا لدينا اصطلاحان بشأن الحريّة
المعنويّة: أحدهما، ذاك الاصطلاح الأوّل الذي هو عبارة عن العروج إلى الله والقرب
من الله وحبّ الله وأمثاله. وهذا لا يدخل في بحثنا أساساً، فله مقولة أخرى، والآخر
هو الحريّة المعنويّة بمعنى التحرّر من القيود والأغلال الدّاخليّة التي تمنعني من
الذهاب إلى الجهاد، ومن الذهاب إلى المواجهة، ومن أن أتكلّم بصراحة، ومن أن أعلن
مواقفي علانيّةً، وتجعلني أبتلى بالنّفاق وأكون ذا وجهين. (فقضية) مواجهة موانع
الحريّة قابلة لأن تُطرح للبحث.
نطاق الحريّة في الإسلام
النقطة اللاحقة هي أنّنا نريد أن نتعرّف إلى رأي الإسلام، نحن الذين لا نجامل
أحداً. لو أردنا تتبّع الآراء غير الإسلاميّة ـ كل ما تنضجه أذهاننا وتنشئه ـ
فإنّنا سنُبتلى بتلك الاضطرابات التي ابتُلي بها المفكرّون الغربيّون في المجالات
المختلفة، سواءٌ أكانت في الفلسفة أم في الأدب والفنّ أم في المسائل الاجتماعيّة،
أي بالآراء المتضاربة والمتنوّعة والمتضادّة والتي لا يكون لها في الأغلب استمرار
وامتدادٌ عمليّ. كلاّ، إننا نسعى للتعرّف إلى رأي الإسلام وموقفه.
فانظروا، إنّنا نصنع لأنفسنا في بحث الحريّة أوّل نطاق 6، فما هو هذا
النّطاق؟ إنّه عبارة عن أننا نريد رأي الإسلام فنحدّ أنفسنا بنظر الإسلام والإطار
الإسلامي، هذا هو أوّل نطاق. ففي بحث الحريّة لا نخشى النّطاق؛ لأنّه عندما يُقال
الحريّة فإنّها في معناها الأوّليّ ـ الذي هو بالحمل الأوّلي الذاتي ـ التحرّر،
وأيّ شيء يكون له أدنى منافاة مع هذا التحرّر يصبح ثقيلاً على ذاك الذي يريد أن
يبحث بشأن الحريّة، فيسعى نحو الاستثناء، والقاعدة هي عبارة عن التحرّر المطلق.
إنّه يسعى نحو هذا الذي يُعبّر عنه "إلّا ما خرج بالدليل"، فيقول: حسنٌ، في هذه
المجالات لا يوجد حريّة، وفي تلك المجالات لا يوجد حريّة، وإذا تجاوزنا هذه
المجالات يوجد حريّة. هذا هو الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه الإنسان في تعامله مع بحث
الحريّة. وأنا أقول إنّ الأمر ليس كذلك، فمنذ البداية لا يوجد فرضيّة مسبقة تريد أن
تمنحنا الحريّة المطلقة ـ حيث سأذكر هنا ما هو منشأ الحريّة في الإسلام من الأساس
ـ، فليس لدينا منذ البداية مثل هذا الفرض المسبق بأنّ الحريّة المطلقة هي حقّ
الإنسان ومرتبطة به وأنّها قيمة له، وهنا ننظر لنرى ما هي هذه الاستثناءات، فأيّ
منها تحت عنوان "ما خرج بالدّليل"؛ كلّا، القضيّة ليست كذلك، إنّنا لا نخشى التحديد
والنّطاق، فمثلما قلت إنّ أوّل نطاقٍ وضعناه بشأن أبحاث الحريّة في الإسلام هو أن
نقول في "الإسلام"، أي إنّنا نضع لها منذ البداية إطاراً ونحدّد لها نطاقاً من
الخطوة الأولى. فما هي الحريّة في الإسلام وما هو معناها؟ فمثل هذا صار نطاقاً.
كلّا، إنّ بحثنا في الأساس هو هذا.
