قارون وذبح البقرة وما يتعلق بها
النبي موسى عليه السلام
تفسير علي بن إبراهيم كان سبب هلاك قارون أنه لما أخرج موسى بني إسرائيل من مصر وأنزلهم البادية وذلك بعد غرق فرعون وقومه أمرهم بقتال الجبابرة في أريحا أرض الشام فلم يطيعوه وقالوا(فَاذْهَبْ أَنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)...
عدد الزوار: 314
تفسير علي بن إبراهيم كان سبب هلاك قارون أنه لما أخرج موسى بني إسرائيل من مصر وأنزلهم البادية وذلك بعد غرق فرعون وقومه أمرهم بقتال الجبابرة في أريحا أرض الشام فلم يطيعوه وقالوا ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ﴾ ففرض الله عليهم دخوله وحرمها عليهم أربعين سنة وكانوا في التيه وكان قارون منهم وكان يقرأ القرآن ولم يكن فيهم أحسن صوتا منه وكان يسمى المنون لحسن قراءته وقد كان يعمل الكيمياء فلما طال الأمر على بني إسرائيل في التيه أخذوا في التوبة وكان قارون امتنع أن يدخل معهم في التوبة وكان موسى يحبه.
فدخل عليه موسى فقال يا قارون قومك في التوبة وأنت قاعد هاهنا ادخل معهم وإلا نزل بك العذاب فاستهان به وبقوله فخرج من عنده مغتما فجلس في فناء قصره عليه جبة شعر ونعلان من جلد حمار فأمر قارون أن يصب عليه رماد قد خلط بالماء فصب عليه فغضب موسى غضبا شديد وكان في كتفه شعرات كان إذا غضب خرجت من ثيابه وقطر منها الدم.
فقال موسى يا رب إن لم تغضب لي فلست لك بنبي فأوحى الله إليه قد أمرت السماوات والأرض أن تطيعك فمرها بما شئت وقد كان قارون أمر أن يغلق باب القصر فأقبل موسى فأومى إلى الأبواب فانفرجت ودخل عليه فلما نظر إليه قارون علم أنه قد أوتي بالعذاب فقال يا موسى أسألك بالرحم بيني وبينك فقال له موسى يا ابن لاوي لا يردني كلامك يا أرض خذيه فدخل القصر بما فيه في الأرض ودخل قارون في الأرض إلى الركبة فبكى وحلفه بالرحم فقال له موسى يا ابن لاوي لا يردني من كلامك.
و هذا ما قال موسى لقارون يوم أهلكه الله فعيره بما قاله لقارون فعلم موسى أن الله قد عيره بذلك فقال يا رب إن قارون دعاني بغيرك ولو دعاني بك لأجبته فقال الله يا ابن لاوي لا تردني من كلامك فقال موسى يا رب لو علمت أن ذلك لك رضا لأجبته فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لو أن قارون كما دعاك دعاني لأجبته ولكنه لما دعاك وكلته إليك يا ابن عمران لا تجزع من الموت فإني كتبت الموت على كل نفس وقد مهدت لك مهادا لو قد وردت عليه لقرت عينك.
فخرج موسى إلى جبل طور سيناء مع وصيه فصعد موسى الجبل فنظر إلى رجل قد أقبل ومعه مكتل ومسحاة فقال له موسى ما تريد قال إن رجلا من أولياء الله توفي فأنا أحفر قبره فقال له موسى أ فلا أعينك عليه قال بلى فحفر القبر فلما فرغا أراد الرجل أن ينزل إلى القبر فقال له موسى ما تريد قال أدخل القبر فأنظر كيف مضجعه فقال موسى أنا أكفيك فدخل موسى فاضطجع فيه فقبض فيه ملك الموت روحه وانضم عليه الجبل.
أقول: قوله تعالى كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى.
قيل كان ابن عمه يصهر بن فاهث وموسى بن عمران بن فاهث وقيل كان ابن خالته.
و روي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام وقيل كان عم موسى عليه السلام.
و قول قارون ﴿إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ﴾ أي فضت على الناس بالجاه والمال عَلى عِلْمٍ وهو علم التوراة وكان أعلمهم وقيل هو علم التجارة والدهقنة وسائر المكاسب وقيل علم بكنوز يوسف.
