المتخلِّفُون عن القتال
واقعة وأحداث تبوك
كانت غزوةُ "تبوك" خير محَكّ لمعرفة المجاهدين الصادقين وتمييزهم عن غير الصادقين من أدعياء الإيمان والمنافقين لأن التعبئة العامّة لهذه الغزوَة اُعلِنت في وقت كان الناسُ يستعدُّون فيه للحصاد من جهة، وكان الحرّ على أشدّه من ناحية اُخرى،
عدد الزوار: 246
كانت غزوةُ "تبوك" خير محَكّ لمعرفة المجاهدين الصادقين وتمييزهم عن غير الصادقين
من أدعياء الإيمان والمنافقين لأن التعبئة العامّة لهذه الغزوَة اُعلِنت في وقت كان
الناسُ يستعدُّون فيه للحصاد من جهة، وكان الحرّ على أشدّه من ناحية اُخرى، فكشف
تخلّفُ البعض- بالأعذار والحجج المختلفة- القناع عن وجههم الحقيقي ونزلت آيات في
ذمّهم جميعها في سورة البراءة.
لقد تخلّف البعضُ عن المشاركة في هذه الغزوة للاسباب والعلل التالية:
1- عندما قال رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله للجدّ بن قيس،- وكان من
الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة-: "أبا وهب هل
لكَ العامَ تخرجُ معنا"؟
فقال: يا رسولَ اللّه أوَتأذنُ لي، ولا تفتِنّي فو اللّه لقد عرف قومي ما أحد اشدُّ
عَجباً بالنساء مني، واني لأخشى إن رأيتُ بنات بني الأصفر (الروم) لا أصبرُ
عليهنَّ.
فاعرضَ عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بعد أن سمع منه ذلك العذر الصبياني،
وقد نزل فيه قول اللّه تعإلى:"وَمِنهُم مَن يَقُولُ إئذَن لي ولا تَفتِنّي ألا في
الفِتنَةِ سَقطُوا وان جَهنمَ لمحيطة بالكافِرين".
2- المنافقون: إن جماعة ممن تظاهروا الإسلام والإيمان وهم منه خلو، أخذوا
يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في غزوة تبوك، وربما تحجَّجوا
بشدة الحرّ فقالوا: يغزوُ محمَّد بني الأصفر مع جَهدِ الحال والحرّ، والبلد البعيد،
إلى ما قِبَل له به، يحسب محمَّد أنَ قتال بني الاصفر اللعب، فنزل فيهم قول اللّه
تعإلى: ﴿وَقَالُواْ
لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا
يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ
كَثِيرًا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾.
وقد كان بعضُ المنافقين يخوّفون المسلمين من المشاركة في هذه الغزوة، وكانُوا
يقولونَ في هذا الصدد: تحسَبُون قتال بني الأصفر كقِتال غيرهم، واللّه لكأنّا بكم
غداً مقرَّنين في الحبال؟!.
اكتشافُ شَبكَة جاسُوسيَّة في المدينة
كانَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كما أسلَفنا يولي مسألة تحصيل المعلومات عن
العدو وتحركاته اهتماماً كبيراً، وكان اكثر انتصاراته تعُودُ إلى حُسن إستخدامه
لهذه الوسيلة وبالتالي لمعرفته الدقيقة بتحرّكات العدو ونشاطاته، وعلى هذا الاساس
كان يقضي على الكثير من المؤامرات في مهدها.
ولقد بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن ناساً من المنافقين يجتمعونَ في بيتِ
"سويلم" اليهودي، ويخطِّطُون لتثبيط المسلمين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
في هذه الغزوة، فبعث رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله "طلحة بن عبيد اللّه" في نفر
من أصحابه لإرهاب اُولئك المتآمرين حتى يكفُّوا عن التآمر، وأمره بأن يُحرِّق عليهم
بيت "سويلم". ففعل طلحة ذلك إذ اقتحم البيت بَغتة، وهم يخطِّطون، ويُدبّرون مؤامرة،
واُحرق البيت، ففرُّوا وسط ألسنة اللهَب، وأعمدة الدخان، وافلَتُوا، وانكسرَت رجلُ
أحدهم حين الفرار.
وقد كانَ هذا الاجراء مُفيداً في ردع المنافقين المشاغبين عن العودة إلى مثلها حتى
قال أحد رؤوسهم وهو "الضَّحّاك بن خليفة":
كادَت وبَيتِ اللّه نارُ محمَّد
يشيطُ بها الضحّاك وابنُ أبيرق
وظَلتُ وقد طبَّقتُ كِبسَ سوَيلم
أنوءُ على رجلي كسيرا ومرفَقي
سلام عَليكُم لا أعودُ لِمثلِها
أخافُ وَمَن تشمل به النارُ يحرقُ
3- البكّاؤون: لقد أتى رجال من المسلمين رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله
كانوا يرغبون في الخروج مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى هذه الغزوة، وطلبوا
منه ما يحملهم عليه من دابّة فقد كانوا أهل حاجة فقراء، فقال لهم رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وآله: "لا أجدُ ما أحمِلُكُم عليه".
فتولّوا وأعيُنُهم تفيضُ من الدمع حُزناً، ألا يجدوا ما ينفقون.
فاذا كان بين أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله رجال نافقوا، وتركوا الخروج مع
رسول اللّه متعلّلين بالأعذار السخيفة، فقد كان إلى جانب ذلك أيضاً من كان يبكي
بكاء مُرّاً لعدم تمكّنه من المشاركة في الجهاد المقدس حتى عُرفوا في التاريخ
الاسالمي بالبكائين، ونزل فيهم قرآن اذ يقول تعإلى:
﴿وَلاَ
عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا
أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾.
4- المتخلفون: ولقد أبطأ بعض أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عن
الخروج، وتخلَّفوا لا عَن شكّ وارتياب، أو رغبة عن الجهاد في سبيل اللّه، وقد كانوا
أهل صِدق لا يُتَّهمون في إسلامهم، إنّما تخلَّفوا حتى يلتحقوا بركب النبي صلّى
اللّه عليه وآله بعد أن يفرغوا من الحصاد والقطاف1.
5- المجاهدون الصادقون: الذين لَبّوا نداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله
وتهيّأوا من فورهم للخروج معه في شوق بالغ، ورغبة عظيمة في الجهاد.عدمُ مشاركة
"عليّ" في غزوة تَبُوك:
لقد كان من أبرز فضائل عليّ بن أبي طالب عليه السَّلام أنه شارك في جميع المعارك،
ولازم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في جميع غزواته،- وكان هو حاملُ لوائه في
تلك المعارك والغزوات- ما عدا تبوك حيث بقي في المدينة بأمر رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وآله ولم يشارك في هذا الجهاد المقدس لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان
يدرك جيّداً أن بعض المنافقين والمتربّصين، والمتحينين الفرصَ من رجال قريش
سيستغِلّون فرصةَ غيبة النبي القائد عن المدينة (مركز الدولة الإسلامية) فيثيرون
فيها فتنة، ويجهزون على الحكومة الإسلامية الفتية بانقلاب أو ما شابه ذلك، وأن مثل
هذه الفرصة انما تسنح لهم إذا قصد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله مكاناً نائياً،
وانقطع ارتباطه بعاصمة الاسلام (المدينة)!!
ولقد كانت "تبوك" أبعد نقطة خرج اليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في جميع
غزواته، فكان يحدس- بقوة- أن تقوم القوى المضادّة للاسلام بقلب الاوضاع في غيابه،
ويجمعوا من يرون رأيهم ويذهبُ مذهبَهم من شتى أنحاء الحجاز، ويتحدوا لضرب الدولة
الإسلامية والقضاء عليها من الداخل.
ولهذا- رغم أنه استخلف "محمَّد بن مَسلَمة" على المدينة- قال للامام "علي بن أبي
طالب": "أنتَ خليفَتني في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي.يا علي إنّ المدينة لا
تَصلُحُ إلا بي وبكَ".
ولقد أزعج بقاءُ عليّ عليه السَّلام في المدينة، المنافقين الذين كانوا يتربَّصون
الإسلام الدوائر، ويتحيّنون الفرصة، ويفكرون في انقلاب في غيبة النبىّ صلّى اللّه
عليه وآله لأنهم كانوا يعرفون أنهم لن يعودُوا يستطيعون مع وجود عليّ عليه السَّلام
في المدينة، ومراقبته الدقيقة لتحرّكاتهم ونشاطاتهم فعل أي شيء ممّا كانوا ينوون
القيام به، ولهذا أرجفوا به، وبثّوا شائعات خبيثة حوله، بغية إجباره على مغادرة
المدينة فقالوا: ما خلّف رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله عَليّاً إلا استثقالاً
له، وتخفّفاً منه، أو: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله دعاهُ إلى الخروج لتبوك،
ولكن علياً امتنعَ من الخروج بحجّة الحرّ الشديد، وبُعد الطريق وإيثاراً للدعة
والراحة والرفاهية!!
ولإبطال هذه الشائعة الخبيثة، وتكذيب هذا الكلام، أخذ علي عليه السَّلام سلاحه،
وخرج حتى أتى رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو نازل بالجرف (وهو موضع على
ثلاثة أميال من المدينة) فقال: "يا نبيَ اللّه، زَعَمَ المنافقون أنَّكَ إنّما
خَلَّفتَنِي أنَّكَ استثقَلتَنِي وَتخفَّفتَ منّي".
فقالَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله حينئذٍ كلمته التاريخية الخالدة التي تعتبر
من أبرز الادلة وأقواها وأوضحها على إمامة عليّ بن أبي طالب عليه السَّلام وخلافته
بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بلا فصل: "كَذِبُوا، وَلكنّني خلَّفتُك لما
تَركتُ ورائي فاخلُفنِي في أهلِي وَ أهلِكَ أفَلا تَرضى يا عَليّ أن تكُونَ مِنّي
بِمنزلةِ هارونَ مِن مُوسى إلا أنَّه لا نبيَّ بعدي".
فرجع عليّ عليه السَّلام إلى المدينة المنورة، ومضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وآله على سفره2.
1- راجع عنوان :
النية تقومُ مقام العمل
2- آية الله السبحاني / سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم