يتم التحميل...

علاقة الأخلاق والتغذية

مقدمات في الأخلاق

ربّما سيتعجب البعض من هذا العنوان، وما هي علاقة الأخلاق والروحيّات والملكات النّفسية بالغذاء، فالأولى للرّوح والثّانية للجسم، ولكن بالنّظر للعلاقة الوثيقة، بين الجسم والروح في حركة الحياة والواقع، فلن يبقى مجالاً للتعجب، فكثيراً ما تسبّب الأزمات الرّوحية في الإصابة بأمراض جسديّة...

عدد الزوار: 508

ربّما سيتعجب البعض من هذا العنوان، وما هي علاقة الأخلاق والروحيّات والملكات النّفسية بالغذاء، فالأولى للرّوح والثّانية للجسم، ولكن بالنّظر للعلاقة الوثيقة، بين الجسم والروح في حركة الحياة والواقع، فلن يبقى مجالاً للتعجب، فكثيراً ما تسبّب الأزمات الرّوحية في الإصابة بأمراض جسديّة، تضعف جسم الإنسان وتشل عناصر القوّة فيه، فيبيض الشّعر، وتظلم العين، وتخور القوى عند الإنسان والعكس صحيح أيضاً، فإنّ الفرح وحالات الرّاحة التي يمرّ بها الإنسان، تنمي جسمه وتقوّي فكره، وقديماً توجّه العلماء لتأثير الغذاء على روحيّة الإنسان وسلوكه المعنوي، وتغلغَلت هذه المسألة في ثقافات الناس، على مستوى الموروث الفكري والوعي الاجتماعي، فمثلاً شِرب الدّم يبعث على قساوة القلب، والعقيدة السّائدة هي أنّ العقل السّليم في الجسم السّليم.

ولدينا آياتٌ وروايات تشير إلى هذا المعنى، ومنها الآية (41) من سورة المائدة، فقد أشارت إلى فئة من اليهود الذين مارسوا أنواعاً كثيرةً من الجرائم بحقّ الإسلام والمسلمين من قبيل التّجسس وتحريف الحقائق الواردة في الكتب السّماويّة، فقال الباري تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ.

ويعقّب مباشرةً قائلاً: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْت.

وهذا التعبير يبيّن أنّ عدم طهارة قلوبهم، إنّما كان نتيجة لأعمالهم، الّتي منها تكذيب الرّسول والآيات الإلهيّة، وأكلهم للحرام بصورة دائمة، ومن البعيد في خطّ البّلاغة والفصاحة، أن يأتي بأوصاف لا علاقة لها بجملة: ﴿لَمْ يُرِدْ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم.

ومنها يعلم أنّ أكل السّحت يسوّد القلب ويُميته، ويكون سبباً لنفوذ عناصر الرّذيلة، والزيغ، والإبتعاد عن الخير والفضائل.

وفي الآية (91) من سورة المائدة، ورد الحديث عن شرب الخمر ولعب القمار، فقال عزّ من قائل: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ.

ولا شك فإنّ العداوة والبغضاء، هي من الحالات الباطنيّة، التي ترتبط برابطة وثيقة مع شرب الخمر ولعب القمار، كما ورد في الآية الشريفة، وهودليل على أنّ أكل السّحت والشّراب الحرام يساعد على بروز الرذائل الأخلاقية، وتكريس حالات العداء والخصومة بين الأفراد، في خط الشيطان.

ونقرأ في الآية (51) من سورة المؤمنون، قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً.

ويعتقد بعض المفسّرين أنّ تقارن ذكر هذين الأمرين: وهما "أكل الطّيبات والعمل الصالح"، هوخير دليل على وثاقة العلاقة بينهما، وهي إشارةٌ إلى أنّ إختلاف وتنوّع الأكلات والأطعمة، له معطيات أخلاقية مختلفة ومتنوّعة أيضاً، فأكل الطيّبات، يطيّب الرّوح ويصلح العمل، وبالعكس فإنّ الأكل الحرام يُظلم الرّوح، ويخبّث العمل1.

وقد أشار في تفسير: "الإثني عشري"، في ذيل هذه الآية، إلى علاقة نورانيّة القلب وصفائه، والأعمال الصّالحة بأكل الحلال2.