و عن أبي عبد الله عليه السلام: في خبر يونس قال فدخل الحوت في بحر القلزم ثم خرج إلى بحر مصر ثم دخل إلى بحر طبرستان ثم دخل إلى دجلة العوراء ثم مرت به تحت الأرض حتى لحقت بقارون وكان قارون هلك في أيام موسى ووكل الله به ملكا يدخله في كل يوم قامة رجل وكان يونس في بطن الحوت يسبح الله ويستغفره فسمع قارون صوته فقال للملك الموكل به أنظرني فإني أسمع كلام آدمي فأوحى الله إلى الملك أنظره ثم قال قارون من أنت قال قال أنا المذنب الخاطئ يونس بن متى قال فما فعل شديد الغضب لله موسى بن عمران أخو كلثم التي كانت سميت لي قال هيهات هلك قال فما فعل الغفور الرحيم على قوم هارون بن عمران قال هلك قال فما فعلت كلثم بنت عمران التي كانت سميت لي قال هيهات ما بقي من آل عمران أحد فقال قارون وأسفاه على آل عمران فشكر الله له ذلك فأمر الملك الموكل به أن يرفع عنه العذاب أيام الدنيا فرفعه عنه.
و روي في قوله تعالى ﴿فَبَغى عَلَيْهِمْ﴾ يعني على بني إسرائيل.
فقال ابن عباس كان فرعون قد ملك قارون على بني إسرائيل حين كان بمصر وكان يظلمهم.
و قيل زاد عليهم في الثياب شبر وقيل بكثرة ماله.
و روي عن حنتمة قال وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح منها كنز وكانت من حديد فلما ثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت عليه فجعلت من جلود البقر على طول الأصابع فكانت تحمل معه ويقال أينما يذهب تحمل معه على أربعين بغلا.
و كان أول طغيانه أنه تكبر واستطال على الناس بكثرة الأموال فكان يخرج في زينته ويختال.
قال مجاهد خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان في سبعين ألفا عليهم المعصفرات.
و قيل: في أربعة آلاف فارس ومعهم ثلاثة آلاف جارية بيض عليهم الحلي والثياب الحمر فتمنى أهل الجهالة مثل الذي أوتيه.
ثم إن الله أوحى إلى نبيه موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطا أخضر لونه لون السماء فأمرهم به موسى وقال لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها فإنه تعالى ينزل من السماء عليكم كلاما فاستكبر قارون وقال إنما تفعل هذه الأرباب بعبيدهم لكي يميزوا من غيرهم.
و لما قطع موسى عليه السلام ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة وهي رئاسة المذبح وبيت القربان لهارون فكان بنو إسرائيل يأتون بهديتهم ويدفعونها إلى هارون فيضعها على المذبح فتنزل النار من السماء فتأكلها فوجد قارون في نفسه من ذلك وأتى موسى وقال يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك وأنا أقرأ للتوراة منكما لا صبر لي على هذا فقال موسى والله ما أنا جعلتها لهارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون والله لا أصدقك في ذلك حتى تريني بيانه فجمع موسى عليه السلام رؤساء بني إسرائيل وقال هاتوا عصيكم فجاءوا بها فخرمه وألقاها في القبة التي كانت يعبد الله تعالى فيه وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا فأصبحت عصا هارون عليه السلام قد اهتز لها ورق أخضر وكانت من شجرة اللوز فقال موسى يا قارون أ ترى هذا فقال قارون والله والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر فذهب قارون مغاضب واعتزل موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة بينهم وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد كل يوم إلا كبر ومعاداة لموسى عليه السلام حتى بنى دار وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب وكان الملأ من بني إسرائيل يميلون إلى مجالسته ومضاحكته.
ثم إن الله سبحانه أنزل الزكاة علىموسى عليه السلام فصالح قارون على أن يعطي عن كل ألف دينار دينار وعن كل ألف شاة شاة وعن كل ألف شيء شيئا فرجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال لهم إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا له أنت كبيرن وسيدنا فمرنا بما شئت فقال آمركم أن تجيئوا بفلانة البغية فنجعل لها جعلا على أن تقذفه بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه فأتوا بها فجعل لها قارون ألف درهم.
و قيل: طشتا من الذهب وقال لها إني أمولك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غدا إذا حضر بنو إسرائيل فلما كان الغد جمع قارون بني إسرائيل فخرج إليهم موسى فقام فيه خطيبا فوعظهم وقال من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة ومن زنى وليست له امرأة جلدناه مائة ومن زنى وله امرأة رجمناه حتى يموت فقال له قارون وإن كنت أنت قال وإن كنت أنا قال قارون فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال دعوها فإن قالت فهو ما قالت فلما أن جاءت قال لها موسى يا فلانة أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء وعظم عليه وسألها بالذي فلق البحر وأنزل التوراة فلما ناشدها تداركها الله بالتوفيق وقالت في نفسها لئن أحدث اليوم توبة أفضل من أن أؤذي رسول الله فقالت ل ولكن جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي.
فلما تكلمت بهذا الكلام نكس قارون رأسه وعرف أنه وقع في مهلكة وخر موسى ساجدا يبكي ويقول يا رب إن عدوك قد آذاني وأراد فضيحتي اللهم فإن كنت رسولك فاغضب لي وسلطني عليه فأوحى الله سبحانه إليه ارفع رأسك ومر الأرض بما شئت تطعك فقال موسى يا بني إسرائيل إن الله قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ومن كان معه فليثبت معه ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا قارون ولم يبق معه إلا رجلان ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى كعابهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى حقوتهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم وقارون وأصحابه في كل ذلك يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشد قارون الله والرحم حتى ناشده سبعين مرة وموسى في جميع ذلك لا يلتفت إليه لشدة غضبه ثم قال يا أرض خذيهم فأطبقت عليهم الأرض.
فأوحى الله إلى موسى ما أظنك استغاثوا بك سبعين مرة فلم ترحمهم ولم تغثهم أم وعزتي وجلالي لو إياي دعوني مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا.
قال قتادة ذكر لنا أنه يخسف به كل يوم قامة وأنه يتجلجل فيه ولا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة.
فلما خسف الله تعالى بقارون وصاحبيه أصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أن موسى إنما دعا على قارون ليأخذ داره وأمواله وكنوزه فدعا الله تعالى موسى حتى خسف بداره وأمواله الأرض الحديث.
تفسير علي بن إبراهيم بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: إن رجلا من خيار بني إسرائيل وعلمائهم خطب امرأة منهم فأجابت وخطبها ابن عم لذلك الرجل وكان فاسقا رديئا فلم تقبل فحسد ابن عمه الذي أجابوه فقعد له فقتله غيلة ثم حمله إلىموسى عليه السلام فقال يا نبي الله هذا ابن عمي قد قتل ولا أدري من قتله وكان القتل في بني إسرائيل عظيما جدا فعظم ذلك على موسى عليه السلام فاجتمع إليه بنو إسرائيل فقالوا ما ترى يا نبي الله وكان رجل في بني إسرائيل له بقرة وكان له ابن بار وكان عند ابنه سلعة فجاء قوم يطلبون سلعته وكان مفتاح بيته تحت رأس أبيه وكان نائم وكره ابنه أن ينبهه وينغص عليه نومه فانصرف القوم ولم يشتروا سلعته ولما انتبه أبوه قال له يا بني ما ذا صنعت في سلعتك قال هي قائمة لم أبعها لأن المفتاح كان تحت رأسك وكرهت أن أنبهك وأنغص عليك نومك قال أبوه قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عما فاتك من ربح سلعتك وشكر الله لابنه ما فعل بأبيه وأمر بنو إسرائيل أن يذبحوا البقرة بعينها فلما اجتمعوا إلى موسى وبكو وضجوا قال لهم موسى ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة﴾ً فتعجبو و﴿قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُوا﴾ً نأتيك بقتيل فتقول اذبحوا بقرة فقال لهم موسى ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ﴾ فعلموا أنهم قد أخطئوا ف قالُوا ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ﴾ لَنا ما هِيَ ﴿قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ﴾ أي لا مسنة ولا فتية ﴿ف قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها﴾ أي شديدة الصفرة ﴿تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ﴾ لَنا ما هِيَ ﴿إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْن وإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ أي لم تذلل ولا تَسْقِي الْحَرْثَ﴾ أي لا تسقي الزرع ﴿مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها﴾ أي لا نقطة فيها إلا الصفرة ﴿قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ﴾ هي بقرة فلان فذهبوا ليشتروها فقال لا أبيعها إلا بملء جوفها ذهبا فرجعوا إلى موسى فأخبروه فقال لهم لا بد لكم من ذبحها بعينها فاشتروها بملء جلدها ذهبا ثم قالوا ما تأمرنا يا نبي الله فأوحى الله تعالى إليه قل لهم اضربوه ببعضه وقولوا من قتلك فأخذوا الذنب فضربوه به وقالوا من قتلك يا فلان فقال ابن عمي الذي جاء بي وهو قوله ﴿فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى ويُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾.
و روي في حديث آخر أنه كان في بني إسرائيل شيخ موسر فقتل ابنه بنو أخيه طمعا في ميراثه وطرحوه على باب المدينة ثم جاءوا يطالبون بدمه فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله الحديث.
و عن أبي جعفر عليه السلام: من لبس نعلا أصفر لم يزل ينظر في سرور ما دامت عليه لأن الله عز وجل يقول ﴿صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ﴾.
و عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: لو أنهم عمدوا إلى أي بقرة أجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم.
و قال الطبرسي اختلف العلماء في هذه الآيات فمنهم من ذهب إلى أن
التكليف فيها متغاير ولو أنهم ذبحوا أولا أي بقرة اتفقت لهم كانوا قد امتثلوا الأمر فلما لم يفعلوا كانت المصلحة أن يشدد عليهم التكليف ولما رجعوا المرة الثانية فغيرت مصلحتهم إلى تكليف ثالث.
ثم اختلف هؤلاء من وجه آخر فمنهم من قال في التكليف الأخير إنه يجب أن يكون مستوفيا لكل صفة تقدمت فعلى هذا القول يكون التكليف الثاني والثالث ضم تكليف إلى تكليف زيادة في التشديد عليهم لما فيه من المصلحة ومنهم من قال يجب أن تكون الصفة الأخيرة فقط دون ما تقدم وعلى هذا القول يكون التكليف الثاني نسخا للأول والثالث للثاني.
و قد يجوز نسخ الشيء قبل الفعل لأن المصلحة يجوز أن تتغير بعدم فوات وقته وإنما لا يجوز نسخ الشيء قبل وقت الفعل لأن ذلك يؤدي إلى البداء وذهب آخرون إلى أن التكليف واحد وأن الأوصاف المتأخرة إنما هي للبقرة المتقدمة وإنما تأخر البيان وهو مذهب المرتضى قدس الله روحه واستدل بهذه الآية على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة قال إنه تعالى لما كلفهم ذبح بقرة قالوا لموسى ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ﴾ فلا يخلو قولهم ما هِيَ من أن تكون كناية عن البقرة المتقدم ذكرها أي عن التي أمروا بها ثانيا.
و الظاهر من قولهم ما هِيَ يقتضي أن يكون السؤال عن صفة البقرة المأمور بذبحها لأنه لا علم لهم بتكليف ذبح بقرة أخرى ليستفهموا عنها.
و إذا صح ذلك فليس يخلو قوله ﴿إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ ولا بِكْرٌ﴾ من أن يكون الهاء فيه كناية عن البقرة الأولى وغيره وليس يجوز أن يكون كناية عن بقرة ثانية إذ الظاهر تعلقها بما تضمنه سؤالهم ولأنه لم يكن الأمر جوابا لهم وقول القائل في جواب من سأله كذ وكذا إنه بالصفة الفلانية صريح في أن الهاء كناية عما وقع السؤال عنه هذا مع قولهم إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا فإنهم لم يقولوا ذلك إل وقد اعتقدوا أن خطابهم مجمل غير مبين ولو كان على ما ذهب إليه القوم فلم لم يقل وأي تشابه عليكم وإنما أمرتم بذبح أي بقرة كانت.
و أما قوله ﴿وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾ فالظاهر أن ذمهم مصروف على تقصيرهم وتأخيرهم امتثال الأمر بعد البيان التام لا على ترك المبادرة في الأول إلى ذبح البقرة.
انتهى غاية ما أفاد رحمه الله هو أن الظاهر من الآيات هو ذلك وبعد تسليمه فقد يعدل عن الظاهر لورود النصوص المعتبرة.
