يتم التحميل...

علاقة علم الأخلاق بغيره من العلوم

الأخلاق في القرآن

الفلسفة في معناها ومفهومها الكلي، تعني: معرفة العالم بما لدى الإنسان من قدرة، وبهذا المعنى يمكن أن تدخل جميع العلوم تحت هذا المفهوم الكلّي، بحيث نرى في الأعصار السّابقة والقديمة، عندما كانت العلوم محصورةً ومعدودةً كانت الفلسفة تلقي الضوء عليها جميعاً، والفيلسوف كان له الباع الطويل في جميع...

عدد الزوار: 345

علاقة الأخلاق بالفلسفة
الفلسفة في معناها ومفهومها الكلي، تعني: معرفة العالم بما لدى الإنسان من قدرة، وبهذا المعنى يمكن أن تدخل جميع العلوم تحت هذا المفهوم الكلّي، بحيث نرى في الأعصار السّابقة والقديمة، عندما كانت العلوم محصورةً ومعدودةً كانت الفلسفة تلقي الضوء عليها جميعاً، والفيلسوف كان له الباع الطويل في جميع العلوم، وفي ذلك الوقت قسّمت الفلسفة إلى قسمين:

أـ الاُمور التي لا دخل للإنسان فيها، والتي تستوعب جميع العالم، عدا أفعال الإنسان.
ب ـ الاُمور التي تنضوي تحت إختيار الإنسان وله دخل فيها، يعني أفعال الإنسان.

فالقسم الأول يسمّى بالحكمة النظريّة، وتقسم إلى ثلاثة أقسام:

1-
الفلسفة الاولى والحكمة الالهيّة: وهي التي تتناول الأحكام الكلية للوجود والمبدأ والمعاد.
2- الطّبيعيات: وفيها أقسام مختلفة.
3- الرّياضيات: وهي أيضاً لها فروع متعددة.

وأما التي تتعلق بأفعال الإنسان، فتسمى بالحكمة العمليّة، وهي بدورها تنقسم إلى ثلاثة أقسام

1- الأخلاق والأفعال: التي تكون سبباً في سعادة وضلال الإنسان، وتكون جذورها ومصدرها النفس الإنسانيّة.
2- تدبير المنزل: وكل ما يتعلق بالعائلة.
3- سياسة وتدبير المدن: والتي تتناول طرق إدارة المجتمعات البشرية.

وهكذا فقد أفردوا للأخلاق حقلها الخاص بها، في مقابل (تدبير البيت)و(سياسة المدن). وعليه يمكن القول بأنّ علم الأخلاق هو فرع من: "الفلسفة العملية" و"الحكمة العمليّة".

ولكنّ تعدد العلوم في عصرنا الحاضر دعى للفصل بينها، وغالباً ما تأتي الفلسفة والحكمة، والفلسفة بمعنى الحكمة النظريّة من نوعها الأوّل، وهي الاُمور التي تتعلق بالعالم والكون وكذلك المبدأ والمعاد.

ويوجد اختلاف بين الفلاسفة، في أيّهما أفضل: الحكمة النظريّة أم الحكمة العمليّة، فقسم إدّعى الأفضلية للاُولى، وقسم آخر إدّعى الأفضلية لِلثانية، وعند التّدقيق في مدّعاهم نرى، أنّ الإثنين على حق وهذا ليس بحثنا الآن.


علاقة الأخلاق بالعِرفان

أمّا بالنسبة لعلاقة (الأخلاق) بـ (العرفان) و(السير والسلوك إلى الله) فيمكن القول أنّ العرفان أكثر ما ينظر للمعارف الإلهيّة، ولكن ليس عن طريق العلم والإستدلال، بل عن طريق الشّهود الباطني، بمعنى أنّ قلب الإنسان يجب أن يكون كالمرآة الصافية، لدرجة يستطيع فيها أن يرى الحقيقة لتزول عنه الحُجب، وليرى بقلبه الذّات الإلهيّة وأسمائه وصفاته، ومنها يصل إلى العشق الإلهي الحق.

وبما أنّ علم الأخلاق، له اليد الطُولى في المساعدة على دفع ورفع الرذائل، والتي هي بمثابة الحُجب على القلوب، فمن البديهي أن تكون الأخلاق من اُسس ومقدمات العرفان الإلهي.

وأما "السّير والسّلوك إلى الله"، والذي يكون هدفه النّهائي هو معرفة الله والقرب منه، فهو في الحقيقة مجموعة من "العرفان" و"الأخلاق"، فما كان من "السّير والسّلوك الباطني"، فهو نوع من "العرفان"، الذي يوصل الإنسان يوماً بعد يوم للذات الإلهيّة، ويرفع عن قلبه الحجب والأدران، ويمهد الطّريق إليه وما كان من "السّير والسّلوك الخارجي": فهو نفس الأخلاق التي تهدف لتهذيب النفوس، وليس فقط لأجل الحياة الماديّة المرفّهة.

علاقة العلم بالأخلاق

بالنّسبة للآيات السّابقة وكما ذكرنا أنّ القرآن الكريم، أتى بـ: "تعليم الكتاب والحكمة" إلى جانب: "التزكية والتّهذيب الأخلاقي"، فتارةً يقدِّم "التّزكية" على "التّعليم"، واُخرىُ يقدِّم "التعليم" على التزكية، وهو أمر يُبيّن مدى العلاقة الوثيقة التي تربط بين الإثنين.