في الآية المعروفة من سورة الأعراف المباركة يقول:
﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم﴾
(الأعراف, 157). إنّ هذه أوضح آية في القرآن حول الحريّة، حيث تضع الإصر. والإصر هو
تلك الحبال التي تُربط بها الخيمة من أجل أن لا تطيح بها الرّياح، وهي التي تُربط
بإحكام بالأرض، ولكنّه أخلد إلى الأرض، هذا هو الإخلاد إلى الأرض. فأواصرنا هي تلك
الأمور التي تربطنا بالأرض وتمنعنا من التحليق. والغلّ هو تلك السلسلة المعدنية
التي جاء النبيّ من أجل رفعها. في هذه الآية، وقبل أن يقول:
﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِم﴾،
يقول:
﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِث﴾
فماذا يعني الحلال والحرام؟ الحلال والحرام يعني وضع الحدود والمنع، وهما متلازمان
مع الممنوعيّة. فمن الأساس، لا ينبغي أن نأبى وجود الحدود والمنع في أذهاننا أثناء
البحث حول الحريّة.
الحريّة في منطق الغرب
بعض السّادة قالوا بوجود اختلافات جوهريّة بين الإسلام والغرب في النّظر إلى
الحرّية ونظرية الحريّة. ففي الغرب، طُرحت الليبراليّة بالخصوص، وبالطبع، يوجد
مذاهب أخرى، لكنّها جميعاً مشتركة بهذه الجّهة. أجل، صحيحٌ أنّ هذه الاختلافات التي
ذكرها السّادة موجودة، لكنّ الاختلاف الأهم هو أنّ منشأ الحريّة في الليبرالية تحت
عنوان الحقّ أو القيمة هو عبارة عن النّزعة الإنسانية؛ لأنّ محور عالم الوجود
والاختيار في عالم الكون هو هذا الإنسان، وذلك لا يكون ذا معنى من دون الاختيار،
لهذا يجب أن يكون حاصلاً على الاختيار والحريّة. وبالطبع إنّ هذا الاختيار غير
الاختيار في "الجبر والاختيار". لقد طرح بعض السّادة "الجبر والاختيار". إنّ بحث
الاختيار في "الجبر والاختيار" هو أنّ الإنسان لديه قدرة الاختيار ـ القدرة الذاتية
والطبيعية ـ لكن هنا إنّ الحديث عن الاختيار يقول حقّ الاختيار، فلا يوجد تلازم
قطعيّ بين القدرة على الاختيار وحقّ الاختيار. بالطبع، يمكن أن نفرض مجموعة من
اللوازم لكن ليس معلوماً أنّها ستكون مقنعة هكذا. لهذا فإنّ ما يقولونه هو هذا،
إنهم يقولون إنّ الإنسان هو المحور، أي أنّ ربّ عالم الوجود في الواقع هو الإنسان،
ولا يمكن أن يكون موجوداً من دون قدرة الاختيار والإرادة. أي إنّه من دون إعمال
الإرادة ـ والتي هي المعنى الآخر للحريّة ـ لا يوجد إمكان أن نفرض أنّ الإنسان هو
صاحب الاختيار في عالم الوجود. هذا هو أساس بحث الحريّة. وهذا هو مبنى الفكر
الإنسانيّ بشأن الحريّة (الهيومانيزم).