و في تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام: أن بني إسرائيل جمعوا أموالهم لشراء البقرة فوسع الله جلد الثور حتى وزن ما ملئ به جلده فبلغ خمسة آلاف ألف دينار فقال بعض بني إسرائيل لموسى عليه السلام وذلك بحضرة المقتول المنشور المضروب ببعض البقرة لا ندري أيهما أعجب إحياء الله هذ وإنطاقه بما نطق به وإغناؤه لهذا الفتى بهذا المال العظيم فأوحى الله إليه يا موسى قل لبني إسرائيل من أحب منكم أن أطيب في دنياه عيشه وأعظم في جناني محله وأجعل بمحمد وآله الطيبين فيها منادمته ليفعل كما فعل هذا الفتى إنه كان قد سمع موسى بن عمران ذكر محمد وعلي وآلهما الطيبين وكان عليهم مصلي ولهم على جميع الخلائق من الجن والإنس والملائكة مفضلا فلذلك صرفت له المال العظيم قال الفتى يا نبي الله كيف أحفظ هذه الأموال أم كيف أحذر من عداوة من عاداني فيه وحسد من يحسدني لأجلها قال قل عليها من الصلاة على محمد وآله الطيبين ما كنت تقول قبل أن تنالها فإن الذي رزقكها بذلك القول مع صحة الاعتقاد يحفظها عليك أيضا بهذا القول مع صحة الاعتقاد فقالها الفتى فما رامها حاسد له إلا رفعه الله عنها فلما قال موسى عليه السلام للفتى ذلك وصار الله له بمقالته حافظا قال هذا المنشور اللهم إني أسألك بما سألك به هذا الفتى من الصلاة على محمد وآله الطيبين أن تبقيني في الدنيا ممتعا بابنة عمي وتخزي عني أعدائي وحسادي وترزقني فيها خيرا كثيرا طيبا فأوحى الله إليه يا موسى إن لهذا الفتى المنشور بعد القتل ستين سنة وقد وهبت له لمسألته وتوسله بمحمد وآله الطيبين سبعين سنة تمام مائة وثلاثين سنة صحيحة حواسه ثابت فيها جنانه قوية فيها شهواته يتمتع بحلال الدني ويعيش ولا تفارقه فإذا حان حينهم وماتا جميعا معا فصارا إلى جناني فكانا زوجين فيها ناعمين ولو سألني هذا الشقي القاتل بمثل ما توسل به هذا الفتى على صحة اعتقاده أن أعصمه من الحسد وأقنعته بما رزقته وذلك هو الملك العظيم لفعلت ولو سألني بذلك مع التوبة أن لا أفضحه لما فضحته ولصرفت هؤلاء عن اقتراح إبانة القاتل لأغنيت هذا الفتى من غير هذا الوجه بقدر هذا المال ولو سألني بعد ما افتضح وتاب إلي وتوسل بمثل وسيلة هذا الفتى أن أنسي الناس فعله بعد ما ألطف لأوليائه فيعفون عن القصاص لفعلت وكان لا يعيره بفعله أحد فلما ذبحوها قال الله تعالى فَذَبَحُوه وما كادُوا يَفْعَلُونَ وأرادوا أن لا يفعلوا ذلك من عظم ثمن البقرة ولكن اللجاج حملهم على ذلك واتهامهم لموسى حداهم قال فضجوا إلى موسى عليه السلام وقالوا افتقرت القبيلة ووقف إلى التكفف وانسلخا بلجاجنا عن قليلن وكثيرنا فادع الله لنا بسعة الرزق فقال لهم موسى ويحكم ما أعمى قلوبكم أ ما سمعتم دعاء الفتى صاحب البقرة وما أورثه الله تعالى من الغنى وما سمعتم دعاء المقتول المنشور وما أتم له من العمر الطويل والسعادة والتنعم بحواسه لم لا تدعون الله بمثل وسيلتهما ليسد فاقتكم فقالوا اللهم إليك التجأن وعلى فضلك اعتمدنا فأزل فقرن وسد خلتنا بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم فأوحى الله تعالى إليه يا موسى ليذهب رؤساؤهم إلى خربة بني فلان ويكشفوا في موضع كذا وجه أرضها قليل ويستخرجوا ما هناك فإنه عشرة آلاف دينار ليردوا على كل من دفع في ثمن هذه البقرة ما دفع لتعود أحوالهم ثم ليقاسموا بعد ذلك ما يفضل وهي خمسة آلاف دينار على قدر ما دفع كل واحد منهم في هذه المحنة لتضاعف أحوالهم جزاء على توسلهم بمحمد وآله الطيبين واعتقادهم لتفضيلهم.
و روي عن السدي وغيره أن رجلا من بني إسرائيل كان بارا بأبيه وبلغ بره أن رجلا أتاه بلؤلؤة فابتاعها بخمسين ألف وكان فيها فضل وربح فقال للبائع إن أبي نائم ومفتاح الصندوق تحت رأسه فأمهلني حتى يستيقظ فأعطيك الثمن قال فأيقظ أباك وأعطني المال قال ما كنت أفعل ولكن أزيدك عشرة آلاف فأنظرني حتى ينتبه أبي قال الرجل فأنا أحط عنك عشرة آلاف إن أيقظت أباك وعجلت النقد فقال وأنا أزيدك عشرين ألفا إن انتظرت انتباهة أبي ففعل ولم يوقظ أباه فلما استيقظ أبوه أخبره بذلك فدعا له وجزاه خير وقال هذه البقرة لك بما صنعت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انظر ما ذا صنع البر.