وهذا يعني أنّ الإنسان، عندما ينفتح على المعرفة، وتكون لديه خبرةٌ بالأعمال الحسنة والسيئة، ويعرف عواقب "الفضيلة" و"الرذيلة"، فممّا لا شك فيه أنّها ستؤثر في تربيته، بحيث يمكن القول أنّ كثيراً من الرذائل ناتجة من عدم الإطّلاع والفهم. ومن ذلك يمكن القول أنَّه إذا ما إستطعنا أن ننهض بالمستوى العلمي للأفراد، وبعبارة اُخرى: إذا أمكننا نشر الثقافة بين الناس، فستحل الفضائل مكان الرّذائل، وإن كان هذا الأمر ليس كليّاً.

ومع الأسف الشديد، نرى أنّ البعض بالغوا فيها لدرجة الإفراط والتّفريط.

فبعض إتّبعوا الحكيم سُقراط اليوناني، حيث كان يعتقد بأنّ العلم والحكمة هي منشأ الأخلاق الحميدة، والرّذائل الأخلاقيّة منشؤها الجهل، ولذلك فإنّه كان يعتقد أيضاً أنّه ولأجل محاربة الفساد والرّذائل الأخلاقية وإحلال الفضائل الأخلاقية محلّها، يجب العمل على رفع المستوى العلمي للمجتمع، وبالتّالي تتساوى (الفضيلة) مع (المعرفة).

هؤلاء يدّعون أنّه لا يوجد إنسان يتجه نحو الرّذيلة وهو على علم بها، وإذا ما شخّصَ الإنسان الفضيلة فسوف لن يتركها، ولذلك يتوجّب علينا كسب العلم، ومعرفة الخير وتمييزه من الشر لنا ولغيرنا، كي تزرع في نفوسنا بذور الفضائل الأخلاقية!.

وفي المقابل يوجد من ينفي هذهِ العلاقة بين الإثنين بالكامل، لأنّ العلم والذكاء للإنسان المجرم سيكون عاملا مساعداً له في إرتكاب جرائم أخطر، وعلى حدّ تعبير المثل الذي يقول: (إذا كان مع اللص مصباحاً فانه سوف ينتقي البضائع الجيدة).

ولكن الحق والإنصاف أنّه ليس بإمكاننا نفي تأثير العلم بالكامل، ولا نفي معلولية احداهما للآخر.

والشّاهد على ذلك المُثل الحيّة التي نراها في المجتمع، فكثيراً ما شاهدنا اُناساً كانوا يفعلون الرذائل، وعندما أدركوا قبح فعالهم ونتائجها السيئة، أقلعوا عنها وإتجهوا نحو الفضائل، ووجدنا هذا الأمر حتى في وقتنا الحاضر هذا.

وفي المقابل نعرف أشخاصاً عندهم المعرفة التامة بالخير والشرّ، ولكنهم يُصرّون على الشرّ وهو متأصل في نفوسهم.

وكلّ ذلك لأنّ الإنسان لديه بُعدان: بعد العلم والادراك وبُعد عملي، وهو الميول والغرائز والشّهوات، ولأجل ذلك فساعةً يميل الى هذا، وساعةً يُرجحُ ذلك.

والذي يقول بأحد القولين، فانه يفترض أنّ الإنسان فيه بُعدٌ واحد لا أكثر، ويغفل عن وجود البعد الآخر.

ونشير هنا إلى الآيات القرآنية التي وردت في هذا الباب، والتي أكدت على التّأثير المتبادل بين عُنصر الجهل وسوء العمل، قال تعالى: ﴿أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءً بِجَهالَة ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَاِنَّهُ غَفُورٌ رَحيمً(الأنعام:54).

ويوجد شبيه لهذا المعنى في (النساء:17)، و(النحل:119).

ومن البديهي أنّ الجهل المذكور ليس هو الجهل المطلق الذي لا يوائم التوبة، بل هو مرتبةٌ من مراتب الجهل، فإذا إرتفع فسوف يهتدي الإنسان بعدها للطّريق القويم.

انّ الجهل هو السبب لكثير من الضلالات، فهو الجهل سبب للكفر وإشاعة الفساد والتعصب والعناد والتقليد الأعمى والفُرقة وسوء الظّن والجسارة وقلّة الأدب، وفي واحدة يمكن القول، أنّ الجهل عامل لإفساد كثير من القِيم1.

ومن جهة اُخرى تُصرِّح الآيات الشريفة بوجود حالة العناد في الإنسان، مع علمه بأنّه يتحرك في طريق الظّلم والطغيان، مثل آل فرعون، حيث يتحدث عنهم القرآن الكريم: ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً(النّمل:14).

وكذلك ما ورد بالنسبة إلى بعض أهل الكتاب، كما قال الباري تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونً(آل عمران:75).

وورد هذا المعنى في ما بعدها من الآيات2.

وقد يكون المراد من الآية هو موضوع الكَذب، ولكنّه أيضاً يؤيّد مدّعانا، لأنّ قبح الكذب حكم به العقل والشّرع، وهو من الاُمور الواضحة التي لا تخفى على أحد.

فالحقائق والتجارب أثبتت، أنّ المعرفة والعلم بنتائج الأخلاق الرذيلة على الفرد والمجتمع، يمكنه أن يكون في كثير من الموارد، عاملا مهماً في ردع الإنسان عن غيّه والرّجوع إلى ساحة الصّواب، ولكن ومن جهة اُخرى، أيضاً نجد أنّ هناك من يعرف الرّذيلة حقَّ معرفته ولكنه يُصرّ عليها ويعاند على سلوك طريق الإنحراف، والطريقة الوسطى في الحقيقة هي الجادّة وتنطبق على الواقع أكثر.

*الأخلاق في القرآن،آية الله مكارم الشيرازي،مدرسة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام-قم،ط2،ج1،ص16-20


1- نفحات القرآن، الدّورة الاولى، ج 1 ص 86 ـ 98.
2- آل عمران:78.

2009-07-29