علاقة التّغذية بالأخلاق في الرّوايات الإسلاميّة

هذه العلاقة لم ترد في الآيات القرآنية بصورة واضحة، ولا يوجد لها سوى إشاراتٌ خفيفةٌ، ولكن هذا الأمر: "علاقة التّغذية بالأخلاق"، له صدى واسع في الرّوايات، ونورد منها:

1- نقرأ في الرّوايات الواردة، أنّ من شروط إستجابة الدّعاء هوالإمتناع عن أكل الحرام، حيث جاء شخص إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وقال له:

اُحِبُّ أنْ يُستَجاب دُعائِي، فقال له رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: "طَهِّرْ مَأَكَلَكَ وَلا تُدْخِلْ بَطْنَكَ الحَرامَ"3.

وجاء في حديث آخر عنه صلى الله عليه واله وسلم، أنّه قال: "مَنْ أَحَبَّ أنْ يُستَجابَ دُعاءهُ فَليُطَيِّبْ مَطْعَمَهُ وَمَكْسَبَهُ"4.

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: "انَّ اللهَ لا يَسْتَجِيبُ دُعاءً بِظَهْرِ قَلب قاس"5.

ويستنتج من ذلك، أنّ الأكل الحرام يُقسّي القلب، ولأجله لا يستجاب دعاء آكلي الحرام، وتتوضح العلاقة الوثيقةبين خبث الباطن وأكل الحرام، في ما ورد عن الإمام الحسين عليه السلام، في حديثه المعروف في يوم عاشوراء، ذلك الحديث المليء بالمعاني البليغة، أمام اُولئك القوم المعاندين للحقّ من أهل الكوفة، فعندما آيس من تحولهم إلى دائرة الحقّ والإيمان، واستيقن أنّهم لن يستجيبوا له في خط الرسالة قال لهم: إنّكم لا تسمعون إلى الحق لأنّه قد: "مُلِئَتْ بُطُونُكُم مِنَ الحَرامِ فَطبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِكُم"6.

2- ويبيّن حديث آخر، علاقة الأكل الحرام بعدم قبول الصّلاة والصّيام والعبادة، ومنها ما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم: "مَنْ أَكَلَ لُقْمَةَ حَرام لَنْ تُقْبَلَ لَهُ صلاةُ أَربَعِينَ لَيلَةً، وَلَمْ تُسْتَجَبْ لَهُ دَعوَةٌ أَربَعِينَ صَباحاً، وَكُلُّ لَحْم ُينبِِتُهُ الحَرامُ فَالنَّارُ أَولَى بِهِ، وَإنَّ اللُّقْمَةَ الواحِدَةَ تُنْبِتُ اللَّحْمَ"7.

ومن الطبيعي فإنّ قبول الصّلاة له شروطٌ عديدةٌ، ومنها: حضور القلب وطهارته من الدّرن والغفلة، والحرام يسلب منه تلك الطّهارة والصّفاء، ويخرجه من أجواء النّور والإيمان.

3- نقل عن الرسول الأكرام صلى الله عليه واله وسلم، والأئمّة عليهم السلام، أنّ: "مَنْ تَرَكَ اللَّحْمَ أَربَعِينَ صَباحاً ساءَ خُلُقُهُ"8.

وهذا الحديث يبيّن نصيحة طِبيّةً مهمّةً، وهي أنّ الإنسان إذا ترك أكل اللّحم، لمدّة طويلة، فسيورثه سوء الخلق والإنقباض في النّفس، في دائرة التّفاعل مع الآخرين، وورد في مقابله العكس أيضاً، وهوذمّ الإفراط في تناول اللّحم والإكثار منه، فإنّ من شأنه أن يورثه نفس الأعراض والأمراض الخُلقية.

4- وقد ورد في كتاب: "الأطعمة والأشربة"، روايات ذكرت العلاقة بين الأطعمة والأخلاق الحسنة والسيئة ومنها:

ما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "عَلَيكُم بِالزَّيتِ فإنّهُ يَكْشِفُ المُرَّةَ... وَيُحْسِّنُ الخُلُقَ"9.

5- في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يَقِلَّ غَيْظُهُ فَلْيَأكُلْ لَحمَ الدُّراجِ"10.

وهذا الحديث يبيّن بصورة جيدة علاقة الغذاء بالغضب والصّبر.