الحريّة في منطق الإسلام
أمّا في الإسلام فالقضيّة منفصلة تماماً عن هذا الأمر. ففي الإسلام المبنى الأساسيّ
للإنسان هو التوحيد. بالطبع، لقد ذكر الأعزّاء بعض الموارد الأخرى أيضاً ـ وهي
أيضاً صحيحة ـ. لكنّ النقطة المركزية هي التوحيد. والتوحيد ليس منحصراً بالاعتقاد
بالله، بل هو عبارة عن الاعتقاد بالله والكفر بالطاغوت والعبودية لله وعدم العبودية
لغير الله:
﴿تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾
(آل عمران,64)، لا يقول ولا نشرك به أحداً، بالطبع، هناك موردٌ جاء فيه كلمة أحدا،
لكنّه هنا بمعنىً أعم، حيث يقول لا نشرك به شيئاً. فلا نجعل أي شيء شريكاً لله؛ أي
إنّكم إذا اتّبعتم العادات دون دليل فهذا خلاف التوحيد، وإذا اتّبعتم البشر يكون
كذلك، وهكذا في مورد الأنظمة الاجتماعية ـ فكل ما لا ينتهي إلى الإرادة الإلهية ـ
يكون في الواقع شركاً بالله، والتوحيد هو عبارة عن الإعراض عن هذا الشرك:
﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن
بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ﴾
(البقرة, 256)، يوجد الكفر بالطاغوت وبعده الإيمان بالله. حسنٌ، هذا معناه تلك
الحرية، فأنتم أحرارٌ من جميع القيود غير العبودية لله.
أنا العبد، وقبل سنوات في صلاة الجمعة في طهران، تحدّثت عن بحث الحريّة في عشر أو
خمس عشرة جلسة، وقد أشرت هناك إلى مسألة وقلت: نحن في الإسلام نعتبر أنفسنا عبيداً
لله، لكن في بعض الأديان الناس هم أبناء الله. قلت ذاك مجاملة، إنّهم أبناء الله
وعبيدٌ لآلاف البشر، عبيدٌ لآلاف الأشياء والأشخاص! الإسلام لا يقول هذا، بل يقول
كن ابناً لمن تشاء ولكن كن عبداً لله فقط. لا ينبغي أن تكون عبداً لغير الله. فأساس
المعارف الإسلامية في مورد الحرية ناظرٌ إلى هذه النقطة.
هذه اللّماظة لأهلها
ذاك الحديث المنقول عن أمير المؤمنين، وبالظاهر عن الإمام السجّاد، يقول: "أوَلا
حرٌّ يدع هذه اللُّماظة لأهلها"7، هذه هي الحريّة ـ ألا يوجد
حرٌّ يترك هذا المتاع الحقير ـ اللُماظة هي سوائل الأنف أو تلك التي تخرج من فم
الحيوان الوضيع ـ، ليتركها لأهلها؟ إلى هنا لا يُفهم شيء. من الواضح أنّ الحرّ هو
الذي يترك هذا الأمر لأهله ولا يسعى نحوه. فيقول بعد ذلك، "فليس
لأنفسكم ثمنٌ إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها". من المعلوم أنّهم يريدون
أن يجعلوا لتلك اللماظة قيمة وثمناً، أي أنّهم كانوا يقدّمون تلك اللُماظة ليبادلوا
بها أنفسهم ووجودهم وهويّتهم وشخصيّتهم، فالقضيّة أنّ هناك معاملة تجري وهو ينهى
عنها. فإذا أردتم أن تقوموا بهذه المعاملة فلماذا تبيعون أنفسكم لقاء هذه اللُماظة؟
بل اجعلوا ذلك فقط مقابل الجنّة والعبودية لله. لهذا، فإنّ النقطة المركزية هي هذه.
بالطبع يوجد نقطة مركزية أخرى هي عبارة عن الكرامة الإنسانيّة، والتي تشير إليها
"وليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة"، حيث ندخل الآن في هذا البحث.
مصادرنا سبقت الأوروبيّن
ويوجد نقطةٌ أخرى وهي أنّنا في تمسّكنا بالمصادر الإسلامية ـ مثلما أشار بعض
السّادة يوجد مصادر قرآنية وغير قرآنية وحديثية كثيرة وكثيرة؛ حيث كنت، أنا العبد،
قد وجدت فرصة ومجالاً للبحث في تلك السلسلة من الخطب في ذلك الوقت، ووجدت عدّة من
تلك المصادر وقرأتها في صلاة الجمعة تلك. لا ينبغي أن نكون بصدد هذا الأمر فقط وهو
أن نثبت أنّه لم يكن الغرب ولا أوروبّا من أهدانا بحث الحريّة؛ لأنّه في بعض
الأحيان نستخدم هذا مقابل من يقول: لماذا إنّ بعض المتغرّبين يقولون إنّ هذه
المفاهيم قد علّمنا إيّاها الأوروبيون، كلا، إنّ عظماء الإسلام قد ذكروا ذلك قبل
ظهور هذه الأبحاث في أوروبا بقرون. حسنٌ جداً، هذه فائدة، لكن الأمر لا ينبغي أن
يكون هكذا فقط. يجب علينا أن نرجع إلى المصادر كي نتمكّن من استنباط تلك المنظومة
الفكرية المتعلّقة بالحريّة من مجموع تلك المصادر.
