الإعتقاد بالجَبر وبالمسائل اللأخلاقيّة
مقدمات في الأخلاق
لا شك أنّه يوجد إرتباطٌ وعلاقةٌ وثيقةٌ، بين الإعتقاد بحريّة الإرادة للإنسان، و"المسائل الأخلاقيّة"،فنفي حريّة الإنسان، هو نفيٌ وتعطيلٌ لجميع المفاهيم الأخلاقيّة. وبناءاً على هذا نجد، أنّ الأديان الإلهيّة المتعهّدة بتربية وتهذيب النفوس والأخلاق، من أقوى المدافعين عن حرّية الإنسان!.
عدد الزوار: 108
لا شك أنّه يوجد إرتباطٌ وعلاقةٌ وثيقةٌ، بين الإعتقاد بحريّة الإرادة للإنسان، و"المسائل الأخلاقيّة"، فنفي حريّة الإنسان، هو نفيٌ وتعطيلٌ لجميع المفاهيم الأخلاقيّة.
وبناءاً على هذا نجد، أنّ الأديان الإلهيّة المتعهّدة بتربية وتهذيب النفوس والأخلاق، من أقوى المدافعين عن حرّية الإنسان!.
وبناءاً على هذا أيضاً، نجد في القرآن الكريم آياتٌ عديدةٌ وكثيرةٌ تبلغ المئات، تثبّت الإختيار وحريّة الإرادة للإنسان، وتنفي الجَبر عنه، وقد ذُكرت في مباحث الجَبر والإختيار1.
فالأمر والنّهي والتّكاليف الاُخرى، والدّعوة إلى الثّواب والعقاب، والحساب والمحاكم والقوانين والعقوبات، كلها اُمور تؤكّد على مسألة الإختيار، وحريّة الإرادة عند الإنسان.
وإذا ما شاهدنا بعض الآيات تُوافق مذهب الجَبر، فهي ناشئةٌ من عدم الإنتباه والتّوجه الصحيح لتفسير تلك الآيات، فتلك الآيات ناظرةٌ إلى نفي التّفويض، ولا تثبت الجبر، والشّاهد عليها هو القرآن الكريم نفسه.
فالإعتقاد بالجَبر، وسلب حريّة الإنسان، يمكن أن يكون عاملاً مهمّاً، لكلّ تحلّل أخلاقي، فالُمجرم ولتبرير أفعاله المشينة يتذرّع بالجَبر، وأنّه لا يستطيع أن يُغيّر مصيره المحتوم عليه، ولذلك يتحرّك في خطّ الإنحراف، وينحدر في مُنزلقات المعاصي أكثر، فالتّاريخ يُحدثنا، عن مجرمين خاضوا غمار الجريمة، استناداً إلى مُبّررات مذهب الجَبر، وكانوا يعذرون أنفسهم، في إرتكابهم لتلك الأعمال والذّنوب، ويقولون:
"إذا كنّا صالحين وطالحين، فليس لنا من الأمر شيء، فالُمبدع الأزلي هوالذي زرع فينا ذلك، وجعل مصيرنا أن نكون من أهل الشّقاء!، فلا المحسنين لهم الحق بالإفتخار بإحسانهم، ولا على المسيئين ملامة".
وبناءاً على ذلك، فقد تحرّك الأنبياء عليهم السلام، قبل كلّ شيء لتوكيد الإرادة الإنسانيّة، وخصوصاً نبيّ الإسلام صلى الله عليه واله وسلم، ولأجل تحكيم الاُسس الأخلاقيّة وتهذيب النّفوس.
وعلى كلّ حال، فبحث الجَبر والإختيار، والمسائل الاُخرى مثل القضاء والقدر، والهداية والضّلالة، والسّعادة والشّقاء، من وجهة نظر القرآن الكريم، هو بحثٌ مستقلٌ وسيعٌ، والهدف هنا هو الإشارة لهذه المسألة، وتأثيرها في المسائل الأخلاقية، وليس الدخول في تفاصيلها فعلاً.
أمّا الذين يتحركون من موقع اللّذة، ويعتبرونها من أهمّ القيم، فهؤلاء لا يعتبرون الأخلاق من المُثل النّبيلة والسّلوكيات الحسنة، لأنّها لا تُوافق اُصولهم، وكما قال "آريس تيب"، الذي وُلد قبل الميلاد: الخير هو اللّذة، ولا شرّ سوى الألم، والهدف النّهائي للإنسان في الحياة: "هو الّتمتع بلذائذ الدنيا، ولا يجب التّفكير بنتائجها الصّالحة والسيئة"2.
هذا وقد غاب عن اُولئك، أنّنا وعلى فرض حصرنا اللذائذ في الماديّات فقط، وتركنا اللّذائذ المعنويّة الّتي هي أعلى وأسمى لذّة للرّوح، فلا يمكن الوصول للذائذ الماديّة إلاّ برعاية الأخلاق، وذلك لأنّ الّتمتع والإلتذاذ بالشّيء، من دون قيد وشرط، يعقبه ألم شديد على مستوى النّفس والبدن، ولأجله يجب أن نصرف النّظرً عن تلك اللذّة التي يعقبها ألم أقوى وأشد.
وهذا الكلام وإن كان قد صدر، ممّن يُعتبرون في عداد الفلاسفة، ولكنّه في الحقيقة يشبه كلام المعتاد على الأفيون، الّذي إذا نصحوه قالوا له: إنّ لذّتك هذه ستسبب لك المتاعب والآلام العظام، فيجيب: إنّ اللّذة الحاضرة هي الأصل، ولا يعلم ماذا سيكون في الغد، ولكن الذي ينتظره في الغد، ليس سوى المرض العصبي، والإرهاق والقلق، وما إلى ذلك من إفرازات الإدمان على تلك المواد المخدّرة، وسيعيش النّدم الشّديد في تلك الحال، ويتأسف على ما إقترفته يداه، ولكن أنىّ للتأسّف أن يحلّ المشكلة، وقد اُغلق عليه سبيل العودة، إلى الحريّة والكرامة كما هو الغالب.
فالوصايا الأخلاقية، للحثّ على العفّة والأمانة والصّدق والرجولة، كلّها من هذا القبيل، والمجتمع الذي تتفشى فيه الخطيئة والخيانة، كيف يعيش أفراده حالة اللّذّة المعنويّة والسّعادة، في حركة الحياة والواقع الإجتماعي؟
فالناس الّذين ملأ البخل وجودهم، ويطلبون كلّ شيء لنفعهم ولذّتهم الشّخصية، لا تكون لديهم حصانةٌ أمام المشكلات، وسيكونون عرضةً للتّمزق والتشرذم، لأدنى أزمة على مستوى الحياة الدنيويّة، لأنّ الفرد في ذلك المجتمع يكون وحيداً فريداً، والصّمود أمام المشكلات، لمن يعيش الوحدة والإنفراد، أمرٌ في غاية الصّعوبة، ولكن إذا تفشّت روح التّعاون والسّخاء والرجولة في المجتمع، فسينطلق الناس من موقع مساعدة بعضهم البعض، وعندما يقع أحد الناس في مأزق، فسيعينه الآخرون، فلا يشعر الفرد بالوحدة هناك، بل سيجد في نفسه عنصر المقاومة والصّمود أمام المشكلات والأزمات.
فالاُصول الأخلاقيّة عند تطبيقها، لها بُعدان وفائدتان: معنويّة وماديّة، ومع غضّ النّظر عن البُعد المعنوي، فالبُعد المادي فيها له شموليّةٌ واسعةٌ، ويستحق معها التمسّك بكلّ الاُصول الأخلاقيّة، كي نعمّر دنيانا ونجعل منها جنّةً مليئةً باللّذة، ونتجنّب النّار المحرقة، المتولدة من الوقوع في وحل المفاسد الأخلاقيّة.
*الأخلاق في القرآن،آية الله مكارم الشيرازي،مدرسة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام-قم،ط2،ج1،ص79-81
1- الرجاء الرجوع إلى التّفسير الأمثل: (الفهرس الموضوعي ص99)، وإلى أنوار الأصول، ج1، بحث الجَبر والإختيار. ولا على المسيئين ملامة!.
2- علم الأخلاق أوالحكمة العمليّة، ص243.