علم رسول اللّه بالمغيّبات
واقعة وأحداث تبوك
لا شك في أن في مقدور رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يطلعَ على الغيب ممّا يخفى على الناس، ويخبر به كما يصرح القرآنُ الكريم بذلك، إلا أنَّ هذا العلم لا ريب محدود، ويحتاج إلى تعليم اللّه سبحانه.
عدد الزوار: 171
لا شك في أن في مقدور رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أن يطلعَ على الغيب ممّا
يخفى على الناس، ويخبر به كما يصرح القرآنُ الكريم بذلك، إلا أنَّ هذا العلم لا ريب
محدود، ويحتاج إلى تعليم اللّه سبحانه. يقول تعإلى: ﴿عَالِمُ
الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن
رَّسُولٍ﴾
.
من هنا يمكن أن تخفى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في بعض الاحايين، أبسط
الاُمور، كأن يفقد مفتاحاً، أو يضيّع مالاً ولا يعرف بمكانه ومصيره، بينما يقدر
صلّى اللّه عليه وآله أن يعلم بأخفى الامور الغيبية واشدها غموضاً فيثير حيرة الناس
ودهشتهم وعجبهم.
والسبب في كل ذلك هو: ان مشيئة اللّه سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشيء من عالم
الغيب ويخبر به علمَ وأخبر، وإلا كان صلّى اللّه عليه وآله كغيره من أفراد البشر
العاديين.
وفي ضوء هذا البيان لابد أن ننظر إلى القصة التالية:
لما كان رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته، فخرج
أصحابه في طلبها، فقام أحد المنافقين، وقال: أليس محمَّد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن
خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟.
فقال رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو يكشفُ النقاب ببيانه الرائع: "إن
رجُلاً قال: هذا محمَّد يخبرُكُم أنه نبيّ ويزعَم أنه يخبركم بأمر السماء، وهو لا
يدري أين ناقته؟ وإني واللّه ما أعلمُ إلا ما علّمني اللّه، وقد دلّني اللّه عليها
وهي في هذا الوادي في شِعب كذا وكذا وقد حبَستها شجرة بزمامها فانطلِقُوا حتى
تأتوني به".
فذهب بعضُ الصحابة من فورهم، وجاؤوا بها.
إخباره بمغيَّب آخر
لقد تخلّف أبو ذر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إذ أبطأ به بعيره، فانتظرهُ
المسلمون ريثما يقوم بعيرُه، ولكن دون جدوى فترك أبو ذر البعير، وأخذ متاعه فحملَهُ
على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ماشياً، ونزل رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وآله في بعض منازله ونزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت، وفجأة
لاح من بعيد رجل، فلما نظر إليه ناظر من المسلمين قال: يا رسول اللّه هو واللّه أبو
ذر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: "رَحمَ اللّه أبا ذر يَمشي وحدَه
وَيموتُ وحدَه وَيُبعَثُ وحدَه".
وقد كشف المستقبل عن صحة هذه النبوءة، فقد توفي أبو ذر في صحراء "الربذة"، وعنده
ابنتُه بعيداً عن الناس في حالة مأساوية.
لقد تحققت نبوءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في معركة تبوك بعد ثلاثة وعشرين
عاماً، فقد نُفِيَ هذا الصحابيُ المجاهدُ الصادق إلى الشام ثم إلى الربذة لا لشيء
إلا لأنّه جهر بالحق، وطالب بالعدل، وفقد قواه وطاقاته البدنية شيئاً فشيئاً حتى
غدا طريح الفراش، في تلك المنطقة الوعرة.
وفيما كان يمضي الدقائق الاخيرة من حياته الحافلة بالاحداث والتطورات، وامرأته
جالسة عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب وقد عرق جبينه، وهي تمسح بيدها العرق وتبكي
قال لها: ما يُبكيك؟
فقالت: أبكي أنه لا يَد لي بتغييبك (أي ليس لي من يعينني على دفنِكَ، أو لَيسَ عندي
ثوب يسعُك كَفناً)!
فارتسمت على شفتَي أبي ذر ابتسامة مُرّة وقال: لا تبكي عليَّ، فاني سمعتُ رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وآله ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول: ليموتُنَّ رجل منكم
بفلاة من الأرض تشهدهُ عِصابه من المؤمنين ثم قال: فكلُّ من كان معي في ذلك المجلس
مات في جماعة وقرية، فلم يبق منهم غيري، وقد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق،
فانك سوف ترين ما أقولُ لك فاني واللّه ما كَذُبتُ ولا كُذِبتُ.
قال هذا وفاضت روحه المباركة.
ولقد صَدَق ابو ذر، فقد كانت ثمة قافلة من المسلمين تضم شخصيات كبرى مثل "عبد اللّه
بن مسعود" و"حجر بن عدي" و"مالك الاشتر" تتقدم نحو تلك المنطقة.
رأى "عبد اللّه" مِن بعيد مشهداً عجيباً... مشهدَ جسد بلا روح على قارعة الطريق،
وعند ذلك الجسد إمرأة وصبيّ وهما يبكيان.
فعطف "عبد اللّه" زمام راحلته نحو ذينك الشخصين وتبعه من معه في القافلة، وما أن
وقعت عينا عبد اللّه على ذلك الجسد حتى عرف صاحبه، فهذا هو رفيقه وأخوه في الاسلام
أبو ذر!!
فاغرورقت عيناهُ بالدموع، ووقف عند جثمان أبي ذر، وتذكَّر نبوءة رسول الاسلام صلّى
اللّه عليه وآله في غزوة تبوك وقال: "رحم اللّه أبا ذر يمشي وحدَه، ويموتُ
وحدَه، ويبعث وحده".
ثم صلى ابن مسعود على أبي ذر، ثم واراهُ الثرى، وبعد أن فرغ من دفنه، وقف مالك
الاشتر عند قبره وقال:
اللَّهم إنَّ هذا صاحبُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله عَبَدك في العابدين،
وجاهَدَ فيك المشركين، لم يغيّر ولم يبدّل لكنَّه رأى غريباً منكراً فغيّره بلسانه
وقلبه، حتى جُفيَ وُنفيَ وحُرم واحتقر ثم مات وحيداً غريباً.
وقد اشار السبكي في ابيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية
وعاش أبو ذر كما قلتَ وحدَه
ومات وحيداً في بلاد بعيدة.
* اية الله السبحاني / سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم