يتم التحميل...

دعائم الأخلاق

مقدمات في الأخلاق

إذا شبّهنا الأخلاق بشجرة باسقة مثمرة، معرضة للآفات والأخطارِ، فدعامتها الأخلاقيّة يمكن أن نُشبّهها بالفلاّح، والماء الذي يجري من تحتها، ولولا الماء والفلاّح ليَبِست تلك الشّجرة، ولأصيبت بأنواع الآفات والأمراض، حتى تموت ويغدوثمرها قليلاً...

عدد الزوار: 76

إذا شبّهنا الأخلاق بشجرة باسقة مثمرة، معرضة للآفات والأخطارِ، فدعامتها الأخلاقيّة يمكن أن نُشبّهها بالفلاّح، والماء الذي يجري من تحتها، ولولا الماء والفلاّح ليَبِست تلك الشّجرة، ولأصيبت بأنواع الآفات والأمراض، حتى تموت ويغدوثمرها قليلاً.

وقد إختلف علماء الأخلاق والفلاسفة، في صياغة الدّعائم الأساسيّة للأخلاق بشكل كبير، فكلُّ مجموعة تذكر آرائها ونظراتها حول المسألة، تبعاً لرأيها ونظرتها في مسألة معرفة العالم. ونشير هنا إلى عدّة نماذج مهمّة:

دَعامة الإنتفاع
يوصي البعض بالأخلاق، لأنّها تعود على الإنسان بالنّفع المادّي المباشر، فمثلا تُراعي إحدى المؤسّسات الإقتصادية، أصل الأمانة والصّدق بشكل دقيق جدّاً، وتعطي المعلومات الواقعيّة لزبائنها بدون أيِّ تلاعب، فمثل هذه المؤسّسة ستكون بعد سنوات، مورد ثقة النّاس ومحل إعتمادهم، مما سيعود عليها بالنّفع الكبير الطّائل.

وبناءً على ذلك، قد يتحرك الأشخاص في سلوكهم الأخلاقي، كلٌّ حسب موقعه. فمثلا عندما يكون موظّفاً في المصرف والبنك، فهو يُراعي منتهى الأمانة والدّقة، لكي يعود على البنك بالنّفع الكبير، ولكن يمكن أن يتحول إلى خائن، بمجرد أن يضع قدمه خارج المصرف، لاّنّ فائدته ستكون في الخيانة حينها.

وقد نرى تاجراً، يحرص أن يكون في منتهى الأدب واللّطف واللّياقة مع زبائنه، لأجل كسب المزيد منهم، ولكنّه مع عائلته وأولاده، يكون في منتهى الفظاظة، لا لشيء إلاّ لأنّ الأخلاق الحسنة مَحلُّها في محلّ عمله، وستعود عليه بالنّفع المادي الأكثر.

فمثل هذه الأخلاق لا دعامة لها، إلاّ النّفع والإستغلال، وأهمّ عيب في المسألة، هو أنّه لا يعير للأخلاق أهميّةً ولا أصالةً، لأنّه يستمر في إستغلاله، سواءً كان عن طريق الأخلاق، أم بعقيدته التي هي ضدّ الأخلاق.

وذهب البعض الآخر إلى صياغة حِكمة معدّلة لهذا النمّط من الأخلاق، ونادوا بالأخلاق لا من أجل المصالح الشّخصيّة، ولكن لتعود على مصلحة البشر جميعاً، لإعتقادهم بأنّ الأسس الأخلاقيّة إذا تزلزلت في المجتمع، فستتحول الحياة إلى جهنّم تحرق كلّ شيء، وستتحول أدوات الإلفة والتعاون في المجتمع، إلى حطب يُبقي النار مشتعلةً، في حركة الواقع الإجتماعي المضطرب.

هذا النّوع من التّفكير يعتبر أرقى من سابقه، ولكنّ الأخلاق هنا مجرد وسيلة لجلب النّفع والرّاحة والرّفاه، ولا أساس للفضائل الأخلاقية فيها.

فالماديّون لا يمكنهم أن يتجنبوا مثل هذا النوع من التّفكير، لأنّهم لا يعتقدون بالوَحي ولا بنُبوّة الأنبياء عليهم السلام، وينزلون بالأخلاق من السّماء إلى الأرض، ويجعلونها مُجرد وسيلة للإنتفاع والرّاحة والإستغلال لا أكثر.

ولا شكَّ ولا ريب، في أنّ الأخلاق لها مثل هذه المعطيات الماديّة الإيجابية، في وعي الناس كما أشرنا سابقاً، ولكن السّؤال هو: هل أنّ أسس ودعائم الأخلاق، تنحصر في هذه المرتكزات الماديّة، وأنّ مثل هذه المرتكزات والمعطيات، يجب أن تُدرس على أساس أنّها من المسائل الجانبيّة، والمتفرّعة على علم الأخلاق؟.

وعلى أيّة حال، فإنّ الإيمان بالأخلاق الّتي يكون أساسها النّفع والإستغلال، يخدش أصالة الأخلاق، ويقلل من قيمتها وقدسيّتها، ومن ناحية اُخرى فإنّ الإنسان في حالة تقاطع مصلحته مع الأخلاق، فإنّه سيضرب بالأخلاق عَرض الحائط، ويتّبع مصلحته الشخصيّة، الّتي إعتبرها دعامته وأساسه، في حركة السّلوك الإجتماعي والأخلاقي.

2- الدّعامة العقليّة
الفلاسفة الّذين يعتقدون بحكومة العقل ولزوم اتّباعِه في كلّ شيء، يعتبرون دعامة الأخلاق هي إدراك العقل: للقبيح والحسن من الأفعال والصّفات الأخلاقيّة، فمثلا يقولون أنّ العقل يُدرك جيّداً أنّ الشّجاعة فضيلةٌ والجبنُ رذيلةٌ، والأمانةُ والصّدقُ فضيلةٌ وكمالٌ، والخيانةُ والكذبُ نقصانٌ، ونفس إدراك العقل لها، هو الباعث والمحرّك لإتّباع الفضائل وترك الرذائل.

وقال البعض الآخر، إن إدراك الوجدان هو الأساس، فيقولون: أنّ الوجدان وهو العقل العملي، أهمّ شيء في الإنسان، لأنّ العقل النّظري يمكن أن يُخطيء، ولكن الوجدان والضّمير ليس كذلك، وبإمكانه أن يقود البشريّة إلى ساحل الأمن والسّعادة.

وعليه، وبما أنّ الوجدان يقول: إنّ الأمانة والصّدق والإيثار، والسّخاء، والشّجاعة هي اُمور حسنةٌ وجيّدةٌ، فهو بمفرده يكون دافعاً ومُحرّكاً، نحونيل تلك الأهداف والفضائل. وكذلك بالنّسبة للبُخل، والأنانيّة وأمثالها، فإنّ الوجدان يقول أنّها قبيحة، وذلك يكفي في الإرتداع عنها وتركها.

وهنا تتحد الدّعامة العقلية والوجدانيّة، فهما تعبيران مختلفان لحقيقة واحدة.

ولا شكّ أنّ وجود هذا الأساس والدّعامة للأخلاق، لا يخلومن حقيقة، وهو في حدّ ذاته دافعٌ حسنٌ للسّعي إلى تربية النّفوس، وترشيد الفضائل الأخلاقية، في واقع الإنسان والمجتمع. ولكن الوجدان يمكن أن يُخدع، هذا من جهة، ومن جهة اُخرى: انّ الوجدان وبالتّكرار لفعل القبائح والرّذائل، فإنّه سيأنس بها. ويتعوّد عليها، بل قد يفقد الحسّاسيّة بالكامل تجّاه هذه الاُمور، ويتحرك في إدراكه لها، من موقع التأييد للرذائل على حساب إهتزاز الفضائل.