زوايا البحث في الحريّة
النقطة الأخرى هي أنّه يمكننا أن نبحث بشأن الحريّة من أربع زوايا نظر: أحداها من
منظار الحقّ بالاصطلاح القرآني، لا بالاصطلاح الفقهي والحقوقي، وسوف أشير إلى هذا
بشكل مختصر موضّحاً. وإحداها من منظار الحقّ بالاصطلاح الفقهي والحقوقي، الحقّ
والملك، والحقّ في قبال الملك، وإحداها من منظار التكليف. وإحداها أيضاً من منظار
النظام القيمي.
الحقّ بالاصطلاح القرآني
وبرأيي، البحث الأوّل هو الأهمّ؛ أي أن نعمل على الحرّية من منظار الحقّ بالاصطلاح
القرآني، فالحقّ في الاصطلاح القرآني ـ والذي لعلّه تكرّر في القرآن كمصطلح الحقّ
أو عبارة الحقّ أكثر من مئتي مرّة، وهو أمرٌ عجيبٌ جدّاً. والحقّ في القرآن له
معنىً عميق ووسيع، حيث إنّه يمكن بشكل مختصر ومجمل التعبير عنه بكلمتين بمعنى سطحيّ
وبمعنى جهاز منظّم وهادف. فالله تعالى في آيات عديدة من القرآن يقول إنّ كل عالم
الوجود قد خُلق على أساس الحقّ:
﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾
(الدخان، 39)،
﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ﴾
(الجاثية، 22)، أي أنّ نظام أو جهاز عالم الوجود وجهاز الخلقة ـ من جملتها وجود
الإنسان الطبيعي بمعزلٍ عن قضية الاختيار والإرادة في الإنسان ـ هو جهازٌ مصنوعٌ
ومُعدّ، ومترابط ومتّصل ببعضه بعضاً، وله نظامٌ وهدف. فيما بعد يبيّن هذه المسألة
نفسها بشأن التشريع. لقد أشرت في مورد التكوين إلى بعض الآيات. وفي مورد التشريع
يقول:
﴿نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾
(البقرة, 176)،
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا﴾
(البقرة، 119)،
﴿لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾
(الأعراف، 43)، فهذا الحقّ وذاك الحقّ، هذا في عالم التكوين وذاك في عالم التشريع.
ويعني ذلك أنّ عالم التشريع متطابق مئة بالمئة مع عالم التكوين بحسب الحكمة
الإلهيّة. ويمكن لإرادة الإنسان أن تخرّب بعض زواياه.؛ لأنّه متطابق مع عالم
التكوين، والجهة هي جهة الحقّ ـ أي إنّ كلّ ما ينبغي أن يكون، تقتضيه الحكمة
الإلهية ـ لهذا، فإنّ تلك الحركة العامّة والكلّية ستتغلّب في النهاية على جميع هذه
الأعمال الجزئية التي تتعدّى هذا الطريق وتتخلّى عنه وتنحرف. لكن، من الممكن أن
تحصل أنواعٌ من المخالفات، هذا هو عالم التكوين وهذا هو عالم التشريع. ومن موادّ
هذا العالم إرادة الإنسان، ومن موادّ هذا التشريع حريّة الإنسان، فهذا هو الحقّ
إذاً. وبهذه النّظرة نتطلّع إلى قضية الحريّة وهي حريّة الحقّ مقابل الباطل.
