الإمام الحسن عليه السلام والصلح وأسبابه
الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)
تعتبر المرحلة التي صالح فيها الإمام الحسن عليه السلام معاوية بن أبي سفيان من أصعب مراحل حياته عليه السلام وأكثرها تعقيداً وحسّاسية وأشدها إيلاماً, بل إنّها كذلك وعلى مدى حياة أهل بيت رسول الله عليهم السلام, وقد أصبح صلح الإمام عليه السلام من أهم الأحداث في التاريخ الإسلامي بما تستبطنه من موقف بطولي للإمام المعصوم عليه السلام،
عدد الزوار: 393تعتبر المرحلة التي صالح فيها الإمام الحسن عليه السلام معاوية بن أبي سفيان من أصعب مراحل حياته عليه السلام وأكثرها تعقيداً وحسّاسية وأشدها إيلاماً, بل إنّها كذلك وعلى مدى حياة أهل بيت رسول الله عليهم السلام, وقد أصبح صلح الإمام عليه السلام من أهم الأحداث في التاريخ الإسلامي بما تستبطنه من موقف بطولي للإمام المعصوم عليه السلام، وبما أدّى اليه من تطورات واعتراضات وتفسيرات مختلفة طوال القرون السالفة وحتى عصرنا الحاضر, وألّف الباحثون المسلمون في توضيح وتحليل الصلح كتباً عديدة, وأصدر الأعداء والأصدقاء أحكامهم بشأنه.
وقد انبرى باحثون معاصرون من الطراز الممتاز مثل المرحوم الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ راضي آل ياسين والشيخ باقر شريف القرشي للكتابة عن الإمام عليه السلام وصلحه الذي قام به من أجل الإسلام. وسنبدأ بالحديث عمّا ورد عن هذا الصلح تأريخياً, ثم ننقل كلمات الإمام عليه السلام في الأسباب الكامنة وراء قبوله بالصلح, وبعد ذلك نقوم بالتحليل.
إتمام الحجّة:
ذكر المؤرّخون: أنّ الإمام الحسن عليه السلام بعد أن رأى خيانات جيشه والمحيطين به ونفاقهم, مع أنّه لم يبق له ثمّة أمل في ثباتهم وصمودهم في مواجهة العدو, ومع انكشاف ما تنطوي عليه تلك الضمائر من رغبات, لكنّه عليه السلام ولكي يتمّ الحجة ألقى فيهم الخطاب الآتي: "ويلكم ! والله إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي, وإنّي أظنّ إن وضعتُ يدي في يده فأسلمه لم يتركني أدين بدين جَدّي, وإنّي اَقدِرُ أن أعبدَ الله عزوجلّ وحدي, ولكن كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويطعمونهم بما جعل الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون, فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيديهم, وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون".
ومرّةً اُخرى, وقبل أن يقبل باقتراح معاوية للصلح قام الإمام عليه السلام بإتمام الحجّة, من خلال خطاب يتضمّن استطلاعاً لآراء أصحابه, واستخباراً لنيّاتهم, فقد قال عليه السلام بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: "أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة, ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر, فَشيب السلام بالعداوة, والصبر بالجزع, وكنتم تتوجَّهون معنا ودينُكم أمام دنياكم, وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم, وكنّا لكم وكنتم لنا, وقد صرتم اليوم علينا, ثمّ أصبحتم تصدّون قتيلَين: قتيلاً بصفّين تبكون عليهم, وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم, فأمّا الباكي فخاذل, وأمّا الطالب فثائر".
وبعد ذلك عرض عليهم اقتراح معاوية الصلح, فقال عليه السلام: "وإنّ معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عزٌّ ولا نَصَفَةٌ, فإن أردتم الحياة قبلناه منه, وأغضضنا على القذى, وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله, وحاكمناه إلى الله ؟". وأضاف الراوي:"فنادى القوم بأجمعهم: بل البقيةُ والحياة"1.
القبول بالصلح:
لم يبق أمام الإمام الحسن عليه السلام سبيلٌ غير القبول بالصلح, وترك أمر الحكم لمعاوية فترةً من الزمن, ويتبيّن من خلال التمعّن في بنود معاهدة الصلح أنّ الإمام عليه السلام لم يقدّم أيّ امتياز لمعاوية, وأنّه عليه السلام لم يعترف به رسمياً باعتباره خليفةً وحاكماً للمسلمين, بل إنّما اعتبر الحكم القيادة حقّه الشرعي, مثبتاً بطلان ادعاءات معاوية بهذا الصدد.
بنود معاهدة الصلح:
لم تذكر المصادر التأريخية نصّاً صريحاً لكتاب الصلح, الذي يعتبر الوثيقة التأريخية لنهاية مرحلة من أهم مراحل التأريخ الإسلامي, وبخاصة في عصوره الاُوَل, ولا نعرف سبباً وجيهاً لهذا الإهمال.
وقد اشتملت المصادر المختلفة على ذكر بعض النصوص مع إهمال البعض الآخر, ويمكن أن تؤلف من مجموعها صورة الشروط التي أخذها الإمام عليه السلام على معاوية في الصلح, وقد نسّقها بعض الباحثين وأوردها على صورة مواد خمس, ونحن نوردها هنا كما جاءت, ونهمل ذكر المصادر التي ذكرها في الهامش اعتماداً عليه.
وهي كما يلي:
1- تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وبسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وبسيرة الخلفاء الصالحين.
2- أن يكون الأمر للحسن من بعده, فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين, وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد.
3- أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة, وأن لا يذكر عليّاً إلاّ بخير.
4- استثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمسة آلاف ألف, فلا يشمله تسليم الأمر, وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسن ألفي ألف درهم, وأن يُفضّل بني هاشم في العطاء والصِلات على بني عبد شمس, وأن يفرِّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل, وأولاد من قتل معه بصفّين ألف ألف درهم, وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجر.
5- على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم, وأن يؤمن الأسود والأحمر, وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم, وأن لا يتبع أحداً بما مضى, ولا يأخذ أهل العراق بإحنة.
وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا, وأن لا ينال أحداً من شيعة عليّ بمكروه, وأنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم, وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء, ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه, وعلى ما أصاب أصحاب عليّ حيث كانوا. وعلى أن لا يبغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة, سرّاً ولا جهراً, ولا يخيف أحداً منهم في اُفق من الآفاق. وقد اعتبر بعض الباحثين المادة الرابعة من موضوعات الاُمويين أو العباسيين لتشويه صورة أهل البيت عليهم السلام وبخاصة الإمام الحسن عليه السلام, باعتبار أنّ هذه المادة لا تتناسب وشأن الإمام الحسن عليه السلام ومقامه. والله أعلم. هذه إذن هي المواد الخمس التي أوصلها لنا التاريخ كاُسس للصلح بين الحسن ومعاوية, أو على الأقلّ أنّها تمثل طبيعة الشروط التي أملاها الإمام عليه السلام على معاوية.
أسباب الصلح كما تُصَورّها النصوص عن الإمام الحسن عليه السلام:
1- روى الشيخ الصدوق في"علل الشرايع"بسنده عن أبي سعيد عقيصا الذي سأل الإمام الحسن عليه السلام عن السبب الذي دفعه إلى الصلح مع معاوية من أنّه عليه السلام يعلم أنّه على الحقّ وأنّ معاوية ضالّ وظالم, فأجابه الإمام عليه السلام:"يا أبا سعيد, ألستُ حجّة الله تعالى ذكره على خلقه, وإماماً عليهم بعد أبي عليه السلام ؟ قلتُ: بلى، قال: ألستُ الذي قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ؟ قلتُ: بلى, قال: فأنا إذن إمام لو قمتُ, وأنا إمام إذا قعدتُ, يا أبا سعيد عِلّةُ مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله صلى الله عليه وآله لبني ضُمْرة وبني أشجع, ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية, اُولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل, يا أبا سعيد إذا كنتُ إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يُسَفَّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة, وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته مُلتبساً, ألا ترى الخضر عليه السلام لمَّا خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى عليه السلام فعله؟ لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي. هكذا أنا، سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه, ولو لا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحدٌ إلاّ قُتِل"2. ونقل الطبرسي في"الاحتجاج" 3شبيه هذا السبب عن الإمام الحسن عليه السلام.
2- ذكر زيد بن وهب الجهني أنّه بعد أن جُرح الإمام عليه السلام في المدائن, سألته عن موقفه الذي سيتّخذه في هذه الظروف, فأجاب عليه السلام: "أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء, يزعمون أنّهم لي شيعة, ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي, وأخذوا مالي, والله لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمَن به في أهلي خيرٌ من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي, والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني اليه سِلْماً, فو الله لإن اُسالمه وأنا عزيز خيرٌ من أن يقتلني وأنا أسيره أو يَمُنّ عليّ فتكون سُبّةً على بني هاشم إلى آخر الدّهر, ومعاوية لا يزال يَمُنُّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميت..."4.
3- وذكر سليم بن قيس الهلالي أنه عندما جاء معاوية إلى الكوفة, صعد الإمام الحسن عليه السلام المنبر بحضوره, وبعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه, قال:"أيّها الناس إنّ معاوية زعم أنّي رأيته للخلافة أهلاً, ولم أر نفسي لها أهلاً, وكذب معاوية, أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيّ الله، فاُقسم بالله لو أنّ الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قَطْرَها, والأرضُ بركتها, ولما طمعتَ فيها يا معاوية, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما ولّت اُ مّة أمرها رجلاً قطّ وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرُهم يذهب سِفالاً, حتى يرجعوا إلى ملّة عبدةِ العجل..."5.
4- وعن سبب الصلح روى العلاّمة القندوزي في"ينابيع المودة"أنّ الإمام الحسن عليه السلام ألقى في الناس خطاباً جاء فيه:"أيّها الناس قد علمتم أنّ الله- جلّ ذكره وعزّ اسمه- هداكم بجدَّي وأنقذكم من الضلالة, وخلّصكم من الجهالة, وأعزّكم به بعد الذلّة, وكثّركم به بعد القلّة, وأنّ معاوية نازعني حقّاً هو لي دونه, فنظرت لصلاح الاُ مّة وقطع الفتنة، وقد كنتم بايعتموني على أن تُسالموا من سالمني وتحاربوا مَن حاربني, فرأيتُ أن اُسالم معاوية وأضعَ الحرب بيني وبينه, وقد صالحته ورأيتُ أنّ حقن الدماء خيرٌ من سفكها, ولم أرد بذلك إلاّ صلاحكم وبقاءكم (وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين"6.
زبدة المخض:
إذن تتلخّص أسباب الصلح فيما يلي:
1- ضعف أنصار الإمام وتخاذلهم وعدم انصياعهم لأوامره بعد تأثير دسائس معاوية فيهم، وبهذا سوف لا تجدي المقاومة بل سوف تتحتّم الانتكاسة للخط الرسالي أمام مكر معاوية, وعلى الإمام أن يحافظ على بقاء هذا الخط وتناميه في مجتمع يسوده مكر معاوية وخدائعه.
2- ويترتّب على انتكاسة جيش الإمام الحسن عليه السلام استشهاده مع الخلَّص من أهل بيته وأصحابه أو أسرهم وبقاؤهم أحياءً في سجن معاوية أو إطلاق سراحهم مع بقائهم في موقع الضعف بعد الامتنان عليهم بالحرّية، وكل هذه النتائج غير محمودة. فإنّ الاستشهاد إذا لم يترتّب عليه أثر مشروع عاجل أو آجل فلا مبرّر له، ولا سيما إذا اقترن بتصفية الخط الإمامي وإبادته الشاملة.
3- صيانة الثلّة المؤمنة بحقّانية أهل البيت عليهم السلام وحفظهم من التصفية والإبادة الاُموية الشاملة بعد إحراز بقاء الحقد الاُموي لبني هاشم ومن يحذو حذوهم، كما أثبتته حوادث التاريخ الإسلامي الدامي.
4- حقن دماء المسلمين حيث لا تجدي الحرب مع الفئة الباغية.
5- كشف واقع المخطّط الاُموي الجاهلي وتحصين الاُ مّة الإسلامية ضدّه بعد أن مهّدت الخلافة لسيطرة صبيان بني اُمية على زمام قيادة الاُ مّة المسلمة والتلاعب بمصير الكيان الإسلامي ومصادرة الثورة النبويّة المباركة.
6- ضرورة تهيئة الظروف الملائمة لمقارعة الكفر والنفاق المستتر من موقع القوّة.
لقد خفيت الأسباب الحقيقية التي كانت تكمن وراء الموقف الإلهي الذي اتّخذّه الإمام المعصوم على كثير من الناس المعاصرين للحدث وعلى بعض اللاحقين من أصحاب الرؤى السطحية أو المُضَلَّلين الذين وقعوا تحت تأثير التزييف للحقائق، لكن الأحداث التي أعقبت الصلح والسياسات العدوانية التي انتهجها معاوية وبقية الحكام الاُمويين والتي ألحقت أضراراً جسيمة بالإسلام والمسلمين كشفت عن بعض أسرار موقف الإمام الحسن عليه السلام7.
1- بحار الأنوار: 44 / 21.
2- علل الشرايع: 200.
3- بحار الأنوار: 44 / 19.
4- الاحتجاج للطبرسي: 148.
5- بحار الأنوار: 44 / 22.
6- ينابيع المودة: 293.
7- راجع: صلح الحسن للشيخ راضي آل ياسين: 371- 372.