ومن جهة ثالثة، إنّ الوجدان والعقل العملي، رغم أهميّته وقداسته، فإنّه كالعقل النّظري قابل للخطأ، ولا يمكن الإعتماد عليه وحده، بل يحتاج إلى أُسس ودعامات أقوى، يُطمأن إليها في تشخيص الحُسن والقُبح، بحيث لا يمكن خداعها ولا تخطئتها، ولا تتأثر بالتّكرار، ولا تتغيّر وتتحول.

وخلاصة الأمر: أنّ الوجدان الأخلاقي، والعقل الفِطري والعقل العملي، وأىّ تعبير آخر يُعبّر عنه، هو أساسٌ ودعامةٌ جيَّدة، ولا بأس بها لنيل الفضائل الأخلاقيّة، ولكن وكما أشرنا آنفاً، تعوزه بعض الأمور، ولا يُكتفى به وحده.

3- دعامة الشخصيّة
يتحلّى البعض بالقيم الأخلاقيّة، لأنّها دليلٌ وعلامةٌ للشخصيّةِ والرجولةِ والمروءة، وكلّ إنسان عند ما يرى، أنّ شخصيّته بين النّاس متوقفةٌ على الصّدق والأمانة، فسيتحرك على مستوى التّحلي بها ومُراعاتها، وكذلك عندما يرى، أنّ الناس يحترمون الشّجاع والوفي والرّحيم، فسيكون طالب الشخصية والإحترام، أوّل المطبّقين لها على نفسه، حتى يمدحهُ الناس.

والعكس صحيح، فإنّه عندما يرى أنّ الناس لا يحترمون الجبان، ولا البخيل، ولا الخائن، ولا ضعيف الإرادة، ولا قيمة لهم في نظر المجتمع، فسوف يسعى لهجر هذه الرذائل، وتطهير نفسه منها.

وعليه يَتحصَّل لدينا: دعامةٌ وأساسٌ آخر للمسائل الأخلاقيّة.

ولكن وبالتّدقيق والتحقيق، نرى أنّ هذا الأساس والدّعامة، يعود إلى مسألة الوجدان، غاية الأمر، أنّ المطروح هنا هو وجدان المجتمع، لا الوجدان الفردي، يعني أنّ ما يوافق الوجدان العام للمجتمع، فهو فضيلةٌ وعلامةٌ للشخصيّة، ومن الأخلاق الفاضلة وعكسه يدخل في الرذائل، وما يُقرّه الرأي العام للمجتمع، يكون هو الدّافع للفضائل والرّادع عن الرّذائل. ونحن لا ننكر أنّ الوجدان العمومي للمجتمع، يمكن أن يشخّص القِيَم من اللاّقيم، ويحثّ الأفراد للإهتمام بالمسائل الأخلاقيّة في خطّ التّربية والتّكامل.

ولكن ما ذكر من نواقص وإشكالات، حول الوجدان الفردي، هو نفسه يصدق على وجدان المجتمع.

فيمكن للمجتمع أن يُخطأ، وإذا ما وقع هذا الأساس للأخلاق، تحت طائلة الدعاية والإعلام القوي من قبل الحكومات، فبالإمكان أن ينقلب رأساً على عقب، وتكون الفضائل رذائل في منظومة القيم والمثل الأخلاقية، كما حدّثنا التّأريخ عن نماذج كثيرة من هذا القبيل، ففي عصر الجاهليّة مثلا كان يُعتبر وَأْد البنات من المكرمات، عند شريحة كبيرة من المجتمع آنذاك، ويُعتبر فضيلةً أخلاقيةً، (وذلك للمفهوم السّائد في ذلك الوقت، من أنّه الطّريق للنّجاة من العار والشّنار، والحيلولة دون وقوع النّساء في الأسر في الحروب).

يقول الشّاعر الجاهلي

الموتُ أخفى سِترةً للبناتِ *** ودفنها يُردى من المكرماتِ
ألم تر أنّ الله عزّ اسمه *** قد وضع النعشَ بجنب البنات

وكما تلاحظون أنّ هذا الشاعر الجاهلي، يعتبر تلك الجناية الكبرى مكرمْة وإفتخاراً.

ونرى في عصرنا الحاضر، وفي المجتمعات البشريّة المتقدّمة والمتطوّرة، أنّ المتموّلين ولأجل الوصول لأهدافهم غير المشروعة، وبالدعاية يخدعون الوجدان العمومي للمجتمع، ويقلبون القيم الأخلاقيّة الإيجابية، إلى مُضادّاتها في دائرة السّلوك الأخلاقي.

بالإضافة إلى أنّ الوجدان والضّمير في الإنسان، هو من بَوارِق الرّحمة الإلهيّة، ونموذج لمحكمة العدل الإلهي العظيمة، عند الإنسان في هذا العالم، ولكن ومع ذلك، فالضّمير ليس بمعصوم عن الخطأ، ويمكن أن ينحرف، وإذا لم يتّخذ الإنسان تدابير لازمة لإصلاحه وتزكيته، فلعلّه يبقى على خطئه لسنين طويلة.

4-
الدّعامة الإلهيّة
من المعلوم أنّ ما ذكر من الدّعامات والأسس، لا يخلومن واقعيّة على مستوى دفع الإنسان نحوالفضائل الأخلاقيّة، ولكن وكما أشرنا إليه سابقاً أنّها لا تخلوولا تسلم من الخطأ والإنحراف، مثل دعامة الإنتفاع والإستغلال التي تأخذ طريقها في أىّ وقت وزمان، فتارةً تسير مع الأخلاق واُخرى تُعارضها.

والبعض الآخر من الدّعامات له قدرةٌ محدودةٌ في تحريك الإنسان، ومشوبةٌ بالنّقص والقصور ولربّما أخطأت واشتبهت.

والدّافع الوحيد الخالي عن الخطأ والإشتباه، والعاري من كلّ نقص في دائرة المسائل الأخلاقيّة، هو الدّافع الإلهي الذي يكون مصدره الله تعالى، والوحي، في إطار التّعاليم الدينيّة.

وهنا لا تعتبر الفضائل الأخلاقيّة وسيلةً للإنتفاع والإستغلال، ولا هي وسيلةٌ للرفاه الإجتماعي، (وإن كانت الأخلاق قطعاً، وسيلةً للرّفاه والعمران والهدوء، وتؤمّن المنافع الماديّة أيضاً).

فالأصالة هنا للدوافع الروحيّة والمعنويّة، وبعبارة اُخرى، أنّ الذّات الإلهيّة المنزّهة، والّتي هي الكمال المطلق، ومُطلق الكمال، وجميع صفاته الجماليّة والجلاليّة، تكون هي المحور الأصلي للمسألة، وكلّ إنسان يسعى في المُضي قُدماً، للوصول إلى الكمال المطلق، ويتحرّك في حياته المعنوية، من موقع تفعيل نور أسماء الصّفات الإلهيّة في نفسه، ليشبهه ويتقرب إليه أكثر وأكثر يوماً، بعد يوم (وإن كانت ذاته المقدّسة منزهّةً عن الشبيه الحقيقي)، ويصل إلى الكمال المطلق، فلا حدّ للكمال هناك، وبذلك يعيش بكلّ وجوده، حالة الإستغراق من الحبّ لله تعالى، والكمال المطلق، وتُنير وجوده وباطنه، أنوارُ وصفاتُ الذّات المقدّسة، بحيث يطلب الكمال والرّقي، في الدّرجات العليا في كلّ لحظة، فلا يتقيّد بالمنافع الماديّة، ولا يطلب الأخلاق للشخصيّة والإحترام، ولا يكون هدفه الضّمير وحده، بل لديه هدفٌ أسمى وأعلى من كلّ تلك الاُمور.