6- في رواية مفصّلة وردت في تفسير العياشي، نقلها عن الإمام الصّادق عليه السلام، حيث سئل عن علّة تحريم الدم، فقال عليه السلام: "وَأَمَّا الدَّمُ فَإَنَّهُ يُورِثُ الكَلَبَ وَقَسْوَةَ القَلبِ وَقِلَّةَ الرَّأفَةِ وَالرَّحمَةِ ولا يُؤمنُ أَنْ يَقْتُلَ وَلَدَهُ وَوالِدَهُ".

وفي القسم الآخر من نفس الرواية، قال عليه السلام: "وَأَمَّا الخَمْرُ فإنَّه حَرَّمَها لِفِعْلِها وَفَسادِها وَ قَالَ إِنَّ مُدْمِنَ الخَمْرِ كَعابِدِ الوَثَنِ، وَيُورِثُ إِرتِعاشَاً وَيُذْهِبَ بِنُورِهِ وَيَهْدِمَ مُرُوَّتَهُ"11.

7- ونقل في الكافي روايات متعددة، عن العنب وعلاقته بإزالة الغم، ومنها ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: "شَكى نَبِيٌّ مِنَ الأنبِياءِ إِلى اللهِ عَزَّوَجَلَّ الغَمَّ فَأَمَرَهُ اللهُ عَزَّوَجَلَّ بِأَكْلِ العِنَبِ"12.

فنلاحظ تأكيداً أشدّ على علاقة التغذية بالمسائل الأخلاقية، التي تعكس الحالة النفسية للفرد.

8- الأحاديث التي وردت في أكل الرمان كثيرة، وأنّها تنوّر القلب وتدفع وساوس الشيطان، فجاء عن الإمام الصّادق عليه السلام: "مَنْ أَكَلَ رُمّانَةً عَلَى الرِّيقِ أَنارَتْ قَلْبَهُ أَربَعِينَ يَوماً"13.

9- وَردت روايات متعددة في باب "الأكل"، نرى فيها العلاقة المطّردة بين التغذية والمسائل الأخلاقيّة، في دائرة الصّفات والحالات النفسية، ومنها الحديث الوارد عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم، في وصيته لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: "يا جَعْفِرُ كُلِ السَّفَرجَلَ فَإِنّهُ يُقَوي القَلْبَ وَيُشْجِّعُ الجَبَانَ"14.

10- ونقل عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، حديث يروي علاقة فضول الطعام بقساوة القلب، فنقل عنه صلى الله عليه واله وسلم في كتاب "أعلام الدّين": "إِيَّاكُم وَفُضُولَ المَطْعَمِ فَإِنّهُ يَسِمُ القَلْبَ بِالقَسوَةِ وَيُبْطِيء بِالجَوارحِ عَنِ الطّاعَةِ وَيَصُمُّ الهِمَمَ عَنْ سِماعِ المَوعِظَةِ".

"فضول الطعام": يمكن أن تكون إشارةً لإدخال الطعام على الطعام، والأكل الزّائد عن الحاجة، وأنّها تدل على تناول الطّعام المتبقي من الوجبات السّابقة، أي بقايا الطعام الفاسد، وعلى أيّة حال، فإنّ الحديث يدل على علاقة التّغذية بالمسائل الأخلاقية، التي تُؤطّر سلوك الإنسان في حركة الحياة.

وورد هذا المعنى أيضاً في بحار الأنوار الذي نقل الحديث عن رواة أهل السنة، ونقلوه أيضاً عن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم15.

ويستفاد من هذا الحديث ثلاثة اُمور
1- إنّ الأكل الزائد يُقسّي القلب.

2- ويقعد الإنسان عن العبادة في دائرة الكسل والإسترخاء.

3- يُصمّ آذانه في مقابل الوعظ، فلا تؤثر فيه النّصيحة والموعظة في خطّ التربية، وهذا الأمر ملموس فعلاً، فإنّ الإنسان يثقل عند الأكل الكثير، ولا يكاد أن يؤدّي عبادته من موقع الشّوق والرّغبة، ولا يبقى لديه نشاط في خطّ العِبادة، وبالعكس في حالة ما إذا تناول طَعاماً خفيفاً، فسيكون دائماً على نشاط في حركة الإيمان، ويؤدّي عباداته ووظائفه في وقتها المعين لها.