و عن ابن عباس كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وكان له عجل فأتى بالعجل إلى غيضة وقال اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر ومات الرجل فشبت العجلة في الغيضة وصارت عوان وكانت تهرب من كل من رامها فلما كبر الصبي كان بارا بوالدته وكان يقسم الليلة ثلاثة أثلاث يصلي ثلث وينام ثلث ويجلس عند رأس أمه ثلثا فإذا أصبح انطلق واحتطب على ظهره ويأتي السوق فيبيعه بما شاء ثم يتصدق بثلثه ويأكل بثلثه ويعطي والدته ثلثا.
فقالت له أمه يوما إن أباك ورثك عجلة وذهب بها إلى غيضة كذ واستودعها فانطلق إليه وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك وإن من علامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلده وكانت تسمى المذهبة لحسنه وصفرته وصفاء لونها.
فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح به وقال أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فأقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقه وقادها فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى وقالت أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإن ذلك أهون عليك فقال الفتى إن أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت خذ بعنقها قالت البقرة بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر علي أبدا فانطلق فإنك لو ركبتني أمرت الجبل أن يقتلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بوالدتك.
فسار الفتى بها فاستقبله عدو الله إبليس في صورة راع فقال أيها الفتى إني رجل من رعاة البقر اشتقت إلى أهلي فأخذت ثورا من ثيراني فحملت عليه زادي ومتاعي حتى إذا بلغت شطر الطريق ذهبت لأقضي حاجتي فعدا وسط الجبل وما قدرت عليه وإني أخشى على نفسي الهلكة فإن رأيت أن تحملني على بقرتك وتنجيني من الموت وأعطيك أجرها بقرتين مثل بقرتك فلم يفعل الفتى وقال اذهب فتوكل على الله ولو علم منك الله اليقين لبلغك بلا زاد ولا راحلة فقال إبليس إن شئت فبعنيها بحكمك وإن شئت فاحملني عليه وأعطيك عشرا مثلها فقال الفتى إن أمي لم تأمرني بذلك.
فبينما الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يدي البقرة ونفرت البقلاة هاربة في الفلاة وغاب الراعي فدعا الفتى باسم إله إبراهيم فرجعت البقرة إليه فقالت أيها الفتى البار بوالدته لا تمر إلى الطائر الذي طار فإنه إبليس عدو الله اختلسني أما إنه لو ركبني لما قدرت عليه أبدا فلما دعوت إله إبراهيم جاء ملك فانتزعني من يد إبليس وردني إليك لبرك بأمك وطاعتك لها.
فجاء الفتى إلى أمه فقالت له إنك فقير لا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة وخذ ثمنها قال لأمه بكم أبيعها.
قالت بثلاثة دنانير ولا تبعها بغير رضاي ومشورتي.
و كان ثمن البقرة في ذلك الوقت ثلاثة دنانير فانطلق الفتى إلى السوق فعقبه الله سبحانه ملكا ليرى خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بوالدته وكان الله به خبيرا فقال له الملك بكم تبيع هذه البقرة قال بثلاثة دنانير واشترط عليك رضاء أمي فقال له الملك ستة دنانير ولا تستأمر أمك فقال له الفتى لو أعطيتني وزنها ذهبا لم آخذه إلا برضاء أمي.
فردها إلى أمه وأخبرها بالثمن فقالت ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني فانطلق بالبقرة إلى السوق فأتى الملك فقال استأمرت والدتك فقال الفتى نعم إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها قال له الملك فإني أعطيك اثني عشر على أن لا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمه وأخبرها بذلك فقالت إن ذلك الرجل الذي يأتيك هو ملك من الملائكة يأتيك في صورة آدمي ليجربك فإذا أتاك فقل له أ تأمر أن نبيع هذه البقرة أم لا ففعل ذلك فقال الملك اذهب إلى أمك وقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء جلدها دنانير.
فأمسكوا تلك البقرة وقد رد الله تعالى على بني إسرائيل ذبح البقرة بعينها مكافأة على بره بوالدته فضلا منه ورحمة فطلبوها فوجدوها عند الفتى فاشتروها بملء مسكها ذهب وقال السدي اشتروها بوزنها عشر مرات ذهبا1.
1 _النور المبين / المحدّث العلامة الجليل نعمة الله الجزائري.
2012-11-29