فلا يأخذ معلوماته من العقل والوجدان فقط، بل يستعين بالوَحي أيضاً، ليميّز في ظلّه القيم الحقيقيّة من الكاذبة، وليمشي بخطى ثابتة مع إيمان ويقين كاملين في هذا الطريق، والقرآن الكريم، هو خير دليل في هذا المضمار، ويُصرّح القرآن الكريم، بأنّ الأعمال الأخلاقيّة هي وليدة الإيمان بالله واليوم الآخر، ودائماً ما يردف: (العمل الصالح) بالإيمان، وعرّف العمل الصالح، بالّثمرة لشجرة الإيمان.

ومثّل الإيمان، بالشّجرة الطيّبة، وجذورها ثابتة في روح وأعماق الإنسان، وفروعها وأوراقها وارفة، تؤتي بثمارها كلّ حين، وأشار إشارة جميلةً فقال الله تعالى: ﴿ألَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللهُ مَثلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أصَلُها ثَابِتٌ وَفَرعُها فِي السَّماءِ تُؤتِي اُكُلَها كُلَّ حِين بِإذنِ رَبِّها(ابراهيم:24-25).

ومن البديهي، أنّ الشجرة التي تمدّ جذورها في أعماق القلوب، وتتفرع أغصانها من جميع أعضاء الإنسان، وترتفع في سماء حياته، هي شجرةٌ وارفةٌ لا يؤثّر فيها جفاف الخريف، ولا تقلعها العواصف أبداً2.

وجاء أيضاً في سورة "والعصر"، نفس هذا المعنى ولكن بتعبير آخر، فالقاعدة الكلّية هو الخسران والتّضييع للإنسان، والمستثنون من ذلك هم المؤمنون، في أوّل الأمر، ثم الّذين يعملون الصّالحات ويتواصون بالحقّ والصّبر: ﴿وَالعَصرِ إنّ الإنسانَ لَفِي خُسر إلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوا بِالحَقِّ وَتَواصَوا بِالصَّبِرِ.

وجاء نفسُ هذا المعنى وبتعبير جميل آخر، في الآية (21) من سورة النور، فيقول الله تعالى: ﴿وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحْمَتُهُ ما زَكّى مِنْكُم مِنْ أحَد أبَداً وَلَكنّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ..

وعليه، فإنّ سمُوّ الأخلاق والعمل والتّزكية الكاملة لا تتمّ، إلاّ بالإيمان بالله ورحمته الواسعة.

وجاء نفس هذا المعنى في سورة (الأعلى) فيقول الله تعالى: ﴿قَدْ أَفلَحَ مَن تَزَكّى * وَذَكَرَ إسمَ رَبّهِ فَصَلّى﴾(الأعلى:14-15).

فطبقاً لهذه الآيات، فإنّ التّزكية الأخلاقيّة والعمليّة، لها علاقةٌ وثيقةٌ بإسم الله تعالى والصّلاة والدّعاء، هذا إذا ما إستمدّت أسسها منه سُبحانه وتعالى، وحينها ستكون عميقةً ودائمةً، وإذا ما إعتمدت على أسس اُخرى، فستكون واهيةً وعديمة المحتوى.

في الآية (93) من سورة المائدة، جاء وصف جميل، للعلاقة الوثيقة بين التّقوى والأعمال الأخلاقيّة بالإيمان: فقال الله تعالى: ﴿لَيسَ عَلى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِي ما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتّقَوا وَآمَنُوا ثُمَّ اتّقَوا وَأحسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الُمحسِنِينَ.

في هذه الآية الشّريفة، تقدّمت التّقوى مرّة على الإيمان والعمل الصّالح، وتأخرت اُخرى، وتقدمت مرّةً على الإحسان، لأنّ التّقوى الأخلاقيّة والعمليّة تتقدم على الإيمان في مرحلة ما، وهي التّحضير لقبول الحقّ والإحساس بالمسؤوليّة للبحث عنه.

ثم إنّ الإنسان عندما يعرف الحقّ ويؤمن به، فستتكون في نفسه مرحلةٌ أعلى وأقوى من التّقوى، وتكون مصدراً لأنواع الخيرات.

وبهذا التّرتيب، تتبيّن العلاقة الوثيقة بين الإيمان والتّقوى.

وخلاصة القول: إنّ أقوى وأفضل الدّعائم للأخلاق، هو الإيمان بالله، والإحساس بالمسؤوليّة تّجاهه، ومثل هذا الإيمان هو أبعد مدىً وأرحب اُفقاً من المسائل المادّية، ولا يبدّل ولا يعوّض بشيء، فهو يرافق الإنسان في كلّ مكان ولا ينفصل عنه أبداً، ولا يوجد شيء أفضلُ منه.

ولذلك فإنّنا نرى، أنّ أقوى مظاهر الأخلاق، كالإيثار والتّضحية تتجسّد في حياة أولياء الله تعالى.

ونرى أيضاً، في المجتمعات الماديّة التي توزِن كلّ شيء بمعيار النّفع، أنّ الأخلاق فيها ضعيفةٌ جدّاً، وفي الأغلب أنّ المعترف به رسميّاً عند الجميع، هو النّفع الشّخصي المادّي، فالصّدق والأمانة والوفاء وما شابه ذلك، هي أخلاق حسنةٌ وسلوكيّات جيدةٌ، ما دامت تعود بالنّفع على الفرد، وعند تعرّض النّفع المادي للخطر، فستفقد لونها وقيمتها!!.

فالأبوان العجوزان، ولعدم نفعهما، فمصيرهما أن يعيشا في زاوية النسيان، ويتمّ نقلهما إلى مراكز ودور العجزة، لينتظرا أجلهما المحتوم.

وبمجرّد أنّ يبلغ الأطفال مرحلة الرّشد والمراهقة، فإنّ مصيرهم الانفصال عن اُسرهم، لا لكي يستقلّوا إقتصاديّاً، بل لكي يُنسوا إلى الأبد.


وكذلك الأزواج، فهم شركاء في الحياة مادام في الحياة الزوجية نفعٌ ولذّة، وإلاّ فلا حاجة إلى العلاقة الزّوجيّة ولا ضرورة للإلتزام بتبعاتها، ولذلك فإننا نرى أنّ الطّلاق هناك كأيسر ما يكون، وشايع إلى درجة خطيرة، ففي المذاهب الماديّة التي لا تقوم على أساس إلهي في دائرة الأخلاق، يكون الإستشهاد لديهم لنيل المقاصد السّامية، هو الإنتحار بعينه، والكرم الذي يؤدي إلى تبذير الأموال، ليس هو إلاّ نوعٌ من الجنون، والعّفة والإستقامة على طريق الفضيلة، ليست هي إلاّ ضَعفٌ في النّفس، والزُّهد بالعالم المادي، ليس هو إلاّ سذاجةً وجهلا بالحياة.

وما نراه اليوم من التنافس المحموم على الماديات، ومراكز القدرة في هذه المجتمعات، ورؤساء تلك الدول، هو أفضل وخير نموذج يعبّر عمّا لديهم من معايير للأخلاق الماديّة.

والشّاهد على ذلك، ما يصدر من الإنتهازيّة والتّعامل المزدوج للقوى الإستعماريّة تجاه (حقوق الإنسان)، فعندما تكون حقوق الإنسان، سبباً لتعرّض منافعهم للخطر، فسوف يتجاهلونها ويجعلونها وراء ظهورهم، ويذبحون القيم الإنسانيّة على مذبح المصالح الماديّة.

فأخطر المجرمين والمعتدين على حقوق الإنسان، يصبحون مسالمين ومصلحين، وبالعكس فإنّ الشخص الذي يريد أن يدافع عن حقّه في مقابلهم، يكون هو الشّيطان بعينه، ويجب أن يُقمع بأيّ وسيلة كانت.

فنراهم يدافعون عن الديمقراطيّة وحكومة الشّعب، دفاعاً مُستميتاً، وفي نفس الوقت نراهم وفي زاوية أخرى من العالم، يدافعون عن أسوَأ وأظلم المستبدّين الديكتاتورييّن لا لشيء، الاّ لأن الأخلاق عندهم ليست هي: إلاّ النّفع في بُعده المادي والشّخصي. والإنسان المادي لا يمتلك صورةً واضحةً عن الأخلاق في دائرة التّعامل مع الآخرين، بل مفاهيم ضبابيّةً وصورةً قاتمةً.

والملاحظة الاُخرى الّتي تجدر الإشارة إليها، أنّ المادييّن لا يرون في سلوكهم الأخلاقي، غير زمانهم ومكانهم الّذي هم فيه الآن، ولا أهميّة عندهم لما فَعل الماضون، ولا ما سيفعله اللاّحقون، إلاّ أن يكون له علاقةٌ بحاضرهم، ومنطقهم يتمثّل به قول الشّاعر، حيث يقول:

إن أنا مِتُّ فلا *** طلعت شمس الضّحى على أحدِ

ولكن الموحّدين المعتقدين بالحياة الآخرة، ومحكمة العدل الإلهي في يوم القيامة، يعتقدون أنّ معطيات الأخلاق وبركاتها المعنوية، جارية حتى بعد الممات، ولو إمتدّت لاِلاف السّنين، وسيثاب الإنسان عليها في الاُخرى، ولذلك لا يتعاملون مع الواقع الدنيوي، من موقع الزّمان الحاضر فقط، بل من موقع التّفكير في الغد البعيد والحياة الخالدة.

وقد جاء في الحديث المعروف عن الرسول الكريم صلى الله عليه واله وسلم، أنّه قال:

"إذا مات المؤمن إنقطع عمله إلاّ من ثلاث، صدقة جارية أي الوقف وعلم يُنتفع به وولد صالح يدعوله"3.

فالإيمان بالآخرة دافعٌ وحافزٌ آخر، للحثّ على الأعمال، الأخلاقية المهمة، مثل الصّدقة الجارية والآثار العلميّة المفيدة وتربية الأولاد الصّالحين، والحال أنّ لا مفهوم لهذه الاُمور لدى المادييّن.

وقد قسّم المرحوم الشّهيد (مُطهّري)، في كتاب "فلسفة الأخلاق"، الأنانيّة إلى ثلاثة أقسام: (للنّفس، وللعائلة، وللقوميّة)، وعدّها كلّها من الأنانيّة، التي تقف في الطّرف المقابل للأخلاق، ونقل كلاماً عن "كوستاف لوبون"، في كتابه المعروف (حضارة الإسلام والعرب)، ورأينا أن ننقله هنا إكمالا للفائدة.

فقد ذكر هذا الكاتب الغربي، في معرض حديثه عن الشّعوب الشرقيّة، وأنّهم لماذا وقفوا من الحضارة الغربيّة موقفاً سلبيّاً؟ فعللّ ذلك بالقول:

أولا: لعدم القابليّة لديهم لإستقبال هذه الثّقافة، وثانياً: إنّ حياتهم ومعيشتهم تختلف عن حياتنا ومعيشتنا، فحياتهم بسيطةُ وساذجةٌ، بخلاف ما نحن عليه من التّعقيد الحضاري في واقع الحياة، ثم يردف قائلا: ولا يخفى مدى الظّلم الذي إرتكبته الشّعوب الغربّية في حقهم. (وهو عامل مهم آخر.

وبعدها أشار إلى الظّلم الذي إرتكبه الغربيّون، في أمريكا والهند والصّين، وخصوصاً كان يؤكد على قصّة الحرب المعروفة، بـ: (حرب التّرياك)، التي شنّها الإنجليز على شعب الصيّن، لأجل السّيطرة عليهم، فنشروا إستعمال التّرياك بين الشعب، لأجل التّسلط عليهم، وليميتوا فيهم روح المقاومة، ويكسروا شوكتهم، ولكنّ الصّينيين توجهّوا للخدعة، وتحرّكوا للتّصدي للإنجليز، الذين صوّبوا مدافعهم، وإنتصروا عليهم بقوّة السّلاح الفتّاك، وإنتشر بين الأهالي إستعمال التّرياك، بحيث جاءت الإحصائيات: (في ذلك الزمان)، أنه في كل سنة يموت حوالي الـ (600) ألف نفر، جرّاء إستعمالهم للتّرياك4.

نعم فعندما لا تقوم الأخلاق على قاعدة متماسكة، من الإيمان والقيم المعنويّة في واقع الإنسان، فسوف تأخذ بالذّبول والتّراجع، لصالح المنافع الشّخصيّة والنّوازع الدنيويّة العاجلة.

ملاحظة
ما ذكرناه آنفاً حول دعامة الأخلاق، من وجهة نظر الإيمان بالمبدأ والمعاد، لا يعني إنكار الدّور الفعّال، لـ: "العقل الفطري" في تعميق المسائل الأخلاقيّة، فالضّمير والوجدان في الحقيقة، هو رسول الله في أعماق البشر، ومن جهة اُخرى له الأثر الكبير في تحكيم المباني الأخلاقيّة، بشرط أن يصاحبها عنصر الإيمان، وتتخلص من حجب الأنانيّة وهوى النّفس.

وأكّد القرآن الكريم، على هذه المسألة مرّات عديدة، ففي الآية (100) من سورة "يونس"، يقول الله تعالى: ﴿وَيَجعَلُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعقِلُونَ.

وفي الآية (22) من سورة "الأنفال"، نقرأ: ﴿إنّ شرّ الدَّوابِ عِندَ اللهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لا يَعقِلُونَ.

ويقول الله سبحانه، عن الّذين يستهزئون بالصّلاة: في سورة (المائدة) الآية (58): ﴿اتّخذوها هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأنّهُم قَومٌ لا يَعقِلُونَ.

وهكذا يتبيّن من خلال ما ذُكر آنفاً، خلاصة رؤية القرآن المجيد للمسائل الأخلاقية.

*الأخلاق في القرآن،آية الله مكارم الشيرازي،مدرسة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام-قم،ط2،ج1،ص63-74


1- الرّجاء الرجوع إلى، كتاب قادة عظماء، ص: (63-106).
2- إختلف المفسّرون في ما هو المقصود من الشّجرة الطيّبة؟، وهل يوجد مثل هذا التشبيه في الخارج أم لا؟. وهنا كلام كثير، فالبعض قال: أنّ الشجرة الطيّبة هي كلمة لا إله إلاّ الله، وبعض قال: أنّها أوامر الباري تعالى، وآخَرون قالوا أنّها الإيمان، وفي الواقع أنّ هذه كلّها تعود إلى حقيقة واحدة، وإختلفوا أيضاً في هل أنّ هذه الشجرِة لها واقع خارجي، وأنّ أصلها ثابت في الأرض وأوراقها وفروعها في السّماء ومثمرة في كلّ وقت وحِين، حقيقةً، ولا؟.ولكن يجب أن لا ننسى أنّ كلّ تشبيه لا يتوجب أن يكون له وجود خارجي، فعندما نقول: أنّ القرآن الكريم كشمس لا غروب لها، وبالطّبع فلا وجود للشّمس التي لا غروب لها، والقصد من ذلك هو التّشبيه بالشمس لا أكثر، حيث يمكن أن تختلف خصائص هذه الشمس في الخارج.
3- بحار الأنوار، ج2،ص42.
4- فلسفة الأخلاق، ص283 بتضرّف.

2009-07-29