يتم التحميل...

النية تقومُ مقام العمل

واقعة وأحداث تبوك

ليس ثمة مشهد أعظمَ جلالاً من مشهد جيش فاتح يعودُ إلى أحضان الوطن، كما ليس هناك أمر ألذَّ وأهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدوّ، التي تحفظ أمجاده، وتضمن بقاء كيانه، وسلامته، وقد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الإسلامي المنتصر إلى المدينة.

عدد الزوار: 144

ليس ثمة مشهد أعظمَ جلالاً من مشهد جيش فاتح يعودُ إلى أحضان الوطن، كما ليس هناك أمر ألذَّ وأهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدوّ، التي تحفظ أمجاده، وتضمن بقاء كيانه، وسلامته، وقد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الإسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخلَ الجيشُ الإسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوَى المسافة بين "تبوك" و"المدينة"، وكانت تغمر جنودَ الاسلام فرحة كبيرة، وتظهرُ على كلماتهم وأعمالهم إماراتُ الاعتزاز لما أحرزوه مِن غلبة على العدوّ، ومن أداء لحق الجندية، وكان السببُ واضحاً لأنَّهم أرعَبوا دولة قوّية سبق لها أن هزمت الامبراطورية الايرانية، فهم أخافوا الروم التي انسحبت من تبوك قبل وصول المسلمين اليها، وهم طَوّعوا حكّام وزعماء المدن والمناطق الحدودية السورية والحجازية، وأخضعوهم للدولة الإسلامية.

لا شكّ أنَّ الغلبة على العدوّ فخر عظيم أصاب هذا الجيش، وكان طبيعياً أن يفتخر أفرادُ هذا الجيش ويتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر، ولكن حيث أن مثل هذا النمط من التفكير وهذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجِدَ غروراً لدَى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا لعذر وقلوبهم مع جنود الاسلام، ويشاركونهم بافئدتهم في أفراحهم، وأتراحهم لهذا إلتفتَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهُم على مشارف المدينة وقد توقَّفُوا خارج المدينة بعض الوقت:"إنَّ بالمدينة لأَقواماً ما سِرتُم سيراً ولا قطعتُم وادياً إلا كانُوا معكُم".

قالوا يا رسول اللّه: وهم بالمدينة؟
قال: "نعم، حبسَهُمُ العُذرُ".

أجل أنهم كانوا يتشوَّقون إلى الجهاد هذا الواجب الإسلامي الكبير، ولكن العذر منعهم من الاشتراك فيه.
إن النبيَ الاكرم بهذه العبارة المقتضبة اشار- في الحقيقة- إلى واحد من البرامج الإسلامية التربوية، وذكّر بأن النية الطيبة والفكر الصالح يقومُ مقام العمل الصالح الطيب، وأن الذين يُحرَمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الامكانيات يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في ثواب العمل الصالح اذا نووا ذلك، واشتاقُوا إليه قلبياً.

إذا كان الاسلام يهتمُّ باصلاح الظاهر، فانه يهتمُّ أكثر باصلاح القلب والفكر، باصلاح الباطن والسريرة، لأن اصلاح العقيدة وطريقة التفكير هو منبع جميع الاصلاحات، وأعمالنا كلُّها وليدة أفكارنا ونوايانا.

إذا خفّف النبيُ الاكرمُ بقوله هذا من غُلَواء المجاهدين وغرورهم، وحفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوانُ إلا أنّه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلفين من دون عذر ويلقِّنهم درساً لن ينسَوه، وللنموذج ننقل هنا قصة ثلاثة من المتخلِّفين.

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ

يوم اُعلِنَ في المدينة عن التعبئة العامة تخلّف ثلاثة من المسلمين في المدينة هم: "هلال بن اُمية"، و"كعب بن مالك" و"مرارة بن الربيع" فقد حضر هؤلاء عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لدى خروجه إلى تبوك واعتذروا اليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد، فاعتذَر أحدُهم، بأن الوقت هو وقتُ إدراك الثمر، وأنهم سيلتحقون بجيش الاسلام إذا فرغوا من الحصاد والقطاف.

إن هؤلاء وامثالهم ممن يريدون الدين والدينار، وتهمُّهم مصالحهم المادية الشخصية والاستقلال السياسي معاً يعانون من نظرة ضيقة وقصيرة تعادل اللذائذ المادّية العابرة بالحياة الانسانية الشريفة، التي تتحققُ تحت لواء الإستقلال الفكريّ والسياسيّ والثقافي، بل ربما رجَّحوا الاُولى على الثانية.

ولهذا كان على النبي صلّى اللّه عليه وآله- بعد العودة- أن يؤدب مثل هذه العناصر حتى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.
إنهم لم يتخلَّفوا عن هذا الجهاد فحسب، بل لم يعملوا بالعهد الذي أعطوه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أيضاً، فإنهم انشغلوا بالتجارة، وجمع المال حتى فُوجئوا بعودة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله المُظفَّرة إلى المدينة فبادروا عند ذلك لملافاة ما بدَر منهم من تخلُّف إلى الحضور عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله للتسليم عليه وتقديم التهاني إليه كما فعل الآخرُون.

إلا أنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أعرض بوجهه عنهم ولم يكترث بهم، وعندما تحدث رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح والابتهاج كان أوّل ما قال هو: "لا تُكلمنَّ أحداً مِن هؤلاء الثلاثة".

ومع أن عدد المتخلفين كان يقارب التسعين شخصاً، إلا أن اكثرهُم حيث كانوا من المنافقين، ولم يكن يتوقع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدُوّ لهذا تركَّز ثقلُ هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهُم سبقَ منه أن اشترك في غزوة بدر مثل "مرارة" و"هلال"، وكانت لهم شخصية ومكانة بين المسلمين!!ولقد تركت سياسة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله الحكيمة التي كانت جزءاً لا ينفك من دينه أثراً عجيباً، فقد تعطَّلت التجارة والأخذ والعطاء مع المتخلفين، وكسُدَت بضائعُهم، ولم يشترها أحد، وقطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم وعلاقتهم مع المخلفين المذكورين إتباعاً لأوامر النبي صلّى اللّه عليه وآله، وتركوا حتى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلفين فعلتها، وضغطت عليهم نفسياً بشدة حتى ضاقت عليهم الأرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم. ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ.

ولكنَّ هؤلاء الثلاثة المعرون بفراسة كاملة أدركوا أن العيش في البيئة الإسلامية لا يمكن إلا بالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين، وأنه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الاكثرية القاطعة، وبخاصة اذا كانت الأقلية تتألف من جماعة مشاغبة ومغرضة.

هذه المحاسبات من جانب، والانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعت بِهؤلاء المخلفين إلى العودة إلى حظيرة الايمان الواقعي، وأن يظهروا ندمهم على فِعلهمُ القبيح بالتوبة إلى اللّه، والانابة اليه، وقبل اللّه تعإلى توبتهم، وأخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادَر النبيُ صلّى اللّه عليه وآله من فوره إلى الاعلان عن عفوه ورفع المقاطعة عنهم .


* آية الله السبحاني / سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

2013-01-07