جيش الإسلام في أرض تبوك
واقعة وأحداث تبوك
حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك، ولكن دون أن يرى أثراً عن جيش الروم، وكأن جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الاسلام، وبشهامتهم وتضحيتهم النادرة التي شهدوا نموذجاً منها عن كثب في معركة "مؤتة"
عدد الزوار: 169
حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك، ولكن دون أن يرى
أثراً عن جيش الروم، وكأن جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الاسلام، وبشهامتهم
وتضحيتهم النادرة التي شهدوا نموذجاً منها عن كثب في معركة "مؤتة" رأوا من الصالح
ان ينسحبوا إلى داخل بلادهم ولا يواجهوا المسلمين، ويثبتوا بذلك عَمليّاً نبأ
اجتماعهم ضدَّ المسلمين، ويتظاهروا بأنه لم تراودهُم فكرة الهجوم على المسلمين قط،
وأن هذا النبأ لم يكن إلا شائعة لا أكثر، فيثبتوا مِن هذا الطريق حيادَهم بالنسبة
للحوادث والوقائع التي تحدث في الجزيرة العربية.
في هذه اللحظة جمع رسول الاسلام صلّى اللّه عليه وآله قادة جيشه الكبار، وتبعاً
للاصل الإسلامي "وشاورهُم في الأمر" تحادثَ معهم حولَ التقدُّم في أرض العدوّ أو
الرجوع إلى المدينة وشاورهم في ذلك.
فكانت نتيجة التشاور هي أنَّ على الجيش الإسلامي الذي تحمَّلَ مشاق كثيرة في هذه
السَفرة، أن يعود إلى المدينة، ليستعيد نشاطَه، وقواه، هذا مُضافاً إلى أن المسلمين
حققوا هدفهم السامي من هذه السفرة وهو تفريق جيش الروم وتبديد إجتماعهم بعد القاء
الرعب الشديد في قلوبهم، وقد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدة مديدة بحيث
يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين، وهذا القدر من النتيجة التي من
شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحاً من الزمن تكفي للمسلمين فعلاً حتى
يقضي اللّه ما يقضي في المستقبل.
ولقد أضاف كبار المشيرين- حفاظاً على مكانة الرسول القائد، وإشعاراً بان رأيهم هذا
قابل للأخذ والرد- قائلين: إن كنتَ اُمِرتَ بالسَير فسِر.
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: "لو اُمرتُ بهِ ما استشَرتُكُم فِيهِ".
وهكذا احترم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله آراء مشاوريه ورضي بالعودة إلى
المدينة.
وحيث كان هناك حكام وولاة يعيشون في المناطق الحدودية السورية والحجازية لهم نفوذ
كبير في قبائلهم ومناطقهم، وكانوا جميعاً نصارى، ولهذا كانَ من المحتمل بقوة أن
يستغل الروم قواهم ضد الاسلام، ويحملوا بمساعدتهم على الحجاز.
ولهذا كان يتعين أن يعقد معهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله معاهدة عدم اعتداء،
ليأمن جانبهم ويحصل على أمن أوسع، فأجرى صلّى اللّه عليه وآله اتصالات مباشرة مع
اُولئك الحُكّام والولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك
وعقد معهم معاهدات عدم تعرض واعتداء بشروط خاصة كما أرسل مجموعات إلى النقاط
النائية عن تبوك ليحقق بذلك مزيداً من الأمن للمسلمين.
لقد اتصلَ رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله شخصياً بزعماء "أيلة" و "أذرح"
و"الجرباء"، وتمَّ عقدُ معاهدة عدم تعرّض واعتداء بين الجانبين. و"أيلة" مدينة
ساحلية تقعُ على ساحل البحر الأحمر، ولا تبعدُ عن الشام كثيراً، وكان زعيم تلك
المنطقة هو "يوحنا بن رُؤبة"، فهو يومَ اُتي به إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله
وعليه صليب من ذهب على عادة النصارى، قدّم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فرساً
أبيض، وأعلن عن طاعته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فاحترمه النبي واكرمهُ،
وصالحه، وكساه بُرداً يمنياً.