الحقّ بالاصطلاح الحقوقي
وبمنظارٍ آخر يكون بلحاظ الحقّ بالاصطلاح الحقوقيّ حيث قلنا إنّه يُعطى قدرة
المطالبة ـ أي لديه خصوصيّة تمكنّه أن يطالب بشيءٍ ـ وهو أمرٌ يختلف مع بحث
الاختيار في حقّ الاختيار في "الجبر والاختيار".
ومنها قضية التكليف حيث ينبغي أن ننظر إلى الحرّية من منظار تكليفٍ ما. فليس من
الصحيح أن نقول: حسنٌ جداً إنّ الحريّة أمرٌ جيّد لكنّني لا أريد هذا الشيء الجيّد،
كلّا، لا يصحّ ذلك، يجب على الإنسان أن يسعى إلى الحرّيّة، سواء أكانت حريّته أم
حرّيّة الآخرين. فلا ينبغي أن يسمح لأحدٍ أن يبقى في الاستضعاف والمذلّة
والمحكوميّة. يقول أمير المؤمنين عليه السلام : "لا تكن عبد غيرك وقد
جعلك الله حرّاً"8. ويقول القرآن أيضاً:
﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ﴾
(النساء، 75)، أي إنّكم مكلّفون بتحقيق حريّة الآخرين ولو بالقتال، حيث إنّ هذا
أيضاً يرتبط بأبحاثٍ متنوّعة.
النقطة الرابعة هي القيم. حيث إنّ هذا الأمر بحسب نظام القيم الإسلامية يُعدّ من
عناصر الدّرجة الأولى. بالطبع، هو تلك الحرية الموجودة.
حسنٌ، سوف أختم كلامي حول مقارنة ما عندنا مع الآراء الغربية، نحن الذين نريد أن
نبحث بشأن قضية الحرية ونحقّق ونتقدّم، فهذه نقطة أساسية. حسنٌ، إنّ الأبحاث التي
قام بها السادة والسيدات كلّها تشير إلى وجود هوّة عميقة بين نظرة الإسلام ونظرة
الغرب، وهذا أمرٌ صحيح. هذا هو الأمر. إنّ المنشأ الأساس ـ كما ذكرنا ـ هو أنّ
مِلاك الحرية ومعيارها هناك هو بحث سيادة الإنسان، وهنا بحث سيادة الربّ، العبودية
لله والتوحيد الإلهي؛ وهذا محفوظٌ في مكانه. تارة ننظر إلى الآراء الغربيّة ونرى
أنّها لا تمتلك نتاجات جيّدة وواقع القضية هو هذا ليس غير. وهنا كلّ هؤلاء
المفكّرين البارزين والعظماء كانوا قد تحدّثوا حول الحرّية وبحثوا، فأين هم الآن؟
أين هو عالم الغرب بلحاظ العمل والسّلوك، بلحاظ تلك الأمور التي ذكروها وأرادوها؟
وتلك الأطر التي تمّت رعايتها وملاحظتها ليس لها وجود. فلو فرضنا أنّ ما نراه اليوم
في واقع الغرب هو ترجمة عمليّة لها تماماً (أي لتلك الأطر) فإنّ وضعهم عندئذٍ سيكون
سيّئاً جدّاً؛ وذلك لأنّ حال الغرب اليوم بلحاظ الحريّة هو حالٌ مؤسفٌ وسيّئ، أي
إنّه لا يمكن أن يستحقّ أي دفاع.
الحريّة الاقتصاديّة
نجد الحرّية الاقتصادية اليوم في الغرب على تلك الشاكلة التي أشار إليها السّادة.
في الدائرة الاقتصادية: توارث المناصب الاقتصادية بواسطة أشخاص معدودين. فلو استطاع
أيّ إنسانٍ أن يوصل نفسه بالاحتيال أو التزوير أو أي شكل آخر، إلى ملعب المتسلّطين
الاقتصاديين، فإنّ كل شيء يصبح له. بالطبع، لا ينظرون في أمريكا إلى السوابق
الأرستقراطية، خلافاً لأوروبا والتقاليد الأوروبية حيث تولى هذه القضايا مقداراً من
الأهميّة، وكان ذلك في الماضي أكثر واليوم قد تضاءل. وفي أمريكا لا يوجد مثل هذه
السوابق الأرستقراطية والأسرية وأمثالها. فهناك يمكن لأيّ شخصٍ ـ ولو كان حمّالاً ـ
أن يستفيد من منصبٍ ما وأن يوصل نفسه إلى تلك النقطة العالية للرأسمالية، ويصبح في
مصاف الرأسماليين ويتمتّع بالامتيازات التي هي من مختصّاتهم. في ذاك الميثاق الذي
أعدّه الأمريكيون، فإنّ أحد الكبار والروّاد وبناة أمريكا اليوم ـ الذي عاش قبل
قرنين، ولا أذكره الآن، وعلى وجه التقريب بعد الثورة الفرنسية الكبرى بمدّة قليلة،
حيث وقعت تلك الأحداث في أمريكا وتشكّلت تلك الدّولة ـ يقول إنّ إدارة أمريكا يجب
أن تكون بأيدي أولئك الذين يتمتّعون بثروتها. إنّ هذا أصلٌ عام ولا يستنكفون عنه
أبداً. فثروة البلاد بيد هذه الجّماعة ويجب عليهم أن يديروا البلاد بأنفسهم؛ وهي
النقطة المقابلة تماماً لما أراده أخونا العزيز أن يحصل من خلال (الجمعيات)
التعاونيّة التي يحقّ فيها للجميع أن يكون لهم الإدارة ولو بحصّة ما. حسنٌ، هذه هي
حريّتهم الاقتصادية.
الحريّة السياسيّة
وفي المجال السياسي أنتم ترون لعبة التنافس هذه بين الحزبين، التي يحتكرون الساحة
السياسية من خلالها، ولا شك بأنّ عدد الأشخاص الذين يتّبعون هذين الحزبين هو أقلَ
بكثير من 1%. أساساً، إنّ هذه الأحزاب ليس لها امتداد حقيقيّ وواقعيّ في عمق
المجتمع؛ فهي في الواقع ملاعب لتجمّع جماعة. أولئك الذين يأتون ويصوّتون، فإمّا
إنّهم يقعون تحت خدع الشّعارات، أو تحت تأثير سلطة الإعلام الذي هو في الغرب غنيٌّ
جدّاً ومتطوّر، وخصوصاً في أمريكا التي هي بلحاظ القدرات الإعلاميّة وقلب الوقائع
متقدّمة علينا، بمسافة هي ما بين الأرض والسماء ـ فهم يقلبون الأسود إلى أبيض
والأبيض إلى أسود ـ وأصبحوا متطوّرين وفعّالين في هذه المجالات بشكل خارق. فهم
يقودون الناس بمثل هذه الوسائل.
الحريّة في القضايا الاخلاقيّة
وفي مجال القضايا الأخلاقية، ها هي قضية الشذوذ الجنسيّ التي ذكرتها أختنا العزيزة،
فتلك المفاسد الموجودة. لا شكّ أنّه يوجد بعض القيود الى الآن، وهذه القيود كما
يستشرف الإنسان ستزول بسرعة أيضاً، أي في منطقهم لا ينبغي أن يكون هناك أي مانع من
الزّواج من المحارم، والزنا بالمحارم. فلو كان على سبيل الفرض، الملاك وجواز الشذوذ
الجنسي والحياة المشتركة من دون زواج هو ميل الإنسان، حسناً، فلو أنّ شخصاً رغب على
سبيل الفرض بأن يفجر بأحد محارمه، فلماذا ينبغي أن يكون هناك مانع؟ فبذاك المنطق لا
يوجد مثل هذا المانع. وبحسب القاعدة هذه سوف تزول هذه الموانع وسوف تُسحب منهم.
بناءً عليه، إنّ وقائع المجتمع
2013-04-01