وكذلك بالنّسبة للصّيام، فهويرقّق القلب ويهيىء الإنسان لقبول المواعظ، وبالعكس عندما يكون الإنسان مليء البطن، فإنّه لا يكاد يفكر في شيء من عوالم الغيب، ولا يعيش في أجواء المَلكوت.

11- وقد بيّنت الأحاديث الشريفة أيضاً، علاقة العسل بصفاء القلب، فنقل عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال: "العَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ داء وَلا داءَ فِيهِ يُقِلُّ البَلْغِمَ وَيُجَلِّي القَلْبَ"16.

النّتيجة

تبيّن ممّا ذكر آنفاً، العلاقة الوثيقة بين الغذاء والروحيّات والأخلاق، ونحن لا ندّعي أبداً أنّ الأكل والغذاء هوالعلّة التّامة لبلورة الأخلاق، ولكنّه يمثل عاملاً مُساعداً في ذلك، بحلاله وحَرامه، وأنواعه.

ويقول علماء العصر الحاضر، أنّ السّلوكيات الأخلاقية عند الإنسان، تنطلق من خلال ترشّح بعض الهرمونات من الغدد الموجودة في جسم الإنسان، والغُدد بدورها، تتأثر مباشرةً بما يأكله الإنسان، وعلى هذا الأساس، فإنّ لحومَ، الحيوانات تحمل نفس الصّفات النفسيّة الموجودة في الحيوان، فالضّواري تفعّل فِعْلَ عناصر التّوحش في الإنسان، والخنزير يذهب بالغيرة عند الإنسان، وهكذا فإنّ لحم أيّ حيوان، يخلف بصماته على روح آكله مباشرةً، وينقل إليه صفاته.

هذا من الناحية الماديّة الطبيعيّة، وأمّا من الناحيّة المعنويّة، فإنّ أكل الحرام يُظلم الروح والقلب، ويُضعف الفضائل الأخلاقيّة كما تقدم.

وأخيراً نختم هذا البحث، بنقل قصّة تاريخية نقلها المسعودي في مروجه، فقال: نقل عن الفضل بن الرّبيع أنّ "شريك بن عبدالله"، دخل يوماً على "المهدي"، الخليفة العبّاسي في وقتها فقال له المهدي العباسي: "أي شريك"، أعرض عليك ثلاثة اُمور، عليك أن تختار إحداها، فقال ما هي؟، فقال له: إمّا أن تقبل منصب القضاء، وأن تعلّم إبني، وتأكل معنا على مائدتنا، ففكّر شريك قليلاً، وقال إنّ الأخيرة أسهلها، فحجزه المهدي، وقال لطبّاخه، حضّر له أنواعاً من أطباق أمخاخ الحيوانات، المخلوطة بالسّكر والعسل.

فعندما أكلَ شريك من ذلك الطعام اللّذيذ، "وطبعاً الحرام"، قال الطبّاخ للمهدي، إنّ هذا الشّيخ لن يُفلح أبداً بعد هذا الطّعام، فقال الرّبيع: وفعلاً قد صدقت نبوءة الطبّاخ، فإنّ شريك بعدها قبل منصب القضاء، وعلّم أبناء المهدي أيضاً17.

*الأخلاق في القرآن،آية الله مكارم الشيرازي،مدرسة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام-قم،ط2،ج1،ص179-186


1- يرجى الرجوع إلى تفسير الأمثل، ذيل الآية 51، من سورة المؤمنون.
2- تفسير الإثني عشري، ج9، ص145.
3- بحار الأنوار، ج90، ص373.
4- المصدر السابق، ص372.
5- المصدر السابق، ص305.
6- نقلاً عن كتاب "سخنان علي عليه السلام از مدينة تا كربل"، ص232.
7- سفينة البحار، ج1، مادة الأكل.
8- وسائل الشيعة، ج17، ص25، الباب 12.
9- المصدر السابق، ص12.
10- فروع الكافي، ج6، ص312.
11- تفسير البرهان، ج1، ذيل الآية 3، سورة المائدة ومستدرك الوسائل، ج16، ص163.
12- الكافي، ج6، ص351، ح4.
13- المصدر السابق، ص354، ح11.
14- المصدر السابق، ص357، ص4.
15- بحار الأنوار، ج74، ص182.
16- بحار الأنوار، ج63، ص394.
17- سفينة البحار، مادة "شريك" ومروج الذهب، ج3، ص310.

2009-07-29