وقد قبلَ "يوحن" هذا أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها ثلاثمائة
دينار سنوياً وعلى أن يحسنَ إلى مَن يمرُّ على أيلة من المسلمين وكتب لهُ رسولُ
اللّه صلّى اللّه عليه وآله كتابَ أمان وقَّعهُ الطرفان، واليك نص الكتاب المذكور:
"بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا أمنة من اللّه ومحمَّد النبيّ رسول اللّه ليوحنا بن
رؤبة وأهل أيلة لسُفُنِهم وسياراتهم في البّر والبحر، لهم ذمةُ اللّه وذمةُ محمَّد
رسول اللّه ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، ومن أحدث حدثاً،
فانه لا يحولُ مالُه دون نفسه، وأنّه طَيّبة لمن أخذه من الناس وانه لا يحلُّ أن
يُمنَعُوا ماء يردونه ولا طريقاً يُريدونه من بَرٍّ وبَحر.
هذا الكتاب يكشفُ عن قاعدة مهمّة في السياسة الإسلامية وهي أن أيّ شعب أراد أن
يسالِم المسلمين وفَّر الاسلام له كلَ أمن وسلام.
ثم إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله صالَحَ بقية الحكام الحدوديين مثل سادة
أقوام "أذرح" و"جرباء" التي كانت تتمتع بأهمية استراتيجية، وبذلك ضمنَ أمن المنطقة
الإسلامية من ناحية الشمال.
بعث خالد إلى دَومة الجندل
على طريق تبوك كانت تقعُ منطقة عامرة خضراء ذات أشجار وزروع ومياه جارية تضمُّ
حصناً منيعاً، وتبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخاً، تسمى "دومة الجندل" وكان
يحكمها يومذاك رجل مسيحي يدعى "اكيدر بن عبد الملك".
وحيث أنَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله كان يخشى هجوماً آخر من الروم،
والاستعانة بحاكم دومة المسيحي وبهذا يعرِّضون أمن الحجاز للخطر، لذلك رأى صلّى
اللّه عليه وآله أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن فبعث مجموعة من المقاتلين
بقيادة خالد بن الوليد إلى المنطقة المذكورة لتطويعها وتطويع حاكمها.
فتوجه خالد مع فرسانه إلى دومة الجندل حتى اقتربوا إلى حصنها، وكمنوا قريباً منه.
وفي تلك الليلة خرج "اكيدر" وأخوه "حسان" من الحصن ومعه نفر من اهل بيته للصيد فلما
ابتعدوا عن الحصن حاصرهم خيلُ خالد وأسروا "اكيدر" بعد قيل من القتال والمواجهة،
وقُتل اخوه "حسان"ولجأ البقية إلى الحصن، واعتصموا به، فصالح خالد "اكيدر" على أن
يطلب له ولقومه الأمان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لقاء أن يفتح أبواب
الحصن في وجوه المسلمين ويلقي أهلُها الاسلحة.
فأمر اكيدر الذي كان يثق بصدق المسلمين واحترامهم لوعودهم وعهودهم، أمر قومه أن
يفتحوا أبواب الحصن ويسلّموا للمسلمين، ويلقوا اسلحتهم ويتركوا القتال، وكانت
الاسلحة تبلغ أربعمائة درع، وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف ثم توجه خالد باكيدر وقومه
وما حصل عليه من الغنائم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله فخلب منظرُ الديباج
المخوّص بالذهب عيون جماعة من طُلاب الدنيا. فاخذوا يتلمسونه بأيديهم ويتعجّبون منه
فقالَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وهو لا يكثرت بتلك الثياب: "فَوَ الَّذي
بنفسي لَمناديلُ الجنة أحسنُ مِن هذ".
لقد حضر "اكيدر" عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وامتنع عن قبول الاسلام إلا
أنّه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين، وصالحه النبي صلّى اللّه عليه وآله على ذلك
وكتب له كتاباً، ثم أهدى له صلّى اللّه عليه وآله هدية واستعمل على حرسه "عباد بن
بشر" ليوصلَه إلى دومة الجندل سالماً .
* اية الله السبحاني / سيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم